الثلاثاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم فتاحي حسناء

ظل في الغبش

صدى يلفه السكون، مهد صخب لا ينضب، غبش يلتحف تلوث المدينة، ضبابية تغشى الأفق، ويصعب تبيان ما تخبئه عباءة الأزقة والممرات. تُعتّم المدينة أنوارها لتقلص استهلاكها الطاقي أو لتتستر على مصابها. هي التي ألفت قطع هذا الطريق في هذه الساعة، تعرف أين يتوجب عليها الإسراع في خطواتها، وأين يمكنها أن تمد الخطى دون أن يخفق قلبها، أو ترتعد أطرافها. ككبّة غزل تحوم في السّحر، وهي في دثارها الأسود الغليظ، تمشي، شيء واحد كان يلح عليها، هو أنها لو كانت متزوجة، لكان رافقها زوجها عبور هذا المشوار، ووفر عليها هذا الرعب الذي تمر به كل صباح. تعرف أنها متزوجة، لكنها تحسب حالها زوجة منفصلة، أو متخلى عنها، منذ زمن. منذ أن جاء طفلها، حين انقضت إجازة الأمومة، وبدأت تهيئ نفسها للعودة إلى العمل، شرعت ترتب أحوالها حسب ساعات عملها، وتبحث إمكانيات حضانة الطفل أثناء غيابها. حذرت أن زوجها سيعتني بابنه أثناء ساعات عملها، هو كان بائعا متجولا، لا يرتبط بوقت معين، والأسواق الشعبية التي يعرض فيها، لا يأتيها الرواد إلا بعد الساعة الحادية عشرة. كانت قد حصلت على موافقة صاحبة البيت، على أن ترعى الرضيع مابين خروج الأب وعودة الأم، وهي سيدة في الستينات من عمرها، ونادرا ما تخرج من البيت. غير أن الأب رفض أن يرعى ألابن وظل يتعلل بكونه رجل، ولا يصح أن يبقى بجانب الطفل، وأن الجيران سيعيرونه بهذا، وأنه يجب عليها أن تبحث عن امرأة لترعى طفلها أثناء غيابها.

كبرت على زِنْد الشقاء، اشتدت عضلاتها من أعمال ألسخرة، ألفت الهوان، كانت لا تفرق بين يوم عيد وطالع جديد، كل الأيام سواسية، تصبح وهي تكدح، وتبيت وهي تكدّ. وسط كل هذا، كانت تحلم بغد آخر، كانت ترى حالها مختلفة، واحدة أخرى بمظهر مغاير، ووجه يشع بالرضى.
لم يكن لها أهل في هذه المدينة، حملها شخص من بيت والدها بالقرية، وهي في العاشرة من عمرها للخدمة في بيت تاجر. كان والدها يأتي ليأخذ أجرتها من مشغلها، حين توفي الأب، صار الأخ الأكبر هو الذي يأتي لتحصيل الأجر. عندما بلغت العشرين من عمرها، صارت تغير أماكن شغلها حتى لا يلاحقها الأخ، وأصبحت تتسلم أجرتها بنفسها، تصرف منها ما تصرف، تبعث لأمها قسطا صغيرا، وتضع البقية في حساب بريدي. كان الأخ قد منعها من زيارة أمها حين أصبح لا يُحصّل أجرها، وروّج إشاعة في القرية أنها حادت عن الطريق الصحيح، ولا يحق لها أن تطأ قدمها البيت القروي العفيف. لترى أمها، كانت تذهب لبيت خالتها في بلدة قريبة من قريتها، بترتيب مع ابنة خالتها التي كانت تشتغل مثلها.

شبت على العطاء، كانت لا تعرف إلا أن تعطي، ولم تتعلم أن تأخذ، لم يخبرها أحد أن عليها أن تطالب، لأن من حقها أن تطلب، الكل كان يطلب منها، وهي لا تتوانى عن العطاء. حين بلغت النضج، فهمت بالفطرة أن عليها أن تمنح النيّف، لتحصل على القليل، فمع أمثالها، لا يكلف أحد نفسه ليعطيهم على قدر ما يمنحوا. لا أحد يمدها حقها، الكل يقدم لها ما يستأهله الوضع-وضعها.

كانت قد تعرفت إلى شاب، حسبته الزوج الموعود، هو الذي قدّمها إلى مسؤول القوى العاملة في شركة لتشغيل عاملات التنظيف في المؤسسات البنكية، والشركات المتعددة الجنسية. هكذا حصلت على شغلها الحالي، وصارت عاملة رسمية في هذه الشركة، تحظى بأجر قار، وبمستحقات اجتماعية. فكانت تترك البيت على الساعة الخامسة صباحا، لتلتحق بعملها في الساعة السادسة، وتقوم بتنظيف المؤسسات قبل دخول الموظفين. أحيانا، تشتغل فترة بعد الظهر، وتعود إلى البيت في التاسعة مساءا. علمت متأخرة أن الزوج الموعود، لم يكن سوى وسيط، قدم لها خدمة، وأخذ المقابل.

لم تكن تعرف أنها فلتت من براثن وسيط لتقع تحت وطأة طفيلي نابغ، زوجها الحالي. بعد أن فشلت في إيجاد من يرعى ابنها، طرح عليها الأمر صراحة، مبلغا شهريا مقابل رعاية الرضيع. حين قالت له أنه ابنه أيضا، رد أنه ثمرة رغبتها هي، لأنها هي من تريد أن تكوّن أسرة، وتنجب أطفالا، أما هو، فلا رغبة له في ذلك. يكفيه أنه رجل، وهو مستعد لأن يمنح، بالمقابل، البذرة والاسم لأي امرأة، تلح عليها وظيفة الأمومة، ولم تفلح في إيجاد من سيكون أبا لأطفالها المفروضين. وكان ما أراد، أصبحت تعطيه منحة شهرية، علما أنها، هي من كانت تدفع ثمن كراء الغرفة التي يقيمان فيها، وتتحمل جلّ المصاريف.

أكثر زميلاتها كن يعشن وضعية مشابهة، كن هن ربات البيوت، والأزواج ينعموا في البطالة. قلة منهن من خرجن للعمل لأن الزوج عاطل لسبب قهري. كلهن يتندرن فيما بينهن، بخروجهن باكرا للعمل، والأزواج يستطعموا حلاوة النوم الصباحي.

ماذا يضيرها، لو نفضت عنها ما قالوا أنه سيكون سترها؟ وأين له من مقومات الغطاء؟ فكرت في طفلها الذي سيكبر دون أب، هو الآن، دون أب. ذاك الذي يبقى بجانبه في البيت، شخص تستأجره ليرعاه، واستأجرته، ليكون سبب قدومه. فليكن ابنها وحدها، يحمل اسم أبيه، لكن هي من ستسقيه من ندى روحها لينمو، وستخضب ضحكته عود أيامها.

عندما جلست مع مستمعة في جمعية مدنية، تساعد النساء في وضعية صعبة، قالت لها أنها لا تريد إلا الطلاق، ومستعدة للتنازل على نفقة الطفل مقابل الانفصال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى