الأحد ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
محاولة اكتشاف الذات في قصيدة
بقلم ياسر الششتاوي

دون وعي مضى

تلبسه الجن؟
أم زرقة كشّفتْ سرها
أم الغيث من بعد جدبٍ يحط
أم الأبجدية قد غسلته بماء التوحد والإنعتاق؟
هو الآن يشرب
من نهر نور ٍ
ويمسك حبل الضياء الكليم
كأن التي شاغلتْ صمته
من الدفء قدتْ
وألقت به للجنون القويم
كأني به دون قصد مضى
إلى جنةٍ أو جحيم
كأني به
على جسر أحلامه
يكور شمساً بملء يديه
وينأى عن الأرض والعالمين
كأني التي شاغلتْ صمته
تبلل الرؤى فيه باليقين
فيسبح في فيض لألائه
ويفرح بالوجد كالعارفين

شعر: ممدوح المتولي

القصيدة من ديوان (حديث عابر على جرح مقيم)

التحليل والرؤية:

إذا نظرنا إلى عنوان القصيدة (دون وعي مضى) سنجد أنه يوحي بدلالتين أولهما أن الشاعر يمضي بلا هدف معين، أما الدلالة الثانية أن الشاعر مضى دون رغبة منه في المضي، ولكنه لا يملك إلا أن يمضي، ويمكن أن نضيف دلالة ثالثة أن الشاعر تشده قوة سحرية تدفعه إلى أن يمضي بلا وعي، ولا نستطيع أن نجزم بواحدة أو أكثر من الدلالات التي يطرحها النص، وهنا تكمن ماهية النص الذي تسهر في خدمته الدلالات، وعلى كل حال هذا ينم عما يعانيه الشاعر من حيرة وشك وعدم الجزم بأشياء يصبح الجزم بها منافياً لإبداعية الشعر وروحه المنطلقة.

في بداية القصيدة يتحدث الشاعر عن نفسه ولكن بضمير الغائب، وكأن الشاعر يريد أن يبعد عن نفسه كي يراها بوضوح، فإن الأشياء إذا اقتربتْ من العين قرباً شديداً لا نستطيع أن نراها كما ينبغي، فلا بد من مسافة مناسبة بيننا وبين الأشياء، وكذلك لابد من مسافة بيننا وبين النفس كي نرى إلى أين تسير، وهذا ما حققه ضمير الغائب فلم يقل الشاعر في البداية تلبسني الجن بل قال تلبسه الجن، إنه يريد أن يتعرف على نفسه من جديد أو يتعرف على لحظة شعورية تعيشها النفس ربما تختلف عن بقية اللحظات، وفي سبيل هذا التعرف والتشوف فإن الشاعر سيقع في حيرة وشك، وهذا ما سنلاحظه منذ بداية القصيدة فسنجد "أم" تتكرر أكثر من مرة في القصيدة، فالشاعر يقول:

تلبسه الجن؟

أم زرقة كشّفتْ سرها

أم الغيث من بعد جدبٍ يحط

أم الأبجدية قد غسلته بماء التوحد والإنعتاق؟

إن الشاعر يضع نفسه أمام نفسه، هل نفسه تلبسها الجن؟ والجن يرتبط في الذهن بالقدرة الخارقة، وقد يرى بعض الناس الجن خلقاً في مرتبة أقوى من الإنسان، كما ينسبون إليه حكايات فتك كثيرة بالناس، فهل الجن سيفتك بالشاعر خلال تلبسه له ؟ أم سيهبه القدرة الخارقة ؟ وخاصة أن الجن مرتبط بالشعراء منذ الجاهليه، فالشاعر الفحل يوحى له جن ذكر فحل والشاعر الضعيف لا يتصل به الجن، ولا يعطيه شيئاً من معجزات الفصاحة، ثم يقول الشاعر بعد ذلك : أم زرقة كشّفتْ سرها؟

إن "أم" هنا للتخيير مما يبعث الشك في حكاية تلبس الجن للشاعر، وإن كان لا ينفيها، فالشاعر لم يقطع بتلبس الجن له، لأنه وضع أمامنا اختياراً آخر، بل خيارات مما يدل على حيرة الشاعر في توصيف نفسه وحالته، أو الإمساك بملابساتها في لحظة شعورية شديدة التشابك، ولكن هذه الحيرة حيرة خلاقة، لأنها توفر له البدائل، وتضع نفسه أمام العديد من المرايا، فهل الزرقة كشفت سرها للشاعر؟ ولننظر إلى تضعيف الشين في الفعل "كشّفت " مما يوحي بثراء هذا التكشف وامتداده، وانبهار الشاعر بهذا التكشف، ولكن لماذا الزرقة؟ إن اللون الأزرق من الألوان الساخنة أي من الألوان التي توحي بالدفء، كما أن اللون الأزرق لون مسيطر، فاللون الأزرق يحتل السماء بما لها من اتساع، وهذا اللون ينعكس بزرقته على الأمواه التي تحتل ثلثي الكرة الأرضية، إن اللون الأزرق لون مسيطر على الأرض والسماء، فهل هذا اللون الذي يعتبر ملك الألوان، قد تخاطب مع الشاعر؟ وكشف له عن العديد من الأسرار؟ قد يكون، ثم ينتقل الشاعر إلى "أم" أخرى فيقول (أم الغيث من جدب يحط) ونلاحظ هنا كلمة "جدب" هي التي تعطي للغيث أهميته، فالشاعر عاش في انتظار، يراقب الغيث ليعرف أين يحط، لكن الشاعر لم يجزم بهبوط الغيث، ويظل ينتقل من منطقة إلى أخرى، فها هو ينتقل إلى "أم" أخرى قد تكون أكثر ارتباطاً بالشاعر فيقول (أم الأبجدية قد غسلته بماء التوحد والإنعتاق) إن الشاعر يرى في لغته وأبجديته قوة فاعلة فهي قادرة على أن تطهره من الأنانية والعبودية فهي تغلسه بماء التوحد مع الكون، وقد قلنا في بداية هذه الدراسة أن الشاعر يحاول الابتعاد عن نفسه، ليتوحد مع الكون مما يؤدي إلى تبدد الأنانية التي هي مصدر لكل الشرور على الأرض، وهذا ما يحاول الشاعر أن ينعتق منه، إنه يريد أن ينعتق من عالم القبح، وأن يتوحد بعالم الجمال، فإذا نظرنا إلى كلمة " غسلته " والتغسيل غالباً يرتبط بالميت والانتقال من عالم إلى آخر، فسوف نرى أن تغسيل الأبجدية للشاعر أحياء له، وانتقال به من عالم القبح إلى عالم الجمال، ومن العبودية إلى الحرية، فأي هذه الاحتمالات هو ما يسيطرعلى الشاعر؟ هل الجن بما له من قوة أم الزرقة، وما تحتوي من أسرار أم الغيث وما له من أهمية؟ أم الأبجدية وما لها من لامحدودية ؟ الشاعر لم ينحز إلى أي من هذه الاحتمالات، لأن الانحياز إلى شيء واحد يخرج الشاعر من المطلق إلى المحدود مما يؤدي إلى عدم اكتشاف الشاعر لذاته بالصورة المرجوة، ولا يعنى هذا أن هذه الاحتمالات بنفس القوة داخل نفس الشاعر، وقد يكون بعضها قوياًً، وبعضها ضعيفاً، ولكن ربما يتحول الاحتمال الضعيف إلى قوى والعكس صحيح، أوربما تتعايش كل هذه الاحتمالات داخل نفس الشاعر، وتتحرك بطريقتها الخاصة، كما نلاحظ أن الفعل الماضي له السطوة في هذه الاحتمالات (تلبسه ـ كشفت ـ غسلته) مما يدل على شدة تأثير الماضي في حاضر الشاعر، أما الفعل المضارع الذي جاء في الاحتمال الثالث (أم الغيث من جدب يحط) فهو يدل على عدم فقدان الشاعر الأمل في حاضره ومستقبله، وعدم فقدان الأمل في الغيث مهما توحش الجدب، ثم يقول الشاعر:

هو الآن يشرب
من نهر نور
ويمسك حبل الضياء الكليم

إن الشاعر قد ملّ حيرته في توصيف حالته، ولهذا يخاطر، ويلجأ إلى أي شط إلى أن تنجلي الحقيقة، والشاعر في توصيف حالته، يستخدم الفعل المضارع"يشرب" بالإضافة إلى كلمة "الآن" مما يدل على أن هذا التوصيف للحظة الراهنة، وليس للمستقبل فربما تستجد أشياء أخرى في المستقبل تستدعي أفعالاً مغايرة، والشاعر يشرب من نهر نور، وهذا الارتواء يمنح الشاعر القوة، فيمسك حبل الضياء الكليم، والحبل قد يستخدم في ربط الأشياء بعضها ببعض وتماسكها، وقد يكون وسيلة للإنقاذ وخاصة إذا كان حبل من ضياء، والضياء هنا ضياء مرشد لأنه ضياء كليم، فبعد أن تخلص الشاعر من حيرة الماضي إلى حد ما، وركن إلى توصيف حالته في اللحظة الآنية، بأنه يشرب من نهر نورويمسك حبل الضياء الكليم، نجد الماضي يحاول الظهور ثانياً ببعض محايثاته، يقول الشاعر:

كأن التي شاغلت صمته
من الدفء قدتْ
وألقتْ به للجنون القويم

فهذه الدفقات جميع أفعالها ماضية (شاغلت ـ قدت ـ ألقت) كما نلاحظ اتصالها بتأء التأنيث، وهنا يطل وجه المحبوبة في القصيدة، لكنها محبوبة من نوع خاص، إنها من الدفء قدت، فهي ملاذ الشاعر من برد المشاعر الذي يغلف ما حوله، كما أنها ألقت به إلى الجنون القويم، فهي لهذا تستحق أن تشاغل صمته، والجنون القويم هنا هو الجنون الإبداعي الذي يتعرف على المناحي المختلفة والأكوان البعيدة، أويعيد اكتشافها، ويدخل إلى أغوارها دون النظر إلى المخاطر، فكم من أدباء وفنانين وعلماء لطالما اتهموا بالجنون ثم ثبت أن جنونهم أو ما كان يظنه الغير جنوناً كان قمة العقلانية، ووسيلة للوصول إلى شمس الحقيقة، فالجنون الذي تدفع المحبوبة الشاعر نحوه هو الجنون المثمر، ثم يقول الشاعر:

كأني به ـ دون قصد ـ مضى
إلى جنة أو جحيم

قد قلنا أن الشاعر أمام حيرته وشكه في اكتشاف ما بداخله قد ركن إلى توصيف حالته، بأنه يشرب من نهر نور ويمسك حبل الضياء الكليم، ولكن هذا التوصيف كان توصيفاً مؤقتاً، فها هو الشاعر بعد أن ركن إلى شط ـ كما قلنا ـ وارتوى بعض الشيء، يواصل السير من جديد، وتواصل حيرته السير معه أيضاً، ولا يدري ما مصيره ؟ وما الذي يقصده من تلك الرحلة؟ وقد يكون ذلك لكثرة ما يطلبه الشاعر من رحلته، وهذا الذي أوقعه في الشك والحيرة منذ بداية القصيدة، وهذا يعني أن السير مغامرة قد تؤدي بالشاعر إلى الجحيم إذا انتصرت عليه المغامرة، أما إذا انتصر على المغامرة فسيكون مصيره الجنة، والمغامرة هنا تتمثل في رحلته لاكتشاف الذات، ثم يقول الشاعر:

كأني به
على جسر أحلامه
يكور شمساً بملء يديه
وينأى عن الأرض والعالمين

ولنلاحظ استخدام "كأني" التي توحي بالشك أو ببعد ما يتمناه الشاعر أو رغبته في عالم بلا شبيه، يشبهه الشاعر بما يتوفر في عالمه الحالي، لأن الشاعر كي يكتشف ذاته يدخلها في عالم خاص بلا شبيه، عالم له سمات تختلف عن سمات عالمنا، ويصنع في هذا العالم شمسه التي تضئ طريق المعرفة، وفيه يبتعد عن كل ماهو أرضي ليسمو إلى آفاق بعيدة تدفعه إليها أحلامه الكبيرة التي تمثل جسراً بين الواقع والمأمول، ثم يقول الشاعر:

كأن التي شاغلت صمته
تبلل فيه الرؤى باليقين
فيسبح في فيض لألائه
ويفرح بالوجد كالعارفين

إن الشاعر في عالمه الخاص يصطحب معه محبوبته لتكون ملهمته، ونافذته على فيوضات وضاءة، فهي التي تبلل الرؤى باليقين، واليقين أثمن ما يطلبه الشاعر في رحلته التي يتشابك فيها الشك والحيرة، وهذا ما لاحظناه منذ بداية القصيدة، ومن خلال هذه الرؤية الصوفية للمحبوبة لا يهتم الشاعر بعطاءات الحبيبة الجسدية أو المادية، بل بعطاءاتها الروحية والمعنوية التي تمنح الشاعر اليقين، فيسبح في فيوضات لألائه، ويفرح بمعرفة الحقيقة، وما يجده في جعبتها، ويصبح كالعارفين الذين يصلون للحقائق بالمكاشفات القلبية، وليست بالوسائل المحسوسة التي قد تخدعنا أحياناً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى