الأحد ٣ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم عثمان آيت مهدي

من وحي الإصلاح التربوي

أحزان الغربة

أستيقظ، عادة، الساعة السادسة والنصف صباحا، على رنين الهاتف المبرمج في هذا الوقت على مدار الأسبوع. رغم مرور سنين عديدة على هذه العادة إلا أنني لم أستطع تعودها، ولا تقبلها في أعماق لا وعيي. أشعر بثقل جسمي الذي لا يساعدني على الوقوف والاستعداد للذهاب إلى العمل، أتقلب يمنة ويسرة، أحاول إقناع نفسي بأنّ وقت الاستيقاظ لم يحن أوانه. آه، لو لم أختر هذه المهنة المتعبة، المرهقة للأعصاب. تنتابني أفكار غريبة تشجعني أحيانا على الغياب، باحثا عن مبررات واهية، وتارة أخرى أفكر في الغياب وكفى، دون سبب ولا مبرر، وأحيانا تراودني فكرة التوقف النهائي عن ممارسة هذه المهنة.

لقد تعبت، ولم أعد أقوى على مجابهة من يرونهم مستقبل الأمة وذخر الوطن، وأراهم مستقبل تخلف الأمة وهشاشة ذخر الوطن. لم أعد أقدر على الوقوف أمامهم، أكلمهم فلا يستمعون وأشرح فلا ينتبهون، وأعيد ثانية وثالثة فلا يأبهون. تلهيهم هواتفهم من أرقى ما أنتجته التكنولوجيات الغربية والصينية. تشغلهم حركات وفنيات اللاعب البرشلوني أو المدريدي، في مقابلة من الدور الإسباني، ثمّ يتمادى النقاش ليصل بهم إلى الخصام والعداء. إنهم يتقنون مصطلحات الموضة والموسيقى وكرة القدم، والهواتف آخر التكنولوجيات، والتسميات المختلفة للسندويشات وأنواع الحلوى والمشروبات الغازية.. لا داعي لمناقشتهم في مواضيعهم لأنك ستكتشف مدى تأخرك عن مسايرة الزمن الحالي.. كما لا داعي لمناقشتهم عن السياب أو البياتي أو عبد الرحمان جيلي أو غيرهم من شعراء العصر الحديث، لأنك ستكتشف مدى بعدهم عن حضارتهم وجهلهم بها. لا يريدون منك قصة ولا قصيدا ولا مقالا.. حصتك مملة وثقيلة، عباراتك وألفاظك من زمن غير زمانهم، وموضوعك غريب عن واقعهم، فلا مكان لك بينهم.

كان عنوان درسي اليوم: "أحزان الغربة" لعبد الرحمان جيلي، الشاعر والناقد السوداني. بعد التمهيد، وقبل التعريف بصاحب النص، بادرني أحدهم بقوله: مسكين هذا الشاعر الذي أحس بآلام الغربة وحنّ إلى وطنه؟ إنه ساذج لا يفقه في السياسة شيئا، يجهل هموم وطنه، ولا يعي معنى العودة إلى بلد تنهكه الحروب، وتثقله المحن والويلات، فقر، جهل، أمراض.. ليتني كنت مكانه، أقتلع جذوري من هذا البلد، أغيّر اسمي ولقبي وجنستي..

أعلم أنني وقعت في مأزق، لا أستطيع الخروج منه. كيف أقنعه بأن الغربة صعبة على صاحبها، وهو يعيش الغربة في وطنه وبين أهله؟ بماذا أردّ عليه وهو يعلم أنّ من يسافر إلى أوروبا نسبة رجوعه إلى أرض الوطن ضئيلة جدا؟ ماذا أقول له عن الظلم الذي يعيشه في بلده والحرية التي يرغب أن يحياها في بلاد الغربة..؟ لقد اختلطت عليّ الأمور، ولم أعد أقتنع أنا الآخر بما يعانيه الشاعر، رغم أنّ زمنه وزماننا مختلفان. هل أواصل في نفاقي أم أعترف بالحقيقة؟ هل أقدم لهم درسي كما هو مبرمج على أقسام هذا المستوى، أم أتصرف فيه وأختار قصيدة عن: "الهروب من الأوطان برّا أو بحرا أو جوّا؟"

فهمت الآن أنّ بونا شاسعا يفصل بيننا، لا يمكن أن نربي أبناءنا على أفكار بالية لا تساير عصرهم، فهمت الآن لماذا تعبت من هذه المهنة التي حولتني إلى سبّاح يسبح ضد التيار فانهارت عضلاتي وتملكها الفتور، فكانت النتيجة التغيب وتجنب المواجهة من جهتي، والنفور والاستهتار واللامبالاة من طرف هؤلاء الذين اقتنعوا بأنّ خير الأوطان ما حملك.
هذه بعض النصوص الشعرية المبرمجة عليهم: "منشورات فدائية" لنزار قباني، "حالة حصار" لمحمود درويش، "الإنسان الكبير" لمحمد صالح باوية، "أغنيات للألم" لنازك الملائكة... قصائد عن الثورة الفلسطينية، عن الثورة الجزائرية، التعبير عن الآلام والمعاناة، عن الغربة... إنها نصوص سوداوية لجيل تشدّه تسريحة شعره أكثر من استماع لآلام الشعراء، ويقضي جلّ وقته وراء التلفاز، أو أمام الأنترنات متنقلا من موقع إلى آخر، أو مع الأصدقاء والخلان يتبادلون أطراف القيل والقال..
متى يستفيق هؤلاء المسئولون عن قطاع التربية والتعليم، ليكتشفوا أنهم يخاطبون جيلا بلغة لا يفقهونها، وفكر لا يؤمنون به؟ متى يعلم هؤلاء المسئولون أنهم أتعبوا الأساتذة ونفروا التلاميذ عن الدراسة وأغراقوهم في ثورات ولى عليها الزمن وأصبحت من التاريخ؟ أين هي النصوص الشعرية التي تعبر عن آلامهم وطموحاتهم، ونصوص نثرية تتناول قضاياهم الاجتماعية والسياسية والثقافية؟ إلى متى سنبقى نعامل أبناءنا معاملة آبائنا وأجدادنا؟

سواء كان هذا العمل مقصودا أو غير مقصود، فإنّ التعليم يزداد تدهورا من سنة إلى أخرى، والأستاذ قلقا وغضبا، والتلميذ جهلا وتسربا من المدرسة، والأمة تخلفا وتبعية.

أحزان الغربة

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى