الجمعة ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم عبد الزهرة شباري

رؤى ما بعد الألف

فضاءات الألم

هكذا كانت تجلس خلف شباكها القديم وأمام موقدها البارد تغفو على وهج السنين، تتدافع من حولها الأشباح، أشباح الشباب وهي ترمز لها بعنفوان من بين وريقات الدفلى، من ذات الشجرة العقيمة كل صباح، تحرك أصابعها وتفرك عيونها التي أطفأها السهد، وتزرع في الخيال تعب المسافات الطويلة، ثم ينجلي ضباب السنين وتقاسمني ابتسامتها، أراها لوحدها تجلس قبالة أسلاك شباكها الصدئة بوجهها المصفر وعينيها الذابلتين ويديها المرتعشتين، تتناغم ابتسامتها من بعيد وتشكل علامة الحنو!

عيونها المتألقة ترقب خطوي وتزرع في روحي الحلم، عندها صدقت
المنام وعدت أعوم لوحدي بين نخيلات عوجاء، تراءت لي وهي تلوح بعباءتها السوداء الممزقة، وفي البعيد المعتم ألمح عودها النحيل يترنح في فضاء العتمة وهو يصارع فضاءات الألم!!

كوينزكيت!

في دروب مدينة الضباب الظليلة، ترمقني من بعيد بعودها الرشيق، وفستانها الأحمر، ووجهها الشمسي، خلف شجرة البلوط المنتصبة وسط الشارع الكبير وأمام نصب الحرية الشامخ، بين الوجوه الكئيبة التي تبحث عن مبغى، جاءوا من هناك، من شتى العوالم، يلبسون الهموم وفراء القرود، ويسهرون كأرتال النمل على حبيبات السكر في الأكواخ البائسة، جاءوا يسرقون العيون الغريبة وهي تبل كالندى شجو المغرمين، وتسلب لب الوالهين!
يملؤون جلابيب الفجر بدبق الفواحش، ويقتسمون الشرفات والنوافذ ويلثمون الجروح في المخافر!

أسترق السمع من بعيد لأنغام صوتها العذب وهي تردد أغنية ( أم كلثوم ) أنت عمري.
تبتسم لي وتقول:

أنت وحدك؟
صباح الخير!
ومن معي يا ترى ألا ترين؟
ألست مثلهم؟
من؟

هؤلاء الذين يلبسون الصحراء، ويلثمون الجروح في المساء، وفي الليل يبكون الصديد فوق المرايا!

يصفق الريح البارد شباك غرفته المطلة على الشارع، يستيقظ على نوبة الضجيج!!

غالية الرباب

بوجهه الكئيبوقامته المنحنية إلى الأمام، وجلبابه الرث الممزق، يهمهم بكلمات تنبو عن بؤس، يقول على ما تبدو عليه حركة يديه وهو يلوح بهما كمن يرسم شيئاً ما في الهواء!
سأرسم قامتي هنا، واريق ماء الليل فوق مرآة الفجر، وأصقل صمتي وعذابي، ثم أرحل بعيداً إلى فجوات النجوم المنتشرة في الفضاء،وهي تسري فوقي!

يصمت ويسكن عن الحركة في حين تبقى يده معلقة أمامه في الهواء، يفكر يقتله الوجوم على ما أرى، يلقي شيئاً على ما أرى على البساط، يسبقني إلى الباب، يلملم أسماله البالية ويهرب، اتبعه لعلي أسترجعه إلى محله لكنه يقول لي بعنف وعصبية حادة:
أسمع يا هذا؟

أن للشوارع هنا أصداء الشظايا ونزف الغيوم.

ألا ترى في بغداد وحدها ألف قتيل كل صباح، والناهدات فيها يقتسمن اليباب؟
ترى من الذي كسرها غالية الرباب؟
يغيب عني ويختفي في ضباب الصباح الكثيف!!

العودة

كان أكثر حكمة، يهيم لوحده تائها في تفكير دائم، تزدحم مخيلته بمفردات قدرته على السيطرة في أن يدير من حوله ويزرع فيهم النخوة والغيرة، يميل إلى المزاح أحياناً، يعاتب هذا ويلاطف ذاك، ويعمل ماراثونا حول ما بناه لأحفاده حيناً آخر!

ينظر إلى القلعة المنسية التي تقف أمامه في وسط السهل الممتد نحو الشمال، بجانبه تنبش الطيور في مكامن يراها أصبحت يباب ويبس ما فيها من نبات وزرع، يكاد لا يرى منها سوى أوراق التوت المتساقطة على باحة داره القديم الذي يتوسط أرضه، يسأل نفسه، يا إلهي أين ذهبت هذه الخضرة والنظارة من هذه الأرض؟

وأين ذهب الماء عنها؟

إنها غارت في أعماق الأرض لا أستطيع أن أستخرجها لوحدي، ولم أجد من يساعدني، أرى في النهاية تصبح نهباً لغيرنا، هؤلاء لا يستطيعون الحفاظ عليها، سوف يتفرقون في أصقاع الأرض بعدي، أنها الحيرة يا رب!

أوراق التوت المتساقطة أمامه تنقلها الريح إلى مكان بعيد تسمعه الحفيف، يتشاءم منه وتكاد تزهق روحه من بين جنبيه!

يمد يده المعر ورقة إلى زوجته قائلاً:

ترى هل يأتي الماء يوماً؟

وهل تطل علينا المزرعة من جديد؟

ونرى السنابل وهي تميل بغنجها كأنها العرائس، لتقبل وجه الأرض بما تحمله من الحبوب؟
هل تخرج مرة أخرى حتى على الأقل آخر مرة أراها بالعمر؟

تبتسم بوجهه مازحة، دع عنك هذا أيها الشيخ الطيب إنها الإشارة بالعودة إلى ما كنا فيه!
ماذا تعنين؟

نعم إنها النهاية، سوف نرحل إلى هناك، حيث النخيل الشامخة في الجنوب، حيث المرح والشمس، إنه نداء القلوب يا عزيزي، أم أنت تريد أن تموت وحيداً دون أهلك؟
تريد أن تقبر هنا ولم يزرك أحد في ديار الغربة؟

يصمت قليلاً، تنازعه روحه إلى الرحيل، وكأنه صدق كلامها، يتكأ على عصاه ترتعش يداه وقدماه، في حين يسمع مؤذن القرية النائية في الشمال يصدح بصوته معلناً للصلاة!!

هموم

كان قد أدرك يوماً ما سيفترق عنها، أنها حالة أكيدة لا بد منها، هكذا هي الحياة يتمتم مع نفسه وهو يسير بين هياكل وكتل الثرى والمدر الجاثمة فوق رفات الأموات، توقظ في نفسه بريق دافئ ينقله نحو الكون الواسع، يسري الدم في عروقه، تتوهج فيه الحياة، حلاوتها، رجسها، عتمة مساوئها، وغنجها!

يفترش عباءته الممزقة ويرقد عليها متوسداَ أحد القبور التي أنهكها الزمن، لا بد أن هذا الراقد هنا أعطا لعمره شيئاً من اللهو والترف، ومر بضجيج هذه الدنيا الفانية!

تسري في جسده قشعريرة، يحس بعظامه تتكسر، ينهض مسرعاً يلف عباءته تحت أبطه ويسير بضع خطوات، تدمع عيناه وينهمر منها ماء لزج يسيل على خديه، يفرك عينيه بقوة مهمهماً، كلنا سنكون إلى هذا الرمس البالي سوف تمر علينا الأقدام حتما، وسبحان من ذكره الناس بخير!

سائراً بين الرموس يكلم نفسه ويصلح ذيال عباءته التي تسح عجاجاً بدا وراءه، يلتفت كمن يتبعه أحد، يصرخ في أعماقه، هكذا نفنى دون أن يبقى نبضاً يومئ لنا، وينذر الحياة، ودون أن نخلد إلى نوم هادئ!

حاملاً همه الثقيل مستقبلاً منائر بدى له بريقها واضح على أشعة الشمس التي تسللت من خلال الغيوم الكثيفة، وقف قبالتها ساكناً: لا أحمل سوى جسدي، وجعي، وهمومي التي أثقلت كاهلي، لا أدري أين أجد ماء الحياة يتحسس شيب لحيته التي كست وجهه ويسح دمعة من جديد!!

تتوهج فيه رغبة في الطيران حولها والصاق جسده بها، إلاَ أن قدمه تتعثر بأحد القبور المثقوبة ويسقط على الأرض، بهلع صارخاً توقظه زوجته ليجد نفسه في فراشه ترتعد فرائصه!!!

المائة بعد الألف

مسرعاً إلى بيته دون أن ينبس بكلمة واحدة تعتريه نوبة من الرعدة في جسده، يخيم عليه البؤس والاكتئاب والألم، يدخل غرفته ويوصد الباب وراءه، يلقي بجثته على السرير ويخلد إلى النوم!

يتقلب في فراشه كما الأسماك في بطون البحار والمسطحات المائية، ينتابه قلق وبؤس، يشعر أنه يحمل هم الدنيا، الأشباح تتراقص أمام عينيه، أعظمها شدة ما رآه في الطريق العام (السريع)!

سكنت ضوضاء نفسه واصطخاب الشارع والناس والمركبات عليه، وبدء سلطان النوم يدب في أعضاءه ويغطي عينيه بغشاوة ظليلة، لا يكاد يستطيع فتحهما، زحف ظلام دامس على جسده ليغطي ما تبقى من شدو روحه سوى ما بقي من أنفاسه المتعالية، يراوده منظر الشارع العام والحركات البهلوانية التي ما زالت تلهب رأسه وتفكيره المتعب، يندلع في صدره لهيب الغصة ومرارة القسوة والظلم، وجوه شاحبة خالية من الرحمة، أستحكم عليها شعاع الفرعنة والغطرسة والجهل وقبح التحكم وظلال العقول!!

الهلع ينتابه، لا يستطيع الترجل بسرعة والدفاع عن صاحبه الجالس بجانبه، خلف مقود سيارته،بسرعة مذهلة، وخفة بهلوانية، وأصوات نكرة، تزعق كالوحوش الضارية:
توقف يا بن .........؟!

ينزلق على يمين الشارع ويبقى جالساً في مركبته الصغيرة، في حين تهجم عليه ذئاب العصر، تسحبه بقوة وعنف، دون سابقة كلام ويلقى على الرصيف وينهال عليه الأربعة بالضرب من كل مكان، يتقلب على الشارع من شدة الضرب وقساوته!

تجمع الناس من كل مكان الرائح والغادي دون أن يجرء أحد بالتكلم أو أسعافه، الكل مذهولون، يسمعون كلامهم النابي وقبح أخلاقهم وتعسفهم الجاهل!

بطريقة بهلوانية يصفق كل منهم يديه ويعدل من هيئته ويذهب إلى محله،هكذا يجب أن تتأدبوا عندما ترون أحدنا، ولا تتجاوزوا مركباتنا في الشارع؟
حتى تكون للجميع عبرة، فاعتبروا يا أولوا ابصار؟

ملقى على الشارع، تتجمع عليه الناس، يحركه أحدهم، ينهض مذهولاً ويصفق بيديه صارخاً، لقد فارق الحياة!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى