الجمعة ١٠ آذار (مارس) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم رشدي خليفة

دمعة العيد

اقترب أنت فأقدام الفقراء مثلى محدودة الخطى، لا تلوّح لي أكثر ببريق الريال وضوء العطايا.. فقط ابتسم تكفيننى منك هذه الهدية ولتكن على يقين انني ما مددت لك يدي الا مدفوعة بسياط الفقر وركلات الأهل وقسوة الزمن لكني ما زلت يا فارس الإشارة الحمراء أزهو بعزة نفس لا يطالها الأثرياء وأرفع هامتي ببراءة مغلوبة أهانها غيري وأجاهد اليوم كي استرد لها العافية.

في صباح لا تختلف شمسه عن صباحات سبقته استيقظت الصغيرة الجميلة من نومها لتبدأ مع الحياة صراعها المعتاد ورحلتها المعهودة...صغيرة لم تتعد السنوات العشر من عمرها ولكن الدنيا استكثرت عليها فرحة الصغار ومنحتها عمرا بحجم همومها فباتت لا تحلم بدمية وكرة ورداء بل اختزلت أمانيها فقط في حلم الريال نعم الريال.

خرجت الصغيرة يغالبها النعاس ويحدوها الأمل أن يكون لها اليوم مع الرحماء نصيب وأن تلتقى مع بدايات يومها بكريم يختصر لها ساعات الاستجداء ويعيدها بعطاياه إلى فراش النوم ثانية فكم هي بحق بحاجة لنوم طويل.

الرصيف هو المكان والاشارة هي ساحة الرزق وميعاد الدوام والبشر بل قلوب البشر هي الهدف والأمل والغنيمة.

الجميلة ترقب اللون الأحمر لإشارات الطريق تهرول من رصيف لرصيف, تسابق اللحظات كي تقبّل وجه الأيدي وتستعطف القلوب وتنكس الوجه البرئ في تراب الأرض لتلملم العطايا بفرحة ما لها حدود.

ها هي الرحمات.. يادنيا.. بات يحملها وجه التراب وها هي الطفولة قد أهانتها الحياة وشوهت براءتها ببعض من لطمات الكرب ووخزات الضيق.

ويا لتعاستها الصغيرة إذا مر اليوم بلا حصاد، الأم تضرب والأب يبصق في الملامح والوجوه ويلعن اليوم الذي وهب الدنيا هذا الوجه البريء.

الأيام تشابهت في قسوتها وجفافها وعقارب الساعة ما عادت تتحرك رحمة بالصغيرة وشفقة عليها فكل شيء في حياة الجميلة متعطل بأمر الريال والعطايا والقلوب . في كل صباح تستيقظ من فراشها لتعيد رغم قساوة الشمس المسيرة وتطرق بأناملها الزجاج وتنحني لتقبّل الأقدام وتسأل البشر البقايا ففي البيت أب ينتظر أقسم لئن عادت عودة الأمس اللعين لأذاقها مر العذاب. وفي البيت أم تترقب غياب الشمس وعودة الصغيرة بطعام الغداء واقسمت لئن عادت خاوية الوفاض لأذاقتها نار الحياة.

وتمر الساعات بالجميلة ما بين مشاهد الفزع والخوف وبين طوفان البشر الذين يرفضون النظر للبراءة طارقة الزجاج ويهرولون بسيارتهم الفارهة من هذا الوباء الذي استشرى ليشوه وجه المدينة.

الصغيرة باتت تكره اللون الأخضر وتراه سارق الأرزاق وتعشق الأحمر لون الانتظار وتتمنى من قلبها لو تتعطل الأنوار ويبقى الأحمر دليل الرزق وطوق النجاة.

يا لتعاستها بحق وهي اليوم على أعتاب عيد.. بكاء وخوف وفزع. وقديم وقديم هو الرداء.

السيارات تعود لتقف وتطرق الصغيرة الزجاج وتقدم الدموع بطاقة وتقاسيم الوجه شهادة وتجري من هنا لهناك كي تلحق بالأرزاق.. الكل يبتسم ولا حصاد. تجلس الجميلة على رصيف الأرض تبكي يومها الذي ضاع وتترقب ليلا بملامح سوداء تترجمه لطمات الوجه وركلات الصدر ونيران تحرق الأعضاء.

كم تمنت لو كانت ذات عاهة تستدر بها رحمات البشر أو تشير بها للبعض كي ينتظر ليسمع منها الحكاية ولتقسم له برب السماء إنها لا تريد لذاتها مالا بل لأب وأم قذفا بها إلى الدنيا لتكون لهما مصباح علاء الدين.

الكل يسرع ليشتري لصغاره رداء العيد وكأنها ـ وهي الجميلة الصغيرة ـ سقطت من قوائم الطفولة وركلتها وثائق البراءة بقدم ليست رحيمة.

دموع ودموع وبكاء علا صوته حتى بات كالصراخ فالجميلة خائفة من العودة لأحضان الذئاب. نعم ذئاب بوثائق بشر وكلاب يحملون كذبا هويّة الإنسان.

غابت الشمس والصغيرة تنتظر ربما يأتي القدر بكريم ابن كريم يمنحها ريالا واحدا تقدمه دليل التعب وتستأذن الأم النوم والأب راحة الجسد .. فكم كان اليوم عصيبا.

ولكن الشارع المكتظ بالبشر لم يكن له مع الكرماء نصيب.. ماذا تفعل الجميلة وليل المدينة ينتصف والسيارات ما عادت تحترم ضوء الإشارة ولا تقف ولا يرمق راكبوها البشر.

وجاءتها الهدية سيارة فارهة تتعثر في الإشارة وأصبح راكبوها في عيونها الصيد الثمين.. هذا هو الامل الأخير، امرأة جميلة وأطفال صغار ورجل تبدو عليه تقاسيم الوقار اقتربت تسأله الريال فأجابها بغلظة ونفور فأعادت تمسك بالرداء وتستحلفه بالله ثم الصغار فنهرها والتفت رافضا حتى الكلام.

لم تفقد الأمل وطرقت بأناملها الزجاج فإذا بالمرأة تفتح لها النافذة وتبتسم ولكنها كي تعلم صغارها معنى العطاء أخرجت من حقيبتها الريال وقدمته لصغيرها وطالبته أن يعطي الجميلة ويسألها الدعاء.

مشهد أكبر من أن يستوعبه كتاب أو يتحمله قلب بشر، صغير يمد اليد ليمنح طفلا ريال الطعام ويسأله أن يدعو له أجمل الدعوات.

دعت الجميلة واستمرت في الدعاء بل كادت تقبل الوجه واليد والجباه فهو لم يمنحها حق الطعام بل منحها بحق دليل الحياة.

أسرعت الصغيرة إلى بيتها الخشبي المتهالك لتجد الأب يداعب الام ذات القلب القبيح ويبتسمان الابتسامات العريضة ووقتما أطلا ليجداها بدا فاصل الألفاظ القبيحة سألاها عن الحصاد فقدمت لهما الريال وأقسمت انه جاء بعد يوم من العذاب فجرداها من ملابسها القديمة ربما تكون قد أخفت بين الثنايا بعضا من الكنز الثمين.

وامتدت الأيدي لتلطم الوجه البريء وكان العقاب المر هو الجزاء.

انتحت الجميلة جانبا تسأل نفسها ماذا أفعل والعيد قد اقترب.. كيف أرضي أبي وأنال حضن الأم تلك الذكرى التي غابت من زمن. ونامت على فراشها تبكي لا تدري أهو التعب أم الوهن أم الخوف من الآعيب الزمن وبدأت تستعيد صورة الصغير الذي وهبت له الدعاء فكان الجزاء مزيدا من بكاء.

وعلا في الأفق آذان الفجر الجديد فاذ بالأب يركل فراش نومها بالقدم ويدعوها بغضب أن تستيقظ فلقد بدأ العمل.. اليوم عيد والشوارع ملأى بالبشر.. اسألي وابكي بحق ولا ترمقي دمي الصغار. ولا تنظري لملابس البنات بل قولي فقط " لله" وحرّكي القلب الموات ببعض من ترانيم الدعاء. الشوارع ملأى بالبشر. اذهبي فجميعنا في البيت منتظر.

من الفراش للرصيف كانت الخطوة ومن دفء المنام لبرد الصباح كان المسير وعلى باب المسجد وقفت تنتظر خروج المصلين من الباحة العامرة.

هي تريد أن تنام ولكنها تخشى أن يغلبها النعاس فيضيع العيد أمل الأب الوحيد.

وخرج المصلون وتناثرت عليها الرحمات من كل مكان واستجمعت حصادا ليس بالقليل ويا لسعادتها فلن تنال اليوم العقاب ولن تفوز براءتها بقسوة اللطمات ولن يبصق على وجهها الأب ولن تلعنها الأم في صباح العيد.

أخذت طريقها لبيتها لترى الصغار في الحدائق يلعبون والفساتين ذات الألوان تحكي حكايات الثراء والبسمات الحلوة تؤكد تقاسيم العيد الجميل. أما هي فتريد أن تنام.. ما أجمله بحق نوم الصغار بلا صراخ أو بكاء وما أغربه عيد الفقراء عيد لا تؤكد ملامحه الحدائق ولا يعلن قدومه الهلال بل الريال فقط الريال.

ها هو العيد يا دنيا الحياة . فرحة هنا وبكاء هناك, طفولة تلهو وبراءة تبكي. قسمة غريبة وشكل لا تستوعبه العقول ولا تحتمله أقسى القلوب.

نامت الجميلة وعيونها ترمق سقف الغرفة وتمنت لو يزال هذا الجدار الإسمنتي الصلب الذي يحول بينها وبين السماء، تمنت أن تخاطب الحق ويخاطبها الحق وتسأل بصدق.. لماذا أنا بلا رداء جديد أنام بلا فرحة وابكي بحرقة؟!! ما الفرق يا ربي بين العيد والموت ؟ ما الجديد الذي أتى به الهلال ما دامت القساوة هي القساوة والدموع هي الدموع؟!

ألقت الصغيرة الغطاء فوق رأسها وارتدت في أحلامها فستانا احمر بل واستبدلته أمام المرآة بأخضر، أمسكت الورود بيديها وركلت الكرة بقدميها وضحكت وغنت وإذ بالصغير الذي أهداها الريال يناديها من فوق ربوة عالية يناديها باسمها ويدعوها لتصعد ولكنها لا تستطيع فاقدام الفقراء لا تقوى... نادته أن يقترب هو وذكّرته بميثاق العطايا وقانون الطفولة واستحلفته أن يقترب فهي بحاجة إليه.

ولكنه أبى ان تكون له مع البكاء رحلة ومع الأوجاع مسيرة ومع الهم والغم طريق ..صرخت له إياك ان تنسى يا شريك البراءة ويا مانح الريال إنني ما مددت لك يدي الا مجبورة بسياط العنف مدفوعة بركلات الأهل.. إياك ان تظن انني طفلة بلا عزة فو الله امتلكها ولكن من خلفي أناس يستكثرونها علىّ.. اذهب فكلانا إلى طريق مختلف ويكفيني أن أراك هنا في حلم سعيد وربما مرة أخرى في إشارة حمراء أهديك بسمتى وتهدينني الريال.

لوّح لها بيده وأشارت له بيدها.. هذا هو قسم الطفولة وعهد الجمال بين صغيرين ..عهد لا يعرف الكذب ولا الخداع ولا الخذلان.

فهل تلتقي الربوة والسفح، ويجتمع الفقر والثراء والدموع والبسمات أم أن الريال سيبقى مانعا والفقر حاجزا.. هذا ما تجيب عليه أحلام المنام وأعياد الدموع وإشارات الطريق.


مشاركة منتدى

  • دمعة العيد ليست كباقي الدمعات لأنها دمعة تحمل على أوردة أحزانها وانكسارات أحلامها كل قهر العالم في بوتقة الصراع على الريال ليفوز الجسد الصغير بنوم مريح لاعصا تجلد ظهره ولا ركلات قد تسبب الخدوش والكدمات .
    مهنة الذل مشفوعة بإرادة جبروت وقسوة من قلب لا يعرف سوى السواد وأنانية الأخذ، إنه الأب المتماهي مع سلطته الذكورية بوحشية الجلاد حين لا يرحم الضحية سواء أكان مذنباً أو غير مذنب.
    قصة تدور أحداثها حول واقع تردى فيه تماسك الفقر وانفصلت عنه شكيمة الصبر لأنه لا يسكن قلوب بشر يعرفون معنى الرحمة ولا الرأفة بعمر كان من المفترض أن ينهض على سرير من العزة والكرامة ، تنتهك حرية الطفولة وآمالها وأحلامها بأقسى وأبشع الصور، والظالم هنا أب وأم يشتركان مع بعضهما بأرذل وأقبح الصور.
    صراع البطلة الطفلة في كيفية الحصول على الريال لا يتوقف ، فهي تريده ليس من أجل قطعة حلوى أو ملابس عيد، إنها تريده كي ترد عن نفسها ظلم الأبوين .
    في القصة بناء لغوي متماسك يسرد الحدث والشخصية وحالتها ويندغم مع عقدة الصراع بين الشخصيات ، الأم، الأب، الأثرياء الذين لا يأبهون لتوسلات الطفلة الصغيرة ، والكاتب حين أراد ألا تنتهي القصة نهاية عادية وهذه ميزة المبدعين اختار طفلاً من أسياد الريال وجعله يقوم بالمهمة
    لتحلم الطفلة بحلم مخالف لقانون الأحلام ، فالطفل الذي منحها الريال يأبى أن ينزل إلى سلالم الفقر كي يمد يد الحب ولأجل عزة وإباء الطفولة تقول له:" اذهب فكلانا إلى طريق مختلف ويكفيني أن أراك هنا في حلم سعيد وربما مرة أخرى في إشارة حمراء أهديك بسمتى وتهدينني الريال."

    عرض مباشر : تعليق على قصة دمعة العيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى