الأربعاء ١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
إلى روح الشاعر الكبير الراحل حكمت العتيلي
بقلم نظام مهداوي

يغيب جسد الشاعر.. وتظل اطلالته تثير الغامض فينا!

الأرض بيضاء، الشجر أبيض، وبعض أغصانه تميل وتكاد أن تقع من ثقل الثلوج المتساقطة، وصقيع في الخارج، ودفء في الداخل... وقلب متثاقل كأنه جمد مشاعره داخل ثلاجة.

صباح عادي.. في غربة عادية.. في شتاء يزيد النفس وحشة..
لا أدري لماذا كلما أطللت من النافذة ووقعت عيني على البياض الذي يفترش الأرض تذكرت أسرة المرضى في المستشفيات وأكفان الموتى؟
ذهبت بعيداً لا أفكر بشيء..

لا ألوي على شيء..
ولا أستجدي ذاكرتي المعطوبة..
أفكر بالفراغ، بالفناء، بلحظة تظن أنها لحظة الحقيقة فتفاجئك بأنها لحظة السكين التي تذبح رقاب أحلامك.

انتبهت إلى التلفاز.. الأخبار ذاتها، يقرأها المذيع الوسيم نفسه.. شاهدت جارتنا تكنس الثلج من أمام بيتها.. تواريت كي لا تشاهدني. دق الهاتف.. برز اسم عيسى بطارسه.. كأنها اللحظة إياها. فجأة شعرت الدماء تضخ كأنها شلال في شريان دمي، وقلبي يتدحرج خارج ثلاجته، مثل جمرة من النار.

سألت دون أن أفكر، وتمنيت أن لا أسمع جوابا:
  كيف حكمت؟
  لن تتعرف عليه.. ما زال في غيبوبته!!

لن أتعرف عليه؟!
..
تشتعل مثل الصاعقة بقلبي كلمات عيسى وهو يصف حالته..
حكمت الشاعر يأكله المرض فوق سرير أبيض وفراش أبيض في مستشفى تابع لإحدى ضواحي (لوس أنجليس).. المسافة بينه وبين (عتيل) ستون عاماً من التغريبة الفلسطينية والجرح النازف والمشرع أمام جحود العالم.
ما زال في القنديل زيت!
اسمعه يرددها في غيبوبته..
ماذا يقول في غيبوبته؟!
يجيب عيسى:
  رأيت جفن عينه اليسرى تتحرك
وأسأله بلهفة دون أن أفكر:
 وهل سألك عني؟ هل حدثك عني؟
ولم ينكر عيسى لهفتي فأجاب:
  رأيته يميل نحوي حين قرأت له ما زال في القنديل زيت.

بماذا يفكر الشاعر في غيبوبته؟
هل يراني الآن لا أفكر فيه، وإذا تذكرته، طردته لئلا أسقط من الحزن!
هل يسافر إلى عتيل.. يراها كما يراني؟!

سبعة أعوام تنطوي بكلمتين أو سطرين في صفحة أيضاً بيضاء..
أتذكر أولها وأنسى آخرها!

أتذكر أول حديث تعثرت فيه بلغتي، فظهرت عصا المدرس الذي كنت أحببته وهربت منه..

أتذكر كل الكلام الذي قلناه وكان يتكسر ونسمع صداه..
كم بكاء.. كم نحيب ورجاء وأغنية سقت الخبيزة، وفاضت جفرا ودلعونا..؟
سبعة أعوام لم تكن مثل كل الأعوام!
كان يحدثني عن قريته عتيل وقريتي شويكه التي لا أعرفها ولا يفصلهما سوى شارع
  وهل هناك شوارع في القرى؟
لا أسمع جوابا.. تكبر عتيل على امتداد الطريق من (كوفينا) حيث يسكن (انعام الجندي) حتى تتاخم بحدودها مرآب السيارات حيث مقر صحيفة الوطن في (أناهايم).

كم كنت أكره تفاؤله وتشاؤمه!
يرى الدولة من شبابيك أوسلو التي تم سلخ جلدها في (كامب ديفيد)... فيبدو متفائلاً: ها هي عتيل على مرمى زفرة هدوء وسلام!

ثم يرى القيد يذوب في جمرة الإنتفاضة التي أمست الضحية الأولى تحت أنقاض البرجين في نيويورك... فيبدو متفائلاً: ها هي عتيل وشويكه على مرمى حجر!

ثم يرى البرجين ينهاران..
لا أزال أذكره وكأن شيئاً تهاوى داخله.. وفي كل حديث أو لقاء يكرر متشائماً:
  أخشى على العراق.. يدي على قلبي.. وقلبي مع العراق.
ويمضي في غيبوبته القصيرة.. كنت دائماً أبحث عن الشيء الذي يفكر فيه حين يصمت ويغيب!

كيف تتوالد الكلمات داخله؟
كيف يغني أشعاره؟
لم يكفني يوماً ما يبوح به من الشعر.. وحاولت أن لا أصدق حدسه، لكن وجدتني أسير خلفه دون أن يدري.. فهو الذي يحمل بوصلة عتيل، وهو الذي أطمعني بـ (شويكه) حتى صدقت أنها على مرمى قصيدة أو قصة قصيرة لا تبوح بشيء... وفي نهاية المطاف دعاني حكمت إلى وليمة بكاء على مخيم جنين.. لكنني هاجرت ثانية قبل أن نبكي سوياً سقوط بغداد.

سبعة أعوام ليست مثل كل الأعوام!!
تحولت لعبتنا الكلام إلى عفريت من نار، يسخر منا، فأنفث غضبي فيه:
  لم تعمر الكلمات التي كتبتها ولم أكتبها بيتاً.. وكأنك أنت الذي لا تريد أن تعترف بأنك كنت ألهمت الكلام طريق العبور إلى الهاوية، وبدل أن يكف المذبحة، استل سيفاً وشارك بها! كأنك بالأمس ألححت: أكتب قصة! ولم يكن بمقدوري هذا العناء الذي تحدثه الأصوات الغائبة الحاضرة بين السطور.. وألححت أكثر: اكتب قصة اذا كنت أنت أنت!

يعود يبرز المعلم من جديد.. أهرب منه كما كنت أفعل صبياً.. لكنني لا أقول له حين أكتب قصة: انني أحبك أيها المعلم.

* * *

بيضاء الدنيا..
اللون الأبيض هو أصل كل الألوان..
هو اصل الفراغ وحقيقة الروح التي أكثر ما تجيد هو أن ترسل أيحاءاتها أو تضلل الدروب.
ما زلت أسمعه يقول:
  أخشى عليك من السجائر.. ولا بأس من النساء اللاتي يرفدن قصصك باحمرار خدود صبية بالأمس فقط لاحظت نهوض نهديها.
ويضحك مثل طائر تدفعه براءته أن يستقر في كف يدك.. أعلم أنه يتندر بانكسارات قلبي مع كل امرأة أحببتها، لكنه الوحيد الذي يخاف علي ويدفعني للكتابة أو الاحتراق.. حتى حين كنت أقرأ له ما ينغص أحلامه.. يناقشني به بعد نشره.. ليعود ذاك الخلاف المستمر.. هل أوسلو خطوة نحو المهلكة أم الدولة؟ والشاعر داخله يحرضه أنه لا بد عائد إلى عتيل يوماً، فهو يعرف بالضبط أين مكان قبره هناك.
لكنه لم يعد إلى عتيل.. أكله المرض وعكة بعد اخرى .. وحط به الرحال من عتيل إلى السلط إلى الضهران مروراً بامتطائه قافلة الزيت حتى هاجر إلى سان دياغو منتهياً فوق سرير أبيض في مستشفى بلوس أنجليس.

أين يهاجر الشاعر في غيبوبته؟؟
هل يسمعني حكمت الآن؟ هل يقرأني ويعري المشاعر التي تختفي خلف حروفي كما كان يفعل؟
لم يخبرنا شاعر الحقيقة بعد غيبوبته..
يغيب جسد الشاعر.. وتظل اطلالته تثير الغامض فينا!

لكن نبوءات الشاعر داخله تتحقق، وكأنه يعرف شيئاً يخفيه مثلما يخفي قصائده ولا يقرأها إلا للمقربين ومثلما هجر الشعر وعاد الشعر إليه، ومثلما فرح للسنوات المتبقية لبلوغ سن تقاعده كي يتفرغ للشعر والأدب..
قبل أن ينهار الجسد شيئا فشيئا..

إذن تباغتك اللحظة إياها وأنت تمد يدك لتقطف صبرك..
وإذن يأتيك الغياب ممزوجا بعبق عتيل ورائحة الدواء، فتأتي قصائدك، تخرج من مخابئها، تطل عليك فوق سريرك الأبيض.. وتبكيك.
إذن كل لحظة منتهية يا صديقي.. وأما ما سقط منا من كلام وأحلام فسنعيد لملمته ونحن على موعد نلهو ونغني في الشارع الذي يفصل عتيل عن شويكه.. في سماء ليست كالتي نعرفها..

وأما غيابك.. فصحراء قاحلة لا ينتهي فراغها ولا الامها!
وقلبي الذي تفتت.. مغمور بالثلج كجثة طازجة تنتظر دفنها..

صباح أبيض.. مثل سريرك... ويوم جداً عادي.. لا أحاول أن أفكر فيه بشيء..
أجرب الغياب.. كي أبحث عنك في غيبوبتك.

واشنطن 15 فبراير 2006


مشاركة منتدى

  • كان حري بكاتبنا أن يسمي مقالته وجدانيات لما تحمله من شفافية وروح سامية هذه الروح المثقلة بالهموم والجراح لماذا كل هذا العذاب ولكن على ما أظن هي نفسيتنا المتعبة التي تجعلنا نرى الأشياء من منظورها وحسب حالتها إن أي مشهد يمكن أن نصوره تبعاً لنفسيتنا إما جميلاً أو حزيناً والكاتب هنا فقد انسان له بقلبه مكانة ومحبة وهموم وآمال وآلام مشتركة اي بينهما ارتباط روحي ولكن لكل شيء نهاية للألم نهاية والفرح نهايةولا أراها سكين كما وصفها الكاتب إنما هي الخلاص من هذه الدنيا بحلوها وبمرها الغالب عليها وتبقى دار النهاية دار النعيم لك ولأمثالك بعد عمر طويل ومسكن شاعرنا حكمت العتيلي رحمه الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى