الاثنين ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم رواء الجصاني

مع الجــواهــري في دمشـــق ...

وها هي ذكريات اخرى مع الجواهري، وشهادات عنه، وهذه المرة شآمية الهوى، دمشقية الوقائع... تتشابك عراها، وتمتد لاكثرمن نصف قرن، حين قدمنا، زمرة من الأخوة، برفقة الوالدة، من بغداد عام 1957 لنقيم في وسط العاصمة السورية، وعند محلة "السبع بحرات" تحديداً، ضيوفاً لأكثر من شهر، عند الخال الجواهري، وعائلته، وهو لاجيء سياسي في دمشق، بعد ان خلف غاشية الخنوع وراءه، في العراق ... ومن بين ما تعبق به الذاكرة - وياوليها- سفرة في تلكم الايام، ضمت عائلتيّ: الجواهري، وأخته نبيهة، ونحن من بينها، الى مصيف الزبداني – متنزه شلالات "ابو زاد".. الجنة الصغيرة التي حسبناها آنئذٍ، وقد كان هناك، صدفة، الشاعر احمد الصافي النجفي، المغترب الى بلاد الشام أيضاً... وما أحلى، الصورة الفوتغرافية التي يضمها الالبوم الى اليوم، أتوسطها، وأنا ابن سبع ، بين الشاعرين

- ايــهِ يا عهــدَ الصبــا !!!

وينقطع الوصل، مع دمشق، ورباها، حتى خريف عام 1972 حين دخلتها بهوية "مقاتل" في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في طريقي الى موسكو، وكان الشاعر ألفريد سمعان، عنواني الدمشقي، بتوصية سياسية من بغداد... وقد رجعت للشام بعد نحوعام، عائداً الى بغداد، وهذه المرة بجواز منتهي النفاذ، لخوض غمار النضال" السلمي" !!!...

... ويعود الوصل لدمشق من جديد، ولنقل نواصله، عام 1980 حين انطلقت اليها من براغ، حيث أستقرت بنا الحال، للمشاركة في ندوة طلابية سورية- عالمية، ضمن وفد عراقي، ومعنا: عماد الطائي، قادماً من موسكو... ومنها الى العاصمة اليمنية الجنوبية- عدن، للمشاركة في ندوة شبابية عالمية، كان حاضراً فيها أيضاً، عراقي كردي، هو روج نوري شاويس، ممثلاً لجمعية الطلبة الأكراد في أوربا...

... ثم يزداد الوصل، التواصل، حين بدأ الجواهري العظيم تناصف غربته بين براغ ودمشق منذ عام 1983... لتتضاعف الزيارات الى الشام بضيافة الخال – الصديق!! مرات ومرات، وأحياناً لمهام سياسية وغيرها... وهكذا الحال، وبحلاوة حتى العام 1997... وبعدها، وحتى العام 2011 ولكن مع غصة خلو دمشق من صاحبها العاشق الملهم، الذي بقي يشم تربتها لا زلفى، ولا ملقا، على مدى عقود، وهو الذي قال - لا غيره- عام 1921 : اني شآمي الهوى، فاذا نسبتُ لموطنٍ، فعراقي ..

- وجـــوه وشخصيـــات واصدقـــاء

وعلى مدى عشرة أعوام،وخلال الفترة 1983-1993 تحديداً، كان السفر، والاقامة في دمشق، ولربما مرة كل شهرين أو ثلاثة، حافلاً، مبهجاً، عندالجواهري، وبرفقته ليل نهار، سماعاً، وتعلماً، وامتلاء، مع بعض مناكدات حميمية في بعض الأحيان... وأسجل، من بين ما أسجل في هذا الترحال، وما لي سوى الذاكرة عماداً، ما حفلت به تلكم الأعوام العشرة في بيت الجواهري، وهو مقامي في دمشق، شهادات ومشاهدات للقاءات جمهرة من الوجوه العراقيــــة والسورية والعربية، وتحضرني منها: الشخصيات الوطنية والسياسية والثقافية البارزة التي حضرت جلساتها ومجالسها، بدارة الخال، في روضة دمشق.... وقد كانت – تلكم الشخصيات - من مختلف المشارب والاتجاهات والهوى، يجمعها – على الأقل – حبها للشاعرالعظيم والرمز الوطني، والثقافي الأول في العراق على ما نزعم، والاستماع لارائه، واستشراف مواقفه. ومن بينها، باعتماد حروف الأبجدية، مع حفظ واحترام الألقاب، والتميــز، العراقيون:

آرا خاجودور، حسن النقيب، حميد مجيد موسى، صالح دكله، عادل حبه، عبد الجبار الكبيسي، عبد الرزاق الصافي، عزيز محمد، علي السنجاري، فاضل الانصاري، فخري كريم، فؤاد معصوم، كريم احمد، ماجد عبد الرضا، مسعود بارزاني، هادي رجب الناصري وهاني الفكيكي...

والسوريون، من غير الرسميين: اعتدال رافع، حنا مينه، خالد بكداش، صابر فلحوط، فؤاد بلاط، عادل يازجي، نبيه رشيدات، هاني الخير... دعوا عنكم الشعراء والمثقفين والكتاب، والأصدقاء، ومنهم، وأيضا بحسب تسلسل حروف الهجاء، وحفظ المكانة والمقامات: إنتشال هادي، حسان عاكف حمودي، حميد برتو، خلدون جاويد، زهير الجزائري، عبد الاله النعيمي، عبد الكريم كاصد، عواد ناصر، غانم حمدون، فالح عبد الجبار، لبيد عباوي، محمد حسين الأعرجي، مصطفى جمال الدين، وهادي العلوي .. وغيرهم من الاعزاء الذين سترد اسماؤهم في رحاب هذه التأرخة.

… كما صادف ان التقيت في"صالون" الجواهري، الدمشقي، وعائلته، معارف، وسيدات جليلات، كان لهن، وازواجهن، وعوائلهن، موقع الاحتفاء الدائم لدى الشاعر العظيم، محبة واعتزازا، وحتى تبجيلا. إذ هنّ من" زن الحياة بوعدهنّه... وشِنّها بوعيدهنّه" كما تحدث الشاعر الخالد عنهن، وقريناتهن عام 1965 .. ومن بين ما أتذكر بكل تقدير: أنعام العبايجي، ابتسام الجواهري، أميرة مهدي، ايمان سلام عادل، بدور الدده، رجاء الزنبورى، زاهرة هادي، وسن عبد الهادي، سلمى جبو، سعاد علاء الدين، فاطمة المحسن ويسار دكله .... فضلا عن الاقارب، ونساء البيت، والآل.

- محطـــات ثقافيــــــة

ولآن مدد الزيارات والاقامة في الشام مع الجواهري، وفي بيته، دام بعضها حتى شهر كامل أحياناً، فكان لابدّ وان تتخللها شهادات ومشاهدات، ثقافية وشعرية وأدبية... ومما تجود به الذاكرة، نشوانةً، لهذا التوثيق: معايشة الجواهري وهو منغمر في اتمام مختاراته في الشعر العربي أوائل الثمانينات، والتي صدرت تالياً عام 1987 بمجلد اول موسوم بـ "الجمهرة" بمراجعة عدنان درويش (1)... ثم وفي العام 1985 وكان الجواهري قد اجرى جراحة لعينيه، فقد بعدها الكثير من قدرته على القراءة، فضلاً عن الكتابة، فقد أشركني بمساعدته في اختيارات "العيون من اشعاره" الذي صدر بعد عام باشراف عبد الحسين شعبان ...
ومما تجود به الذاكرة أيضاً، فكرة اصدار بانوراما "المقصورة" الجواهرية الخالدة في كتيب خاص، مع مقدمة وتفاصيل، وقد تكفلت لذلك الهدف بمراجعة دار الاهالي للطباعة في دمشق، وكاد المشروع ان يرى النور، لولا عقبة مالية، وان كانت محدودة... كما يحل العام 1987 وتبدأ "معركة" توثيق ذكريات الجواهري، بين كتابة خلاصات بخط يده، وتسجيل كاسيتات صوتية، ثم وعلى اشرطة فيديو، وبعدها التفريغ على الورق... وكنت مع الشاعر العظيم في دمشق، كما في براغ، متابعاً الأمر يوماً بيوم... ثم استقرت الحال شيئاً فشيئاً، وليعهد لي أواسط عام 1988 بمراجعة اولى للجزء الأكبر من المسودات الورقية، الأولية، التي أتممها نحو عشرة من المعارضين الوطنيين العراقيين، تطوعاً، أو شبه تطوع ... وقد صدرت تلكم الذكريات بجزأين، عامي 1988 و1991...(2)

وما بين هذه وتلك من الشؤون الثقافية والادبية، قُدر لي ان اكون شاهداً على بدايات، وبعض شؤون اختيارات أبيات من عصماء الجواهري الشهيرة: "شممت تربك" التي أدتها ميادة الحناوي، بألحان صفوان بهلوان . واشهد هنا كيف كاد الشاعر العظيم ان يلغي الفكرة، والعمل شبه المنجز، في آخر لحظة لتعقيدات طارئة، قد نكتب عن تفاصيلها في وقت آخر... كما أمر سريعاً أيضاً على "قرار" الجواهري عام 1988 تأسيس "دار الرافدين" للنشر في دمشق، وعلى أساس ان تتولى طباعة دواوينه، ومؤلفاته، وعلى ان يقوم شخصياً، وهو في التسعين من العمر، بالاشراف عليها، وان أتحمل مسؤولية جانبها التنفيذي... وتم فعلاً استئجار المقر، في حي "ركن الدين" الدمشقي، وتأثيثه، بمعاونة صادق الجواهري، ثم غُض الطرف عن الأمر كله بلمح البصر، وليتابـــع" كفاح" النجل الاصغر للشاعر العظيم، ما تبقى من المشروع لاحقا.

- بيتيــــات ... وخصوصيات

وتستمر الذكريات تترى، ومنها العائليات بأفراحها وأتراحها... وتلوح لي من بينها اليوم، كأحلام مبهجة: رحلة قريبة الى ريف دمشق عام 1983 مع الجواهري وزوجته "امونة" وشقيقته "نبيهة" - والدة كاتب هذه السطور... وجولة"رياضية" عام 1984 في ارجاء غوطة دمشق، بقي الجواهري يمشي راجلاً خلالها نحو ساعة ونصف، دون ملل أو كلل، ونحن – من معه – نكاد نلهث وراءه، او قبله، وما في يدنا حيلة للاعتراض... ثم سهرة مع الجواهري، وهو يرقص في فندق شيراتون الشام ليلة بدء عام 1987 مع جمع من "آل البيت" ومنهم نسرين وصفي طاهر وجمال الجواهري (3)... وحفلة غنائية للفنانة ميادة الحناوي، تردد الجواهري في الذهاب اليها، وحتى آخر لحظة، لنصل متأخرين، وليُرحب "بنــا!!" المدعوون، بتصفيق مديد...

كما وأتذكر أيضاً وأيضاً : دعوة عشاء خاصة للجواهري، محدودة الحضور، بضيافة السياسي العراقي العريق، عامر عبد الله في بيته، سخن "الحوار" خلالها حول السياسة والسياسيين وتقلباتهم ... وكذلك دعوة غداء "رسمية" للشاعر العظيم في برج فندق الشام، مع زوجته وشقيقته، بضيافة وزيرة الثقافة السورية نجاح العطار، وكانت محاورالجلسة، كالمعهود، ثقافية- ادبية شاملة ... كما واتذكر ذلكم الغداء الشهي، في مطعم" شعبي" هذه المرة، وسط صالحية دمشق، عام 1994 مع الجواهري، وجمع من اهل البيت، تحملت تكاليفه، راضياً، مرضيا ...

- مشـــادات ... وخصومـــات

كما وأسجل، من بين ما أسجل من شهادات ومشاهدات: حوارات، وانفعالات و"معاتبات" جواهرية مع سياسيين ومثقفين، ربما يصح ان نفرد لها تأرخة أخرى، في فترة قادمة... ومن بينها، مع تجاوز ذكر الأسماء والتفاصيل حالياً: خصام مع "سياسي" طالب الجواهري ان يدلي بدلوه في الوضع العراقي آنذاك، فدله الشاعر الأكبر الى قصيدته " ماذا أغني؟؟" والتي فيها ما فيها من تقييمات وفلسفة ومواقف (4).. وعتاب مع مسؤول سياسي عراقي لانه تأخر في اتمام سفرة ارادها الجواهري للاستجمام في احدى مصحات البلدان الاشتراكية السابقة. ... كما وشبه معركة لأن مجلة ثقافية – سياسية احتفلت، أو كادت ، بالعيد التسعيني للجواهري عام 1990 مع انه يصر على ان ولادته هي عام 1902 !!!...
كما وأذكر وأذكر كيف حملني الجواهري عام 1987 رسالة غاضبة منه، لنشرها في صحيفة السفير، موجهةً لزعيم عربي، لان المجلة المركزية لحركته انتقدت اختيارالشاعر العظيم، للشام مستقرا... وكذلك اسجل كيف ثار الجواهري على رئيس تحرير ابرز صحيفة دمشقية، لانها نشرت لاحد محرريها نقداً " خبيثاً" برأي الشاعر العظيم، حاول ان يطال احد مواقفه السياسية... كما غضباً لاهباً آخر، على احد ابرز وجوه الثقافة العراقية لانه لم يردّ على ما نشره كاتب عربي في احدى صحف بيروت من "لؤم" - بحسب تعبير الجواهري- على بعض ذكرياته ...

- سهـــرات ما بعد منتصف الليــل

اما عن "البيتيات" و"الخصوصيات" فلاعدّ لها ولا حصر، وخاصة بعد ان كان البيت يخلو من الضيوف، والزوار، المرحب بهم، أو الثقلاء – وفقاً للجواهري... فثمة سهرات للذكريات والاستذكارات، وأمسيات شبه يومية للتسلي بلعب "الورق" مع بعض أهل البيت، واخرين... كما ومناكدات و"تقييمات" عامة وشخصية، وما الى ذلك ... وقد كان عديد من تلكم السهرات بحضور نجاح، النجل الثالث للجواهري، وخاصة بعد ان ينتصف الليل، ويروق المزاج، ومن بينها "اسئلة" استثنائية، وأسرار عن المغامرات العاطفية، واجمل ابيات الحب العذري، وغير العذري، وعن اراء بشان سياسيين ومثقفين وشعراء، قريبين واحباء، أم لئماء وحاسدين!!.... وعدا ذلك كثير(5).

- في وداع "نبيهــة" و"أمونــة"

أخيراً، لا يمكن لي في هذه التأرخة السريعة، والتوثيق الأولي لفترة مهمة من حياة الجواهري، كما أدعي، إلا وأتوقف عند حالتي حزن حارقتين، عشتهما مع الشاعر العظيم، وأعني بهما: رحيل شقيقته نبيهة عام 1987 وزوجته أمونة عام 1992... والأولى، هي عقيلة السيد جواد الجصاني، والدة كل من كاظم ورجاء ولواء ونداء وصفاء ورواء... والثانية، والدة نجاح وكفاح وخيال وظلال... وقد رثاهما عند مواراتهما الثرى في متربة السيدة زينب، بدمشق، بأبيات مؤثرة فاضت بذكريات وحنين، ورؤى فلسفية عديدة (6) . ثم تبدأ رويداً رويداً، ومن العام 1993 بشكل رئيس، رحلة الجواهري الى عالم الخلود: متاعب صحية، واحاسيس مرهفة مصحوبة بقلق وعدم استقرار، وحتى 1997.7.27 حين تمكن "الموت اللئيم" من الانتصار، على نحو قرن من الابداع والتفرد ...

استدراك ... وإحالات:

لا بد من التنويه، احترازاً، الى ان الوقفات ورؤوس النقاط اعلاه، جاءت بكل ايجاز، وقد تعمدتُ اختيار ما ظننته يوحي ببعض ما لم يُعرف عن الجواهري العظيم، وما قد يؤشر لعدد من الخصوصيات المعبرة.

كما واعتذر سلفاً عما لم تبحْ به الذاكرة، مما تختزنه ما اسماء، بل وربما جاء بعضها للتوثيق وحسب، مع ان ثمة الكثيرمن التميز والتمايز في الحضور، وفي القرب والبعد من الجواهري، وفي مجالسه، كماً ونوعاً، وعدا ذلك وفير.

1- للتفاصيل، كتابتنا: عن الجواهري وجمهرته، على الانترنيت.

2- وثقنا حول الموضوع بمادة: ذكريات عن ذكريات الجواهري، نُشرت في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية.

3 - تفصيلات ذات صلة في توثيقنا: الجواهري يرقص في التسعين، المنشورعلى شبكة الانترنيت، وفي وسائل اعلام اخرى.

4 - القصيدة المعنية: نونية سياسية مطولة، بعث بها الجواهري، جوابا على رسالة من صديقه، و"درويشه": جلال الطالباني، عام 1980.

5 - تفاصيل عن بعض تلكم الشؤون، نشرتها في إصدار خاص عام 1999 بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الجواهري.

6 - رثاءا الشاعر العظيم لشقيقته "نبيهة" وزوجته "أمونة" منشوران في كتاب: "الجواهري.. قصائد وتاريخ ومواقف" الصادر في بيروت عام 2012.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى