الجمعة ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم محمد جمال صقر

فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ=2

أَسْئِلَةُ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ

ينبغي ألا يجوز العبث بين الاستماع والتحدث، إلا على الغَفَلَة الهازلين، فأما العاقلون الجادون فمشغولون بتحديد رسالة الكلام المستمع إليه المتحدث به، داخل مجاله، بضوابط معاييره.

وفيما يأتي أتحدث إليكم بكلام جديد عليكم -أو ينبغي أن يكون جديدا عليكم حتى تستقيم التجربة- أحب من خلاله أن أقيس درجة مهارتي بالتحدث، ودرجة مهارتكم بالاستماع، بالأسئلة الآتية التي لا تمنع اقتراح غيرها:

 أَلِمُعلِّمٍ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ متَعَلِّمٍ؟

 أَوَاضِحٌ أَمْ غَامِضٌ؟

 أَمُقْنِعٌ أَمْ قَاهِرٌ؟

 أَمُجَهَّزٌ أَمْ مُرْتَجَلٌ؟

 أَعِلْمِيٌّ أَمْ فَنِّيٌّ؟

 أَنَثْرٌ أَمْ شِعْرٌ؟

 أَقَدِيمٌ أَمْ حَدِيثٌ؟

 أَلِذَكَرٍ أَمْ أُنْثَى؟

 أَقَوِيٌّ أَمْ ضَعِيفٌ؟

 لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ؟

ولا ريب لديَّ في أنه تختلط في أجوبة هذه الأسئلة أساليبُ التفكير (حركة أفكار المتحدث)، والتعبير (حركة عبارات المتحدث)، والتقويم (حركة أحكام المستمع)، ولا عَجَبَ؛ فهي واحدة الأصل (العَقْل). ولكنني مضطر فيما يأتي إلى تمييز بعضها من بعض، تَوْسيعًا لنفسي، وتَيْسيرًا عليكم، بحيث أتحدث إليكم بالكلام نفسه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لأسألكم بعد المرة الأولى عن أسلوب التفكير، وبعد المرة الثانية عن أسلوب التعبير، وبعد المرة الثالثة الأخيرة عن أسلوب التقويم.

فَاسْتَمِعُوا أَوَّلًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّفْكِيرِ:

"اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَشَارَ لَيْسَ بِكَفِيلٍ، وَأَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ. بَلِ الرَّأْيُ كُلُّهُ غَرَرٌ لِأَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِثِقَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهَا يُدْرِكُهُ الْحَازِمُ إِلَّا وَقَدْ يُدْرِكُهُ الْعَاجِزُ. بَلْ رُبَّمَا أَعْيَا الْحَزَمَةَ مَا أَمْكَنَ الْعَجَزَةَ!

فَإِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ صَاحِبُكَ بِرَأْيٍ، ثُمَّ لَمْ تَجِدْ عَاْقِبَتَهُ عَلَى مَا كُنْتَ تَأْمُلُ- فَلَا تَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَلَاْ تُلْزِمْهُ لَوْمًا وَعَذْلًا بِأَنْ تَقُولَ: أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِي، وَأَنْتَ أَمَرْتَنِي، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ أَفْعَلْ، وَلَا جَرَمَ لَا أُطِيعُكَ فِي شَيْءٍ بَعْدَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ ضَجَرٌ وَلُؤْمٌ وَخِفَّةٌ.

فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمُشِيرَ، فَعَمِلَ بِرَأْيِكَ، أَوْ تَرَكَهُ، فَبَدَا صَوَابُكَ- فَلَا تَمُنَّنَّ بِهِ، وَلَا تُكْثِرَنَّ ذِكْرَهُ -إِنْ كَانَ فِيهِ نَجَاحٌ- وَلَا تَلُمْهُ عَلَيْهِ -إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبَانَ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ- بِأَنْ تَقُولَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ افْعَلْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا مُجَانِبٌ لِأَدَبِ الْحُكَمَاءِ".

أَلِمُعلِّم هَذَا الْكَلَامُ أَمْ مُتَعَلِّمٍ؟

يحرص المستمعون على كل كلام يستفيدون منه ما ينفعهم، ويرضون عما يبذلونه له من أوقاتهم التي لا تُعَوَّضُ. ولا يخفى أن هذا الكلام السابق إنما هو لمعلِّم يفيض على غيره مما علمه الله -سبحانه، وتعالى!- وهو يعلم أن زكاةَ العلم (تطهيرَه وتنميتَه) تعليمُه؛ فأَيُّما عالمٍ لم يُعَلِّم غيره علمه يَنْسَهُ، وإن سئل عنه فكتمه باء بإثم الكتمان في الدنيا والآخرة؛ فَإِنَّه "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[1].

وعلى رغم أن الحكمة فضل الله -سبحانه، وتعالى!- يؤتيه من يشاء -"وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا"[2]- نُرَجِّحُ أن الكلام لإنسان كبير السن قد حَنَّكَتْهُ تجارب العمر الطويل، إلى إنسان أصغر منه سنا وأقل تجربة. ومهما يكن الإنسان مجرِّبا فلن يعدم حوله إذا تَأَمَّل، مَنْ لا يستغني عن تجربته، "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"[3].
أَوَاضِحٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ غَامِضٌ؟
إذا لم يحظ الكلام بمثل ما بذل فيه من تفكير، لم يخرج المستمعُ منه بفائدته -مهما كان واضحا- فلا وضوح مع غفلة أو كسل أو إعراض أو إهمال.

وعلى رغم حكمة ما في أسلوب الكلام السابق من تفكير، لا يغمض على من أصغى إليه، بل يستطيع أن يميز فيه ثلاث فقر بثلاث فكر:

1 فقرة أولى في طَبِيعة الرَّأْي على العموم: "اعْلَمْ (...) الْعَجَزَةَ".

2 فقرة ثانية في أَدَب الِاسْتِشَارَة على الخصوص: "فَإِذَا أَشَارَ (...) وَخِفَّةٌ".

3 فقرة ثالثة في أَدَب الْإِشَارَةِ على الخصوص: "فَإِنْ كُنْتَ (...) الْحُكَمَاءِ".

مثلما يستطيع أن يميز أن رسالته في "الأَدَب" (التَّهْذيب الخُلُقِي)، على حسب اصطلاح القدماء بكلمة أَدَب على كل ما أنار بصيرة الإنسان من الكلام- وأنه لا يجوز أن تُحَدَّد رسالته بأنها في طبيعة الرأي على حسب فكرة الفقرة الأولى، ولا في أدب الاستشارة على حسب فكرة الفقرة الثانية، ولا في أدب الإشارة على حسب فكرة الفقرة الثالثة، بل ينبغي أن تُحَدَّد بما يشمل الثلاثة جميعا معا. وليس أَسَدَّ من تحديدها وعنونتها بـ"أَدَب التَّشَاوُر"؛ ففي التشاور تختلط الاستشارة بالإشارة في كلمة واحدة من كلمات التشارك، يجوز أن يكون كل طرف من أطرافها فاعلا ومفعولا، أي مشيرا ومستشيرا (مشارا عليه).

أَمُقْنِعٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ قَاهِرٌ؟

ليس حتما إذا تحدث إلينا من يَفْضُلُنا علما وخبرة أن يقهرنا بالأمر -وإن كان بخير- أو النهي -وإن كان عن شر- من غير أن يجادلنا في ذلك، بل مِنْ فضل الفاضل أن يُحْسِنَ التَّأَتِّيَ إلى التفضُّل على غيره بأمره أو نهيه.

ومن حسن التأتي إلى تعليم الآخرين وتنبيههم، أن نجادلهم فنستمع إليهم كما استمعوا إلينا، ونبين لهم وجوه الصواب فيما نقول، ووجوه الخطأ فيما يقولون، وهو ما جرى عليه الكلام الذي تحدثتُ به إليكم؛ فقد مَهَّدَ الطريق إلى إقناع المستمعين بضرورة التشاور، بتأليف قلوبهم؛ إذ أرضاهم عن أعمالهم أولا بأنه ليس في الدنيا رأي مضمون، وهو ما يعفيهم من ذنب التقصير. ثم نَقَدَ حالين متضادتين إذا كان أَيٌّ المستمعين في إحداهما لم يكن في الأخرى؛ فأشعرهم بالإنصاف الذي يُوَلِّد الثقة التي تُغْري بالانْتِصَاح (قبول النصيحة).

ولا يغيِّر من طبيعة هذا الكلام الإقناعية، ما ذُيِّلَتْ به فِقَرُهُ من أحكام ساخرة؛ فهي محمولة على الأوضاع المحذَّرة المستبعدة من أفعال المستمعين.

أَعِلْمِيٌّ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ فَنِّيٌّ؟

إِنَّ الْعِلْمَ نِظَامُ أَفْكَارٍ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْقِ بَحْثٍ تَجْرِيبِيٍّ، وَإِنَّ الْفَنَّ سِيَاقُ أَفْكَارٍ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْقِ تَدَاعٍ نَفْسِيٍّ. ولقد جرى الكلام الذي تحدثت به إليكم، على خلاصة ما أَدَّتْهُ مُعاشرةُ الناس والخبرةُ بأحوالهم، ثم تنظيمِ دقائق هذه الخلاصة في نظام مُحْكَم ينقل وجهة نظر محددة ويقتضي الأخذ بها؛ فهو مِنْ ثَمَّ كلامٌ علمي، مهما كانت تعبيراته مثقفة تثقيفا كاملا يَتَجَلَّى هنا في أجوبة الأسئلة الأخرى؛ فإن التثقيف طريق ينبغي أن يسلكه الكلامُ كُلُّه ليصل إلى غاية الإتقان، فأما ما نطلع عليه في بعض كتب العلم العربية المعاصرة من رَكَاكَاتٍ تُخَالِفَ عن طريق التَّثْقِيف إلى طريق التَّسْخِيف، فمَظْهَرٌ من ضياع العلم بين أيدي بعض مُدَّعيه، ينبغي ألا يُسْكَتَ عليه.

ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَانِيًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّعْبِيرِ: ...

أَلِذَكَرٍ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ أُنْثَى؟

"إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الْأَقْوَامِ (الرجال)" كما قال المثل الشعري العربي القديم، أي مُكَمِّلاتهم؛ فلا تقوم حياة ولا تستمر بأيٍّ من الذكور والإناث دون الآخر؛ ومن ثم يتطلع المستمعون كلما بلغهم نَبَأ حوار، إلى معرفة نوع طَرَفَيْه، حتى يضعوه في موضعه من التكامل المطلوب.

ولقد ذَكَّرَ الكلام السابق من كَلِمَاته، ما يدل على أن المخاطب به ذَكَر -والذكورة والأنوثة ظاهرتان حَيَويَّتان طبيعيتان، أما التذكير والتأنيث فظاهرتان لغويتان عُرْفيَّتان- على النحو التالي:

- لقد قال: "اعْلَمْ"، ولو كان لأنثى لقال: اعْلَمِي.
- وقال: "عَلَيْكَ"، ولو كان لأنثى لقال: عَلَيْكِ.
- وقال: "صَاحِبُكَ"، ولو كان لأنثى لقال: صَاحِبُكِ.
- وقال: "لَمْ تَجِدْ"، ولو كان لأنثى لقال: لَمْ تَجِدِي.
- وقال: "كُنْتَ" مرتين، ولو كان لأنثى لقال: كُنْتِ.
- وقال: "تَأْمُلُ"، ولو كان لأنثى لقال: تَأْمُلِينَ.
- وقال: "لَا تَجْعَلْ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تَجْعَلِي.
- وقال: "لَا تُلْزِمْهُ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تُلْزِمِيهِ.
- وقال: "بِأَنْ تَقُولَ" مرتين، ولو كان لأنثى لقال: بِأَنْ تَقُولِي.
- وقال: "أَنْتَ"، ولو كان لأنثى لقال: أَنْتِ.
- وقال: "الْمُشِيرَ"، ولو كان لأنثى لقال: الْمُشِيرَةَ.
- وقال: "بِرَأْيِكَ"، ولو كان لأنثى لقال: بِرَأْيِكِ.
- وقال: "لَا تَمُنَّنَّ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تَمُنِّنَّ.
- وقال: "لَا تُكْثِرَنَّ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تُكْثِرِنَّ.
- وقال: "لَا تَلُمْهُ"، ولو كان لأنثى لقال: لَا تَلُومِيهِ.

فأما المتحدث المختبئ في أسلوب الكلام خلف حكمته، فقد جرت العادة أن يتحدث بكلام نفسه لا كلام غيره حتى يَثْبُتَ للمستمع أنه نَقَلَه عن غيره؛ فإذا لم يكن في أسلوب هذا الكلام ما يمنع حَمْله على مَنْ تَحَدَّثَ به وَجَب حَمْلُه عليه. ولكن إذا حُمِلَ أسلوب الكلام على التَّجْرِيد (تمييز المتكلم لنفسه من نفسه وتوجيه الكلام إليها وكأنها شخصٌ آخر)، اتضح من تَذْكِير كلمات الكلام على النحو السابق، أن طرفي الحوار ذَكَران، بل ما هما إلا ذَكَرٌ واحد!

أَقديمٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ حَدِيثٌ؟

تتطور اللغة الحية فأما اللغة الجامدة فلغة ميتة؛ ومن ثم يستطيع المتأمل أن يميز في أساليب الكلام التي يستمع إليها قديمَها أو قَدَامِيّها المتشبِّه بقديمها، من حديثِها أو حَدَاثِيّها المتشبِّه بحديثها- بمقياس الاستعمال غير المنظور فيه إلى أَفْضَلِيَّة قديم أو حديث؛ فما يجده فيما يستعمله فهو حَدِيث أو حَدَاثِيّ -وإن تواترت على استعماله أجيال الناس- وما يفتقده فيما يستعمله فهو قَديم أو قَدَامِيّ، وإن قاله أخوه ابن أمه وأبيه! ثم يظل في الإمكان مكانُ ما لم يُسْتَعْمَلْ قَطُّ، للمُسْتَقْبَلِيّ الذي يطمح به بعض المتكلمين إلى ما يَمَسَّه أحد!

وفي أسلوب الكلام السابق قَدَامَةٌ واضحة في اختيار بعض المفردات، على النحو التالي:

- "غَرَر"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "احْتِمَال".
- "أَعْيَا"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "أَتْعَب".
- "دَيْن"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "حَقّ".
- "العَذْل"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث "اللَّوْم".
- "لَا جَرَمَ"، والشائع بمعناها في الكلام الحديث القَسَم.

وفي اختيار جمع تكسير "الحَازِم" على صيغة "الحَزَمَة"، والشائع في الكلام الحديث جمع التسليم "الحَازِمُون".

وكذلك تتجلى قدامة أسلوب الكلام في اختيار بعض التركيبات، على النحو التالي:

 "(...) لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ (...)"، فتركيب ضمير شأن (الهاء) الذي يفتقر بعده إلى جملة كاملة تعبر عن المضمر فيه، قليل الاستعمال في الكلام الحديث.

 "إِنَّ هَذَا كُلَّهُ ضَجَرٌ وَلُؤْمٌ وَخِفَّةٌ (...) إِنَّ هَذَا مُجَانِبٌ لِأَدَبِ الْحُكَمَاءِ"؛ فإن الإشارة بـ"هذَا" إلى التفاصيل الكثيرة السابقة، والتزام تأخير التعليل عنها، نمط من التركيب قليل الاستعمال في الكلام الحديث.

 "إِنْ كُنْتَ (...) فَعَمِلَ (...) أَوْ تَرَكَهُ (...) فَبَدَا (...) فَلَا تَمُنَّنَّ (...) وَلَا تُكْثِرَنَّ (...) وَلَا تَلُمْهُ (...)"؛ فإن تفريع جمل الشرط والجواب على هذا النحو المُهَنْدَس المُؤَنَّق، قليل الاستعمال في الكلام الحديث.

أَمُجَهَّزٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ مُرْتَجَلٌ؟

في الكلام المجهز تأنٍّ وإعادةٌ وتهذيبٌ، وفي الكلام المرتجل تَعَجُّل واكْتفاء وإِغْضاء؛ فإذا كان هذا المُرتجَل أَسْرَعَ حُضورا، فإن ذاك المُجهَّز أشدُّ تأثيرا؛ وما أكثر ما آثَرَ بعض المتحدثين أن يجهزوا ما سيتحدثون به؛ قال البَعِيثُ الخَطيب المِصْقَعُ (البارع الموفَّق): "مَا أُريدُ أَنْ أَخْطُبَ يَوْمَ الْحَفْلِ إِلَّا بِالْبَائِتِ الْمُحَكَّكِ (المجهَّز المهذَّب)"[4]!

ولا ريب في أن هذا الكلام الذي تحدثت به إليكم كلام مُجَهَّزٌ؛ إذ لم تُفْلِتْ منه فَلْتةٌ، ولم تَهْفُ هَفْوةٌ، ولم تَخْتَلَّ قِسْمةٌ. بل يدل تنسيقه الواضح على طول تجهيزه؛ فلقد اشتمل على ثلاث طبقات من التنسيق، بعضها فوق بعض، على النحو التالي:

 تَنْسِيق التَّعْبيرات (والتعبير ما تحت الجملة وفوق الكلمة من مركبات)، كتنسيق قوله: "أَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ" على وَفْق قوله: "أَنَّ الْمُسْتَشَارَ لَيْسَ بِكَفِيلٍ".

 تَنْسِيق الجُمَل، كتنسيق قوله: "لَاْ تُلْزِمْهُ لَوْمًا وَعَذْلًا"، على وَفْق قوله: "لَا تَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَيْنًا"، ثم تأخير المتعلقات المشتركة بينهما.

 تَنْسِيق الفِقَر، كتنسيق قوله: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمُشِيرَ (...) فَإِنَّ هَذَا مُجَانِبٌ لِأَدَبِ الْحُكَمَاءِ"، على وَفْق قوله: "إِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ صَاحِبُكَ بِرَأْيٍ (...) فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ ضَجَرٌ وَلُؤْمٌ وَخِفَّةٌ".

أَنَثْرٌ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ شِعْرٌ؟

للكلام كله نثره وشعره لفظه الظاهر ومعناه الباطن، ولا يستغنيان جميعا معا عن التَّحْدِيد (اختيار المفردات وتبديلها حتى تَتَحَدَّد)، والتَّرْتِيب (تقديم المفردات وتأخيرها حتى تَتَرَتَّب)، والتَّهْذِيب (إضافة المفردات وحذفها حتى تَتَهَذَّب).

ولكن يمتاز الشعر من النثر بوجود العَروض في أصول كل عمل من تلك الأعمال (التَّحْدِيد والتَّرْتِيب والتَّهْذِيب)، وفروعها، بحيث يخرج الكلام في الشعر مطبوعا بطابع العروض، على حين يخرج في النثر غير مطبوع بطابعه.

وما العروض إلا الأوزان والقوافي التي نتلقاها في الشعر منذ العصر الجاهلي إلى الآن، التي يستقل بتفصيل أمرها علم العروض، وربما اسْتَحْسَنَّا أن نُلِمَّ ببعض شأنها إذا دعت الحاجة.

ولا يخفى أن الكلام السابق نص من النثر لا الشعر؛ فلا أوزان عروضية له ولا قوافي، وإن كان لحُسْن تَنْسِيقه (تَقْطِيعه وتَقْسِيمه ومُزَاوَجَته)، أَثَرٌ من التَّنْغِيم الطَّرُوب غير العروضي.

ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَالِثًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّقْوِيمِ: ...

أَقَوِيٌّ هَذَا الْكَلَامُ أَمْ ضَعِيفٌ؟

إن المؤمن القوي "خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ"[5]. والكلام كالمتكلم، قويه خير من ضعيفه، وربما أدى ضعيفه من المراد ولا سيما بين الضعفاء ما لم يُؤَدِّه القويُّ!

ولقد ينبغي أن أحرص على أن أسمعكم الكلام القوي دون الضعيف، لتتطبعوا بطبيعته، وتتمكنوا من مجاراته؛ فقد أوشك ما نسمعه دائما أن يُلْبِسَ علينا أمورنا؛ فنُقَوِّيَ الكلامَ الضعيفَ، ونُضَعِّفَ القويَّ!

ومقياس قوة الكلام وضعفه اختلال لفظه ومعناه، ولا يخلو منه كلام إلا المعصوم؛ فمن ثم ينبغي أن يُراعَى في الحُكْمِ التَّفَاوُتُ؛ فكلُّ ما زاد فيه الاختلالُ كان من الضعف بمقدار ما فيه، وكلُّ ما نقص فيه الاختلالُ كان من القوة بمقدار ما فيه.

ولا يستغني المقام عن المُوازنة بين نصوص الكلام المُتَعَدِّدة المُشْتَبِهَة؛ فتَقْوِيَة الكلام تَمْييزه من غيره بنِسْبته دونه إلى القُوَّة، ولا سبيل إلى تمييز كلام لم يُنَافِسْهُ كلامٌ آخر؛ فإذا تَيَسَّرَ لنا في بعض المقامات، أن نستمع إلى نصوص متعددة مشتبهة، ووازنَّا بعضها ببعض؛ فقَوَّيْنَا، أو ضَعَّفْنَا- فَبِها ونِعْمَتْ. وإذا لم يَتَيَسَّرْ لنا ذاك اعتمدنا على ذَخِيرَتِنا مما استمعنا إليه طَوال حياتنا، وأضفنا إليها ما نستمع إليه الآن، ووازنَّا ما فيها بعضه ببعض. وفي هذا يختلف المستمعون؛ فربما حَظِيَ بعضهم في إِبَّان الطَّلَبِ بالكلام القَوِيِّ، وابتُلِي بعضهم بالكلام الضَّعِيف، واختلف على بعضهم الكَلَامَانِ الضعيفُ والقويُّ؛ فحَكَمَ كلٌّ منهم بما عَلِم! وإذا لم يَتَيَسَّرْ لنا هذا ولا ذاك تَخَيَّلْنا للكلام وجهًا آخر جائزا، ووازنا فيه بين الوجهين!

لقد استعمل المتحدث في أول الكلام السابق كلمتي كَفِيل ومَضْمون، وهما متقاربتان بحيث ربما جاز الجمع بين المستشار والرأي للحكم عليهما جميعا حكما واحدا بأنهما غير كَفِيلَيْنِ. ولكن المتحدث خالف بينهما ليميز معنى الفاعل الذي في كَفِيل (صيغة المبالغة في كَافِل) -فإن المستشار لا يَكْفُل لمن استشاره صوابَ ما أشار به عليه- من معنى المفعول الذي في مَضْمُون؛ فإن الرأي لا يُضْمَن صوابُه، ولو جعله غير كَفِيل كما جعل المُستشار، لكان من التَّكَلُّف الذي يَعُوق الفهم.

ثم استعمل كلمتي لَوْم وعَذْل، متعاطفتين وهما عند المتعجلين بمنزلة كلمة واحدة. ومثل هذا التطابق المظنون لا يكون إلا بين اللهجات المتفاصلة التي لا يعرف أصحابها أنهم يسمون الشيء الواحد أسماءً مختلفة بينهم، ويُدْهَشُون حين يَعْرِفون، مثلما أُدْهِشَ سيدنا أبو هريرة -رضي الله عنه!- حين سمع من رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- كلمة "سِكِّين"، ولم يكن يعرف إلا "المُدْيَة"[6]. ولو عرف "السِّكِّين" ثم استعملها مع "المُدْيَة" لكان من الاختلال المذكور فيما سبق. ولكن في العَذْل معنى ليس في اللَّوْم؛ إذ لا يتجاوز اللائم الأَخْذ على المَلُوم، فأما العاذل فيَشْوِي المَعْذُول بلسانه، هذا معلم من معالم قوة الكلام السابق لا ضعفه!

ومن معالم قوة الكلام كذلك تَدَاخُلُ عناصره تَدَاخُلَ طَاقَات الحبل المَفْتُول، على وجوه مختلفة، منها الاعتراض بين أجزاء العنصر الواحد بما ليس منها، مثلما اعْتُرِضَ في الكلام السابق، بين أجزاء "لَا تُكْثِرَنَّ ذِكْرَهُ (...) وَلَا تَلُمْهُ عَلَيْهِ (...) بِأَنْ تَقُولَ" -وهي عناصرُ متعددة جعلها التعاطفُ بينها في إطار جواب الشرط كالعنصر الواحد- بعبارتَيْ "إِنْ كَانَ فِيهِ نَجَاحٌ"، و"إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبَانَ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ".

لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ؟

قد سبق أن هذا الكلام قديم، ولكنه لا يبلغ في القدم أن يكون من العصر الجاهلي؛ إذ قد اشتمل من تفاصيل مظاهر ظاهرة التشاور، على ما كان الجاهليون يُوجِزُونَه. ويصعب أن يكون من العصر الإسلامي (عصر صدر الإسلام)؛ إذ قد خلا من شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف، التي اشتغل بهما المسلمون الأوائل عما عداهما، حتى عن كلام أنفسهم. وكذلك يصعب أن يكون من العصر الأموي الذي راجع أهلُه الأساليب الجاهلية، حتى شُبِّهَ بعضُهم ببعض الجاهليين. ولكنه لا يمتنع أن يكون من العصر العباسي الذي تشعبت فيه شعب الثقافة العربية الإسلامية، واتسعت لكل وافد، وتطورت بكل جديد، حتى استحدث أهله ما تتجلى فيه ثقافتهم الواسعة المتطورة، من أساليب التفكير والتعبير.

إنه لعبد الله بن المقفع (المولود سنة 106هـ، المتوفى سنة 142هـ)، أحد كبار الكُتَّاب والمترجمين في تاريخ اللغة العربية، وأئمة الأساليب المُؤَثِّرة[7].

وهو باب من كتابه "الْأَدَب الْكَبِير"[8]، المُبَوَّب على أبواب مِثْله غير معنونة، أستحسن فيما يأتي أن أورد منه كذلك، هذين البابين المتكاملين المناسبين:

"تَعَلَّمْ حُسْنَ الِاسْتِمَاعِ كَمَا تَتَعَلَّمُ حُسْنَ الْكَلَامِ. وَمِنْ حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِمْهَالُ الْمُتَكَلِّمِ حَتَّى يَنْقَضِيَ حَدِيثُهُ، وَقِلَّةُ التَّلَفُّتِ إِلَى الْجَوَابِ، وَالْإِقْبَالُ بِالْوَجْهِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَالْوَعْيُ لِمَا يَقُولُ"[9]. "وَاعْلَمْ فِيمَا تُكَلِّمُ بِهِ صَاحِبَكَ، أَنَّ مِمَّا يُهَجِّنُ صَوَابَ مَا يَأْتِي بِهِ، وَيَذْهَبُ بِطَعْمِهِ وَبَهْجَتِهِ، وَيُرْزِي بِهِ فِي قَبُولِهِ- عَجَلَتَكَ بِذَلِكَ، وَقَطْعَكَ حَدِيثَ الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْكَ بِذَاتِ نَفْسِهِ"[10].

[1] سنن أبي داود: 3/260.
[2] البقرة: 269.
[3] يوسف: 76.
[4] الجاحظ "البيان والتبيين"، بتحقيق عبد السلام هارون: 1/178.
[5] مسلم "المسند الصحيح"، بتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: 4/2052.
[6] أحمد "المسند"، بإشراف عبد الله التركي: 14/32-33.
[7] الذهبي "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام"، بتحقيق بشار عواد معروف: 3/910. وقد ذكر وفاته فيما بين سنتي 141 و150 الهجريتين، قائلا: "أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ بِالْكِتَابَةِ وَالْبَلاغَةِ وَالتَّرَسُّلِ وَالْبَرَاعَةِ، وَكَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ وَهُوَ كَهْلٌ، ثُمَّ كَتَبَ لَهُ، وَاخْتَصَّ بِهِ (...) قَالَ الأَصْمَعِيُّ: صَنَّفَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ الدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ الَّتِي لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهَا فِي فَنِّهَا. وَقَدْ سُئِلَ: مَنْ أَدَّبَكَ؟ قَالَ: نَفْسِي؛ كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ مِنْ غَيْرِي حَسَنًا أَتَيْتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتُ قَبِيحًا أَبَيْتُهُ. وَيُقَالُ: كَانَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ عِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَقْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ فِيمَا قِيلَ، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَّبَهُ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ (...) والمُقَفَّعُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الصَّحِيحُ، وَقَالَ ابْنُ مَكِّيٍّ فِي كِتَابِ تَثْقِيفِ اللِّسَانِ: يَقُولُونَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ، وَالصَّوَابُ بِكَسْرِ الْفَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ الْقِفَاعَ وَيَبِيعُهَا، وَهِيَ قِفَافُ الْخُوصِ". قلتُ: والقِفَاع جمع قَفْعة، والقِفَاف جمع قُفّة.
[8] ابن المقفع "الأدب الكبير"، بتحقيق أحمد زكي باشا: 122-123.
[9] ابن المقفع "الأدب الكبير": 121.
[10] ابن المقفع "الأدب الكبير": 123.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى