الأحد ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم مالكة عسال

أنماط الحكي الشعبي وأبعاده

«وشم العشيرة» نموذج للمبدع نور الدين محقق

مقدمة

مهما وصلنا رقيا من الحداثة في الأدب سردا كان أو فنا تشكيليا أو شعرا أو غناء أو نحتا،لابد أن نستنهض تراثنا أحيانا، جراء ما يربطنا به من حبل سري متين،يجعلنا نحفر بفؤوسنا في قنواته،فنتصيد بعض درره النفيسة،والتراث هو الأس المتين لكل بناء أدبي مهما اشتد تطوره...

ومن ضمن الوسائل الجاسرة التي تربطنا بالتراث،وتجعله حاضرا في أذهاننا من جيل لجيل الأمثال الشعبية والفلكلور والسرد القصصي بكافة أجناسه:القصة القصيرة والروايات،والأشعار والأغاني الشعبية، وغيرها من الأشكال التعبيرية...ومن بين هذه الأبواب المتعددة اتخذت مجموعة" وشم العشيرة" مكانها.. وهي نموذج صارخ في متن الحكي الشعبي نظرا لما تنبني عليه من خاصيات الحكي الشعبي كقصص وخطاب..
وقبل أن أتوغل في المتن الحكائي لدى المبدع نور الدين محقق من الداخل،لابد من ملامسة الخارج:أي العتبة النصية..

العتبية النصية

العنوان

العنوان ثنائي مركب من كلمتين:وشم:خبر لمبتدأ محذوف..و" العشيرة " مضاف إليه، جملة تامة المبنى والمعنى،تختزل في قصرها عالما بأسره....والوشم لغة هي مخلفات على الجلد من تطريز وتزويق وزخارف ونقوش تثبت على الأطراف من الجسم بشكل أزلي.. ما تجعله المرأَة على ذراعِها بالإبْرَةِ ثم تَحْشُوه بالنَّؤُور، وهو دُخان الشحم، فيَزْرَقُّ أَثره أو يَخْضَرُّ..والجمع وُشومٌ ووِشامٌ؛ وقد يبقى أثره خالدا لايمحوه الزمن مهما تقدم به العمر إلا بإجراء عملية،وقد تخلف مكانه خدوشا..

" العشيرة " قدما هي القبيلة،أي الأسرة الممتدة بعد الأسرة الصغيرة التي تتكون من الأب والأم والأبناء،أسرة متعددة الأفراد من الأخوال والأعمام..أي مجموعة من البشر، تتكون من عدة بطون أو من عدة عوائل، ينتمون إلى نسب واحد يرجع إلى جد أعلى، وغالبا ما يتكنون بكنية هذا الجد،.

يسكن أفراد العشيرة إقليما مشتركًا، يعدونه وطنًا لهم في نظام اجتماعي مصلحي وظرفي،يقوم على الحماية والتعاون،حيث الفرد يذوب في الجماعة ويقضي وطره في إطار أعرافوتقاليد يحكمها التساوي بين الأفراد،واللفظة اشتقت من كلمة "عاشر" يعاشر والعَشِيرُ المُعَاشِرُ، والعَشِيرُ: القريب والصديق، والجمع عُشَراء، وعَشِيرُ المرأَة: زوجُها لأَنه يُعاشِرها وتُعاشِرُه كالصديق والمُصَادِق.: يتقاسمان معا الهموم والأحزان في السراء والضراء.. وكلمة "عشيرة "تكاد تنقرض اليوم حيث حل محلها الحي في الحاضرة،والدوار في البادية،والدشر في الجبال...ولفظة عاشر عوضت بالعيش والرفقة والصداقة بوفاء وإخلاص وصدق في السلوك والتعامل"...إلخ...

كُتِب العنوان بالأبيض على مساحة من اللون الأزرق الداكن، واللونان معا يرمزان إلى بصيص من النور وسط ظلمة حالكة، وهو انعكاس صريح على ما بالعمق من مطارق تعتمل في عمق الكاتب،نادرا ما تمزق قماشها مسحة من الهدنة والهدوء..

اللوحة

تتكون من عدة عناصر،ـ لو أردنا تحليلها جزءا جزءا، والوقوف على ما ترمز إليه من دلالات عميقة وواسعة، لاتسعنا المساحة لذلك،ولكن سأختزلها في سطور،فاللوحة تتركب من مجموعة من الدوائر والمربعات،وسلم وشظايا للكرة الأرضية، تتعدد ألوانها:بين الأزرق والأبيض والأصفر والبني والبرتقالي،تدل بوضوح على عوالم الكاتب،وألوانه التي اختلطت فيه الفصول،فلم يعد يستطيع فك خيوط فصل الربيع من فصل الصيف،ولا دوائر فصل الشتاء، من أقراط فصل الخريف،وهو تعبير رمزي إيحائي عن اندماج الفرح بالحزن وانحدار الأعلى إلى الأسفل، وتداخل الأشياء لتنهال على رأسه بمتنافراتها وأضدادها...فتاهَ مساره بين الكهوف، ولم يهتد إلى مخرج مسعف إلا عبر هذه الأضمومة القصصية، التي تتضمن 9 نصوص ممتدة على 71 صفحة استهلها كاتبنا ب "طوق الحمامة " وأنهاها ب "السفر الآتي "فمامعنى الحكي الشعبي وماهي بالتالي أنماطه وأبعاده ووظيفته لدى المبدع نور الدين محقق؟؟؟

ماهية الحكي

الحكي منتَج وسيرورة، موضوع وفعل،سرد لحدث حقيقي أو خيالي، يقوم بتقديمه واحد أو أكثر من الرواة، لواحد أو أكثر من المروي لهم، وقد تُقدم هذه المحكيات إما شفاهية أو لفظية /مكتوبة،مثل القصص والروايات.. أو بشكل فني،كالتمثيل أو الإيماء،أو الأغاني الشعبية.. وتتنوع مواضيعه مابين التاريخي، والسير بنوعيها الذاتي والموضوعي، والملاحم والأساطير، والأغاني الشعبية، والقصص الخرافية، والتقارير الإخبارية...وبتصفحنا للمجموعة" وشم العشيرة"نجد أن الكاتب قد ضرب أطناب اغلب الفنون آنفة الذكر:الأسطوري والخرافي والتخييلي والواقعي والعامي،والفصيح، والأغاني الشعبية، والشعر،بلغة متعددة الألوان نوعية فريدة،مستهلا نصوصه بعبارات موحية تقود القارئ مباشرة،إلى فن الحكي... ويتجلى ذلك في كل النصوص..

ـــ حدثني صديقي عبد الفتاح.. ص: 7

ـــ حكى لنا مصطفى كعادته..ص:11

ـــ لم أستطع نسيان قصة صديقي اليوم إن جئت أحكيها لكم.. ص:21

ـــ كان عبد الرحيم معروفا بقدرته على اختراع الحكايات..ص:29

ـــ حدثنا هشام بن عيسى..ص:39

ـــ حدثنا والعهدة عليه قال..ص 47

أكتفي بهذا القدر..

الكاتب يدرك جليا كيف يستثمر اللغة،ويأخذها على محمل من الليونة والبساطة،لبناء الحكي..

اللغة وبناء الحكي

اللغة بسيطة جدا وخالية تماما من الغرائبي والعجائبي المدهش،تعتمد شروحات وتفسيرات مطنبة بشكل تقريري إخباري، سهل القبض على معناه دون عناء يذكر، يتناول في أغلبه موضوعات معاشة لاتخلو من إشارات المكون الحكائي الملتصق بالأوضاع، فصارت نصوصه محكيا واقعيا يختزل هموم المجتمع،وهموم الذات،موحدا بين البنية اللغوية والبنية الحكائية، وتكيف التخييل، فتتلاحم هذه العناصرن وتتكامل في وعي الكاتب بواقعه الاجتماعي.. يبدؤها ببداية وينهيها بنهاية.. وبينهما:يبني أحداثه في شكل فسيفسائي متراص:طوبة طوبة ولبنة لبنة،بمعجم مرتب سلس صاف، يخلو من الفوضى العشوائية، تعانق فيه الكلمة أختها في عشق صوفي ملتحم كمستند أو كرافعة إبداعية أساسية بلغة تثق في نفسها..

يقول من الصفحة 10:"وكنت حين أعود من غرفتي أذهب مسرعا إلى بيتي وأصعد مباشرة، مهما كانت المسافة التي تفصلني عنها لأرى صورتها البهية"

وحتى يخلخل اللغة بما يثيرها ويوهجها أكثر،يطعمها أحيانا بالعامية لكن في نضج مكتمل،وحنكة مقبولة،يستعذبها القارئ وينحني لمتعتها بما له من ذوق.. مثال ذلك الصفحة: 58 "جنس قيمش مايحشم مايريمش"

وليس هذا فحسب فكاتبنا يعدد لبوس اللغة، فيجعلها ترفل ثانية في قماش شعري شفاف، بكل مكوناته الرمزية والتخييلية والإيحائية، بلَعب مراوغ جميل.. مما يبين قدرة الكاتب على إضفاء ماشاء من حلل: تتراوح بين العامية والفصاحة والشعر الحداثي على اللغة،وجعلها تتنوع وتحيا وتبني نفسها بالجديد،ونصوغ كمثال على ذلك جزء من قصيدة رائعة: ص:40

ياحبيبتي
القمر في جبتي أحمر
وأنت في بحر السماء
مثل حمامة زرقاء
إلخ..

أنماط الحكي

على الرغم من استعصاء القبض أحيانا،على خيوط الحكي بين الواقعي والخيالي،نظرا لتشابك خيوطهما وإدغام الأحداث الواقعية والخيالية ببعضها، فإنه في نصوص كاتبنا نور الدين محقق،ممكن الكشف بسهولة الفواصل بين الأحداث الخيالية والواقعية،بل وقد نتنسم ريح السيرة الذاتية أحيانا من خلال نبرة الحكي وما تحمله من من متاع الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأحداث...

النمط الواقعي

بعض النصوص تتضمن عناصر ترمي إلى الحكي الواقعي، تمت صياغتها عبر السرد بمتن فريد،كنتفة مقتبسة من الواقع المعيش،ملتصقة بالحياة اليومية، تتمتع بدرجة من الوضوح،وتستجيب للتحليل والتقاط المعنى، بشكل حسي ناعم الملمس،متجنبا تماما التعقيد وبذل المجهود،والأصباغ المائية الدامعة.. تلتقط التفاصيل لتجربة حقيقية معاشة، يفسر فيها هموم الذات وهموم الإنسان، بإضاءة خافتة لفضاءاتها بأزمنتها وأمكنتها..ليسلط الشعاع الناصع على الشخصيات،موجها العدسة بحذر شديد،إلى تحركاتها بأدق التفاصيل، واصافا بالملموس أحداثا عيشت حقيقية..ونصوغ مثالا لذلك من نص "يوم الامتحان الذي يحكي عن مرارة اجتياز الامتحان، والخوف الذي يعتري الممتَحن يقول:" ورغم أنه قد فعل كل ذلك وأصبح مستعدا لاجتياز هذا الامتحان،تدفعه رغبة قوية في النجاح " إلخ....ص: 13
النمط الخيالي الواقعي

كما للكاتب القدرة على وصف الواقع المعيش،فله نفس القدرة على امتصاص الهموم اليومية والقضايا الإنسانية، في أحداث تُمَفْصِلها مفاجآت مدهشة في خطاب أدبي، أثثه خيال مجنح محمّل بالخرافات والأساطير في مغامرات خيالية، كانت ناجحة بكل المقاييس: يلهمه في ذلك المزج بين الحكايات الخرافية والأحداث الواقعية،بما فيها من إبداعات الخيال،وكيفية التداخل بين النمطين،لخلق نسيج حكائي جميل،له أثره على القارئ بارتباط العنصرين معا في وحدة عضوية ؛ دون أن يصعب التمييز بينهما أحيانا،وعملية إقحام مكونات أسطورية أو خرافية في فن السرد،لم تُغيّب الحياة الواقعية المعيشة، بل على العكس، أكسبتها ثراء،وجعلت عناصرها ومكوناتها تتمتع بدرجة من الوضوح والتحليل، والشخوص علاقة بالتجربة اليومية العادية وغير مثالية...يقول في صفحة 76 من قصة "السفر الآتي ": أقامت عرسا باذخا حضر إليه كل سادات الجن في حين لم يحضر من أهل الشاب الجميل سوى أمه العجوز وبعض الرعاة "
النمط الخرافي

يقحم الكاتب أنواعا من الأساطير والحكايات الخرافية المتداولة،كما نجد في نص "عائشة البحرية " ص:30 حين يقول: امرأة رائعة الجمال لها وجه سماوي يشع نورا إلا أن أقدامها كانت تشبه أقدام الجمال " وهذه الخرافات لايقحمها كاتبنا مجانا بغرض الثرثرة وإملاء الأذهان،بل يثوي بين طياتها قِيَما وعادات لتشخيصها وتفسيرها وكشف أسرارها،من خلال موقف فكري واع،ومايستشعره من إحساس، ويقدمها للقارئ زادا دسما ليكون شريكا له في هَمّه وقصده والغايات الرامي إليها، أو يدغدغ عمقه لتحفيزه على التأمل واستنباط المضمر،والقبض على الجلي بإحكام، ولو بطريقة استقلالية،ورأي آخر وموقف آخر مختلف، لاستنهاض أشياء أخرى قد لاتكون في اعتقاد وظنون الكاتب،دون أن يخرج على حدود السياق...

أبعاد الحكي

ولج كاتبنا صرح الحكي الشعبي عبر عدة جسور:منها الحلم، والتذكر،وحكاية الأصدقاء،ليس من باب التسلية، أو التباهي،وإنما لإبراز عدة أبعاد وظفها سواء بوعي منه أو بغير وعي:

البعد الزمني

فالكاتب ربط الأحداث بعضها ببعض في سلسلة عنق الحكي،الواحد يلتقط الآخر لتشكل حزاما يطرزه معجم بسيط سلس، تتداخل فيها الوقائع ضمن علاقة ربط اللاحقة بالسابقة حسب السياق،تجمع جزئياتها جزيرة واحدة على الطريقة التقليدية،حيث القصة تتشكل عبر ثلاث مراحل:المقدمة،عرض الأحداث في عقدة أساسية تعتبر المركز أو المحور،ثم حل العقدة كخاتمة..

وطبعا هذا النمط الذي تقلده الكاتب اليوم في وسط يعج أدباؤه بالحداثة ويستدعي نقاده معجما جديدا،وسياقا جديدا، ليس غائبا عن كاتبنا،فهو قد نخرَ جذع القص بوصلات شعرية حداثية،كما الشأن في قصة "شجرة الأنفاس "ص: 40 التي وشحّها بأشعار حداثية، تحت عنوان حداثي بامتياز...لكن اعتماد الكاتب هذا النمط من الحكي،في أسلوب تقليدي ولغة بسيطة متداولة، يستهدف استنهاض طريقة أخذت في الانقراض،ويريد إعادة البهاء إليها،وانتعاشها لتحيا من جديد،ومن وجهة أخرى إشراك جميع شرائح جمهوره في المرويات،وفاء منه بوظيفة الأدب كرسالة النبيلة...

البعد اللازمني

وهو النهاية المتوقعة أو المنتظرة من الأحداث،دون ربط أية علاقة معها، أي الوحدة الكامنة وراء الأحداث، أو بصيغة أخرى الصيغة النهائية من تتابع الأحداث وتسلسلها، فقصة"عصفور الجنة " صفحة 31 مثلا تحكي عن الزوجين الذين كانا ينتظران مولودا بفارغ الصبر...ثم تتعاقب الأحداث لتخلص إلى صيغتها النهائية "الموت " موت المولود، كخاتمة ليست لها أية علاقة بالأحداث المتراكمة.فالكاتب يتابع فنه القصصي في حبكة على درجة عالية من الترتيب والتنسيق للأحداث، لها منطلق ووصول..وجل النصوص مبنية على أحداث تتناسل وتتوزع،في نصوص لتشكل وحدة قطبية في النهاية، ململمة معانيها المتفرقة في معنى واحد، يسعى إليه القارئ ليبلغه حتى تبرد اللهفة التشويقية إلى المغزى..

البعد التاريخي (استنهاض الطفولة)

الذات المبدعة ملتصقة بذاكرة الطفولة،والبادية التي كانت مرتعا لاستنشاق الهواء النقي،والارتواء من جمالها الطبيعي، والتسلية باللعب مع الصغار في فضاءاتها الشاسعة،حيث تطلق العنان للرغبات المقموعة،كي تتفجر دون حصار..والتمتع بحكايات الجدات وقصصهن،وما تُسربه في النفس من مواعظ،وما تخلقه في الذهن من فسح لجموح الخيال.. والارتباط بهذه المرحلة العمرية التي غارت بين ثنايا الدهر،مازالت حاضرة في الذهن والذاكرة والوجدان،وعشقها ينسرح في عروق الذات الكاتبة حتى الأعماق، فهي المرحلة العمرية اللذيذة التي تتسم بالبراءة والطهر،يستظل فيها الطفل بوارف الرعاية والاحتضان،متمتعا بظلال الدفء والأمان...وبما أن أعباء المسؤولية خفيفة،وفائض من الفراغ يؤثث هذه المرحلة،فعدة أشياء جميلة تبقى عالقة في النفس والشعور لايمحوها النسيان،وحين الإحساس يالضيم والغيم تُفتَح شرفات هذه المرحلة، لتستنهض الرائع منها،و تبدد الانكسار،والذات المبدعة لنور الدين محقق عالقة بذؤابات الطفولة عن طريق التذكر تارة،والحكي تارة أخرى،والمتخيل ثالثة، واالحلم أخيرا،حيث كل القصص تقريبا لاتخلو من ذكر كلمة "طفل " صغير " طفولة "وسأذكر بعضا منها:

ــ يؤنسه طفله الأول ص:22

ــ كنا صغارا نمشي إليه ص:29

ــ كنْ طفلا جريئا نفس الصفحة

ــ أن الطفل كان يشعر ص:30

ــ ابتسم الطفل ً 31

ــ أيها الطفل العفريت:نفس الصفحة

ــ نحن أطفال بناتها وأولادها ص: 47

ـــ كنا صغارا نجري خلفه صائحين ص:57

ــ وردت على ذهنه الأهزوجة الطفولية ص:65

ــ الأطفال يأكلونها ص: 68

البعد الإنساني

تحرك نصوص المجموعة شخصيات حقيقية،ومتخيلة،وخرافية، في مرافق متنوعة، محملة بأفكار، تنثني على مفاجآت وإثارات.. لها غايات وأهداف يرمي إليها الكاتب، تتمثل في تشخيص الهموم الإنسانية في أبعد مراميها، فالكاتب يعيش هموما إنسانية، في واقع مُزر مترد،موشح بالكره والحب والموت والفقر.. وغيرها من القيم الجميلة منها والمنبوذة..ولابد أن تترك لها وقعا في نفسية الكاتب، فتطبع إبداعه ببصمات حقيقية، ينتفها من صلب الواقع بشكل عياني ملموس..كما في قصة "يوم الامتحان " ص: 11 فيشخص المعاناة النفسية التي يعيشها التلميذ،قبل وإبان وبعد الامتحان،وحرارة انتظار النتيجة بخوف قاتل...
أو قد تطفو به موجة ثانية شاهقة من الواقع عبر خيال مجنح مستفيض..كمل يقول من الصفحة 69 من قصة "الماء والزغاريد"

..."أشعلت السيارة أضواءها وسمع هدير محركها في الأفق، تضاعفت سرعتها..........إلى أن اختفت السيارة تماما عن الأنظار،أنظاري أنا الكاتب "
السارد

أغلب نصوص الكاتب يدير محورَها سارد تقليدي خارجي،يحكي بضمير الغائب، لايقحم نفسه في الأحداث، ولايمت إليها بصلة بل مصاحب لها، يترصدها حدثا حدثا، ويقتفي أثرها بكل تفاصيلها جزءا جزءا، كما يتعقب الشخصيات شخصية شخصية،فيحدد أزمنة وأمكنة تحركها زمانا زمانا ومكانا مكانا، واصفا إياها بأدق الدقائق، مستوعبا مكنوناتها عن النفسية وأحاسيسها، وأفكارها، مخترقا جميع الحواجز، دون صعوبة. وأحيانا أخرى يتخفى خلف ضمير المتكلم،ينقل إلينا الوقائع ليوهم القارئ،أنه طرف في الموضوع.. لاحظوا معي في قصة " هاينة والغول" ص:47

"في طفولتي كنت أذهب كثيرا إلى البادية،شأن الأطفال في الأحياء المدينية،كانت أمي حريصة على أن استنشق الهواء النقي،خصوصا وأن عائلتها كانت تتوفر على أراض زراعية بالغة الجمال"

فالسارد يتقفى أثر الشخوص،ويرافقهم شبرا شبرا،وينقل إلينا ماوقع حرفا حرفا حرفا،بل ويخبرنا بأوضاعهم و ممتلكاتهم...

الخاتمة

نصوص وشم العشيرة تتنوع وتتداخل،تلف بحبالها المتنوعة القارئ، فتجعله في دوامة من أمره.. يجد في بساطتها وسهولتها ومعايشة الأحداث وإقامة صداقة مع شخصياتها،وتتبع أفعالهم أشياء يمكن تجسيدها في مسرحية أو فيلم سينمائي، إن ما نقرأه هو الكلمات، نظرا لما تمتاز به من سلاسة الحكي،والبعد عن التعقيد وحلاوة التعبير، والاتجاه رأسًا إلى العلاقات الأساسية الاجتماعية والإنسانية.. فالتعبير اللغوي قادر على النفاذ والكشف والبحث عن صيغة مغربية قحة ناضجة متميزة. و لامراء في أن موقفه السردي لديه،ينتمي إلى ثقافة عامة الشعب،وتعبيراتهم الذاتية عن حياتهم، يطبعه منهج طبيعي وعاد،مما يسهل ببساطة تحويل قصصه إلى مشاهد ركحية أو سينمائية..،لاأقول أكثر من أن هذه المجموعة إنتاج أدبي مقدس، من خلال ذروة العطاء في تمثل الواقع،وتجسيد موضوعات إنسانية،خرق بها المبدع المسار القصصي المنكب على الرمزية والتلغيز والمتاهات،والحيز الزمني الضيق، ليغير مجرى الحكي، إلى طريقة الحكي الشعبي التي طفقت ذؤاباتها تخبو في خضم الحداثة والتجديد...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى