الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
قراءة في المجموعة القصصية للقاص:
بقلم عبد الزهرة شباري

قصي الخفاجي

في الصمت التأملي وإرساء النظر على سطح الورقة المتاحة وصقيلها اللاهث، وعقلنة الأحداث التي تتصارع في نظر السارد وما لها من ضغط على فكره المنزوي تماماً مع ما هو أمامه من نسق قد يراه مكملاً لمادة معينة يمثل عنفوان ضجيجها حلقة يمثل أحد أبوابها السرد القصصي الذي يتيح للقاص أن يولَد حياة القصة لديه، ومنها إلى سلسلة الأحداث الدرامية التي تكوَن سير الحدث فيها.

أختار القاص المبدع قصي الخفاجي منذ البداية أن يكون المتطلع إلى هيمنة الأحداث التي يكتبها ضمن مجريات السرد لديه، لتكون مشبعة بوابل الرؤيا وشعاع الحلم بالولادة المبكرة السامية لخلاصة أنسنة الحدث الذي يخلق منه مادته الأساسية، من هنا كان الخفاجي يبشر عالمه المحيط به بحد َ قصصه التي تشكل قمة الهرم القصصي منذ بدايته في أتخاذ هذا النوع من الأدب طريقاً ومسلكاً!

وأن ما أختاره الخفاجي هو من جراء علاقته الوطيدة بين عالمه الذي يعيش فيه كقاص وبين إدراكه الصميمي لهذه العلاقة التي أفنى فيها حياته مناضلاً في تنمية هذه المواهب المبدعة، ومحصناً إياها من دخول الشوائب التي تلامس جسدها من ما هو غث وما أنتشر مع قساطل وأتربة الحروب المشاعة في هذا الزمن الهزيل!!

والسرد القصصي بصورة عامة يرتبط ارتباطا مباشراً مع البنية اللسانية التي هي بنية الحوار الذي يبني به القاص مادته في خلق الجسد الذي يريد منه أن يمثل بواسطته سير الحدث المعني، والنص القصصي هو بالطبع مرتبط مع العلاقات والمنظورات المكونة لكشف الأدلة المخفية في سياق معطيات القصة التي تؤنسن المعنى الحقيقي لغاية النص!!

من هذا المألوف تبدأ خبرة القاص السردية والأدبية في بناء عرشه القصصي الذي يتطلع من خلاله إلى عالمه السفلي، مشيراً له بصولجان القدرة التي تؤهله في خلق ما يراه في هذا العالم إلى بناء شامخ يعكس متطلبات ما يراه القارئ المتطلع من ميزان المستوى الذوقي، مجانساً تلك الأحداث التي أمامه في مستوى هذه المجموعة أو تلك، إلى عالمه الذي يعيش فيه، وبهذه المحصلة أستطاع القاص الخفاجي أن ينقل فكر القراء إلى أشياء كثيرة هي بعيدة عن أفكارهم المتعبة!

ولعلي أرى القاص قصي الخفاجي ومن خلال قراءتي لمجموعته (آخر السلالات) وهي الأولى التي وصلتني من مجموع كتاباته الكثيرة، واستخدامه في بناء قصص هذه المجموعة الصغيرة نمطاً سردياً بما نسميه إذا جاز لي التعبير بعين الكاميرا، الذي هو أساس الربط بين الأحداث التي يراها أمامه، وبين فكره الذي يتابع صهيل ذاك الحدث بنوع شعري لا قصصي كما أراه، فهو يقول: ((... مد َ عدنان عنقه من حاجز السفينة وراح يقيء دماً أسوداً قاتماً، مثل القير، نزف كل قطرة من دمه، ونقل إلى الكابينة، لقد أوصى بدفنه في البحر، بعد أن ومضت والتمعت بخطف البرق صورة البصرة الأخيرة في ذاكرته الفانية )) (البحَار الحزين).

فالخفاجي يحمَل قصصه بتشكيلة من الأنساق الحياتية واليومية إلى جانب الفكرية، ولهذا نرى هذه القصص تغرق في الحالات المسندة لها، وهو بهذا النسق إذ ْ يبيح أن يستوعب عمله تفاصيل الشارع وهواجس الإنسان فيه، عليه نراه يفبرك الحالات الإنسانية!

فمثلاً في قصته الصغيرة (البيت المنكوب) الذي يبين فيها كارثة الحريق الذي أودى وباد معظم بيوت البصرة العتيقة: يشرح الحالة الإنسانية لعجوز يهودية كانت قد أخفت أوراق ثبوتية تخص بعض الحالات من إرث وغيرها، وقد عنونت هذه الأوراق إلى السفير الصهيوني آنذاك!

فيقول: ((عرفتني شاعراً صامتاً من سنين، باحت كلاماً غريباً لي، هناك في بيت الأوقاف المهجور والمقفل قبالتك، تدخل الغرفة الخلفية المجاورة للحمام ـ تحفر قرابة مترين واكتم السر.. عليك بالله))

ترى ما هي ملامح الإشارات في هيكلية هذا الحوار اليائس بين الشاعر الصامت وبين العجوز التي فارقت الحياة للتو!

يخيل لي أنها تنطوي على بنية ذات رؤية إنسانية فكرية يطرحها الخفاجي على صقيل ورقته، ليعرف القارئ بمحتوى قصته، وحسبي أن هذا العمل الذي أقترحه القاص في ربطه الوثيق بين الشكل والمحتوى، على صعيد التوصيف وإدخاله في مغزى الحدث، دليل على بنية القصة وجمالها.

وبهذا العمل ملك الخفاجي تأكيد إمكانيته بخروج القص لديه من شرك النمطية الذي يستفحل على معظم النتاج القصصي، وبهذا تمتلك القصة المعاصرة القيود الجمالية والفنية التي تؤهلها لشق طريقها مع الرواد من كتاب الرواية والقصة في عصرنا الحاضر!

في قصة الحرب والسقوط الذي يخيل إلَي َ أنها خلاصة الجريمة التي اقترفت بفعل الحرب الدامية التي أحالت بلاده إلى دمار، دمار في الممتلكات، في الأرواح، في هتك الستور وفقدان العفة والحمية من لدن الإنسان الضعيف، وفي كل شيء يخص حياة الإنسان والحيوان.

على ما يبدو أشاح الخفاجي بوجهه الإنسان المثالي عن ما يحدث أمامه من كثير من الأحداث التي رافقت هذه الحروب وما أخذته من شعبه، فراح يعصف بورقته البيضاء الناصعة ويكتب عليها أحداث سقوط (فائقة) المرأة المثالية الجميلة والقوية الشكيمة، ذات الاعتداد العالي بالنفس، وشرف الجسد، إلى مهاوي الرذيلة والانحطاط، بعد أن كانت و(يوسف) خليتين مندمجتين في نواة واحدة، ألا َ أن الحرب وما حملت أضاعت فرصة أخلاص الفتاة لحبيبها وتتزوج من أحد جنرالات الحرب كما يقول، ويسرد الخفاجي قصته بلهفة بعد أن يصاب (يوسف) ويقطع ساقه، ومن ثم يصاب زوجها ويفارق الحياة، وبهذا نهايتها وانجرارها إلى مهاوي الرذيلة والسقوط!

ويختم الخفاجي قصته بهروب (يوسف) من (فائقة) في لقائه الأخير معها وهي في مهاوي رذيلتها بعد أن ينكشف أمره لديها بالهروب منها فيقول:

((ظل َ يهرب.. ويهرب محموماً بساقه الصناعية، والرعد يغلق الظلام، إنفلتت ساقه الصناعية، وانقلب في الشارع سقوطاً مروعاً، وقد مرَت على رأسه سيارة مسرعة هشمت له الجمجمة))

فنزيف الخفاجي في قصته هذه يبين لنا كقراء ونقاد علاقته اللامرئية التي يكتب بها الواقع الذي يراه بروح واقعيته، حيث يفسح المجال للحدث ومعناه المباشر الذي قد لا يراه القارئ عندما يلج في قراءته للنص، فهو يبحث عن التأثير الذي أثرت به الحرب الدامية على نفسية الإنسان في بلاده، لأن الواقع بالنسبة للخفاجي ليس منتهي، إذ ْ لا بد من تبصرَ ما وراءها لأغناء مفردات القص لديه، لذا نرى ملياً أن خيار القاص هذا قاده إلى الصدق المباشر في الكتابة عن الأحداث التي يراها أمامه وهي تكبل الواقع المر في بيئته ووطنه، هذا ما قد يراه القارئ المتلمس في جميع قصص الخفاجي فمثلاً في ((الثعالب الصغيرة، الجدائل الثعلبية، الشاهد والزمن، العيون والأشباح، القطط، وغيرها من قصص مجموعته الجميلة (آخر السلالات) التي لا أريد أن أسلب من القارئ فرصة التمتع بقراءتها ومدلولاتها الفنية تاركاً المجال لذوي الأختصاص في تشريح جسد هذه المجموعة والكتابة عنها........ والله ولي التوفيق!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى