الأحد ١٧ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم فيصل سليم التلاوي

بستان أبو خليل

كنت أتعمد التباطؤ في سيري، وأنا أذرع طرقات قريتي التي لم تطأها قدماي منذ أربعين عاما، وكأنني أترفق بأديم ترابها من أن يؤلمه وقع خطواتي، بينما رحت أتأمل الجدران الحجرية القديمة على الجانبين، وأغرس نظراتي في أرضية الدروب الضيقة المؤدية إلى غابة من البساتين تحيط بالقرية من سائر جهاتها، فتبدو للناظر من بعيد وقد تدثرت بلحاف من الخضرة الدائمة.

و رحت أمعن النظر في أدق ملامحها التي بقي معظمها على حاله، فأحس أنني لا أعود إلى قريتي فحسب، بل إنني أعود إلى أيام طفولتي و صباي، فينثال في مخيلتي فيض من الذكريات، وأطلق العنان لخيالي ولخطواتي، لتختار الدروب التي ألفتها والتي تحبها أكثر من غيرها.

إنني أسير الآن متباطئا بمحاذاة بستان " أبوخليل الكايد "، مفسحا المجال لأسراب من طيور الذكريات، التي ظلت تحلق دهرا في مخيلتي حول هذا البستان، الذي كان أجمل بساتين القرية، وأنضرها عوداً. وأذكر خليل الكايد منذ كنا ِتربين صغيرين، ولا أنسى غيرتي الشديدة من تفوقه الدراسي علينا جميعا نحن أبناء صفه، وأذكر كل محاولاتي التي بذلتها لمنافسته واللحاق به، والتي باءت جميعها بالفشل، الذي لازمتني مرارته طيلة السنوات التي زاملته فيها.

لقد كان خليل طرازا فريدا من الفتيان في ذكائه المتقد وحافظته العجيبة، مع أن ظروفه كانت عسيرة، فقد كان والده رقيق الحال، ضعيف ذات اليد، وكان خليل يمضي أطراف نهاره: قبيل دوامه المدرسي وما بعده بصحبة والده في بستانهم الوحيد، الذي يتمدد مزهوا بعرض الوادي في الطرف الغربي من القرية. إنه أجمل البساتين وأكثرها نضرة وأوفرها ثمرا.

يروي آباؤنا في أحاديثهم أنه كان قطعة أرض جرداء عندما اشتراه أبو خليل بثمن بخس من صاحبه، الذي باعه ليفي بنفقات مغامرته في السفر إلى الكويت في أيامها الأولى، بعد أن ملّ الفلاحة وسنواتها العجاف، التي لا تطعم من جوع، ولا تكسو من عري.

لقد أفنى أبو خليل سنوات عمره كدحا وعرقا، حتى أحال هذه البقعة الجرداء إلى جنة خضراء، غرس فيها ما تشتهيه الأنفس من الأشجار، حتى صار هذا البستان منتهى أمله، يصل فيه ليله بنهاره، ولا يطيق صبرا على فراقه ولو ساعات ليله، وكثيرا ما يؤثر أن يبيت فيه، خاصة في ليالي الصيف المقمرة، أو يبكر في غدوه إليه بعد صلاة الفجر مباشرة.

ومن جملة ما أذكره اليوم طيف سعدى الكايد، وقد صبح وجهها المستدير كطلعة البدر، وعينيها السوداوين الواسعتين، وضفيرتيها الطويلتين المرسلتين على جانبي ظهرها، يتسلل طرفاهما خارجين من تحت منديلها الطويل، الذي يلف شعرها وينسدل على معظم ظهرها.

كانت سعدى شابة تخطو نحو سن الزواج في عرف أهل الريف، يوم كنا أطفالا صغارا في سن أخيها خليل. ورغم الشعور المفعم بالنشوة وبالسعادة، الذي كان يغمرنا عندما نتعمد المناداة على أخيها خليل، لصحبة في طريق المدرسة أو للسؤال عن واجب مدرسي، فيصدف أن ترد علينا سعدى أو تكلمنا من وراء الباب.

لكن سعادتنا تلك ما كانت لتقارن بسعادة كنا نسترق النظر إليها على وجوه فتيان يكبروننا سناً، عندما يمرون من أمام بيت " أبو خليل "، أو عندما يلمحون على البعد طيف سعدى ذاهبة أو آيبة. وهي لا تلقي لهم بالا ولا تعيرهم انتباها.
وحده كان إبراهيم الناصر، جارهم من الناحية الشمالية، يملأ عينيها، ويحظى بما لا يحظى به غيره من الفتيان.

لم تكن تدري ولا هو، أننا نحن الصبية الصغار كنا نتلصص عليهما من وراء جدار متداعٍ، أو من خلف نافذة خشبية هرمة، عندما كان يطيل الوقوف خلف نافذتهم الجنوبية الوحيدة، أو يتعمد الصعود إلى سطح المنزل متظاهرا بتفقد كومة البصل أو حُزَم السمسم، التي تركت هناك لتجففها أشعة الشمس.

ونادرا ما كان يختم طول صبره بنوال، فيحظى بنظرة حانية من عيون سعدى، وإن ألح في مقامه فربما نال تحية تشفي غليله، عندما تمر سعدى بباطن كفها الأيمن على شعرها من فوق منديلها مرة واحدة، وتغادر النافذة ويغادر إبراهيم سطح منزله راضيا مرضيا.

لست أنسى ما حييت تلك الليلة التي تدافع فيها أهل القرية كبارهم وصغارهم، رجالهم ونساؤهم، يحملون جرادل المياه وهم يتصارخون فزعين مذعورين، وألسنة اللهب تتصاعد من سطح بيت أبي خليل، بينما سقفه الخشبي يذوي واهيا في فم اللهيب شيئا فشيئا.
وعبثا يستميت الرجال في مقارعة ألسنة اللهب المنبعثة من هنا وهناك، بحفنات الماء القليلة التي يتسابق في جلبها النساء والأطفال، وما همدت تلك النار المشؤومة إلا بعد أن خلفت دار أبي خليل كومة من الرماد، يتفحم في وسطها جسدا أبي خليل وأم خليل. ما نجا غير سعدى وأخيها، اللذين اختطفهما إبراهيم الناصر من وسط النيران، التي خلفت على وجهه وسائر بدنه حروقا وقروحا ما محتها الأيام ولا السنون .

ورغم أن خليل الكايد صار بعد ذلك مقطب الجبين، مكتئب النظرات صموتا ذاهلا عما حوله، إلا أنه ظل محافظا على تفوقه الدراسي الدائم علينا جميعا.

أما أخته سعدى فبعد أن اندملت جراحها، وساعدها أهالي القرية في ترميم جانب من بيت والديها، فقد نذرت نفسها للبستان ولرعاية أخيها خليل.

ما رأيت قبل سعدى ولا بعدها امرأة تطبق بيمناها على مقبض المحراث القديم، الذي يجره زوج من الأبقار، ولا تخيلت يوما أن امرأة في الدنيا يمكن أن تتقن هذه المهنة، التي حسبتها وقفا على الرجال دون النساء.

لقد تفانت في فلاحة البستان وتعهده، حتى حافظ على هيئته التي خلفه عليها والدها، وما ألقت بالاً لعشرات من شباب القرية، الذين تقدموا لخطبتها وأولهم جارهم إبراهيم الناصر، الذي طالما خطب ودها وتوسل إليها، وهي تدفع الوسطاء وترد على الجميع قائلة:
لا أتخلى عن خليل، ولا أتركه ينشأ في بيت رجل آخر.

سيكون بمثابة والده أو شقيقه الأكبر، وسيكرمه إكراما لك.

وترد سعدى قائلة:

 لا أحد يمكنه أن يكون أبًا أو أمًا لأحد غير أولاده، حتى الأخ الشقيق لا يمكنه أن يكون ذلك، ولا يطيق عليه صبرا، لا بد أن ينشغل بزوجته و أولاده ويلهو عن أخيه.

الأخت وحدها يمكن أن تكون ظلا للأم والأب الغائبين ولا أحد سواها.

وضاعت كل محاولات ثنيها عن عزمها سدى، بما فيها إلحاح أخيها خليل نفسه وتوسله إليها بقوله:

يا شقيقتي يجب أن لا تضيعي زهرة شبابك، وتفني عمرك في خدمتي ورعايتي، لا بد أن تلتفتي لنفسك وتتزوجي رجلا مناسبا يليق بك.

ومن يعتني بك يا خليل؟ ومن يقوم مقام أمي وأبي في تعهدك ورعايتك؟

إن في مقدوري أن أجد عملا بسيطا يسد رمقي، أو نؤجر البستان لأحد الفلاحين بنصف غلته التي تكفي حاجتي وتزيد.

ماذا يقول الناس عن سعدى التي تزوجت، وتركت صغيرها وبقية والديها وحيدا بلا معين؟
لست صغيرا يا أختي وأستطيع أن أتدبر شؤوني، ويمكنني أن أزورك وتزوريني كل حين.
لن يكون وقتي ملكي، سيكون ملكا لزوج وأطفال يشغلونني عنك.
وعندما تكبرين وتجدين نفسك وحيدة، ستلومينني وتقولين "خليل هو سبب وحدتي وعزلتي" فارحميني من هذا المصير.

وهل ستتخلى عني يومها يا خليل؟ إن فعلتها فسيكون أولادك أكثر وفاء منك، لأنني سأحبهم وسأشارك أمهم في تربيتهم.

أصرت سعدى على رأيها، وارتضت لنفسها أن تكون شمعة تحترق لتنير الدرب لخليل، الذي واصل دراسته وتفوقه، ذلك أن أخته لم تعد تضطره لاقتطاع بعض وقته للعمل في البستان مثلما كان يفعل في حياة والده.

لقد كانت تشفق عليه من قسوة الأعمال الزراعية، وتضن بالوقت ينفقه في غير دراسته وهي تقول:

 خليل لم يخلق للفلاحة، ما له ولهذا العمل المضني.

فارقت خليل تلك الخشونة والصلابة التي كانت في ساعديه، عندما كان يرافق والده في أعمال الزراعة، وأبدله حرص أخته على راحته وتدليله نعومة ورقة ما عهدناها فيه من قبل.

مرت السنوات سراعا، أكمل خليل دراسته الثانوية ثم الجامعية، وسعدى قانعة بنضارة بستانها، الذي هدّ بدنها تتابع حرثه وعزقه وتقليم أشجاره وجني ثماره، منتشية بتفوق خليل سنة بعد أخرى، حتى تخرج في الجامعة وتسلم وظيفة في المدينة القريبة من قريتهم، حيث سكن في المدينة وصار يزور أخته مرة كل أسبوع، وكم حاول جاهدا أن يقنعها بالانتقال للعيش معه في المدينة، وأن تترك العمل في الفلاحة.

يا شقيقتي لم نعد نحتاج لكل هذا الكدح والتعب، وقد آن لك أن ترتاحي بعد تعبك الطويل، وآن لي أن أرد لك بعضا من دينك الذي يطوق عنقي.

ليس بيننا دين يا ابن أمي وأبي، وأنا لا أطيق فراق البستان، سأختنق إذا لم أتنسم هواءه صباحا ومساء.

وماذا يقول الناس عني عندما يرونك تكدحين النهار كله وتسكنين بمفردك، كأنني ما توظفت ولا عدت قادرا على تحمل مسؤولية البيت؟

إن المسؤولية تنتظرك، فأمامك زواج وأطفال تتكفل بهم، وسوف تشبع من المسؤولية حتى تمل.

وأنت يا سعدى؟ كيف أتركك وأسكن بعيدا عنك؟ لن أتزوج إن لم تختاري السكن معي.
حتى يومها يفرجها الله، المهم أن تجتهد في البحث عن ابنة الحلال. أو تود أن أبحث لك بنفسي؟ هذا إذا كنت ترضى بواحدة من بنات القرية.

توقف حديث خليل مع شقيقته عند هذا الحد، فلا هي غادرت بستانها وقريتها لترافقه في العيش في المدينة، ولا هو غير من مسكنه. لكنه واظب على زيارته الأسبوعية لها وتفقد أحوالها، إلى أن جاء اليوم الذي فاتحها فيه بنيته في الزواج من فتاة من بنات المدينة.
لم تعترض سعدى على رغبة شقيقها، وإن كانت لم ترتح لها في قرارة نفسها، وكانت تفضل لو أنه اختار واحدة من فتيات القرية وما أكثرهن، وفيهن من تعلمن في السنوات الأخيرة ولا ينقصن عن بنات المدينة في شئ.

وأسفت في قرارة نفسها على مصير البستان بعد زمن طويل، فلن يكون لدى ابنة المدينة ميل للفلاحة وتبعاتها، ولعلها ستورث هذا النفور من الزراعة والكدح في الأرض لأبناء أخيها فيهملون بستانهم.

لكن فرحتها بزواج أخيها، واقتراب رؤية زوجته ثم أولاده بددت سحابة الخوف على البستان، وأجلت ذلك إلى حينه ما دامت لا تزال قوية وقادرة على العناية به نفسها.

تزوج خليل الكايد وسكن في المدينة، و واظب في أوائل أيام زواجه على زيارة أخته سعدى وتفقد أحوالها، لكن زياراته بدأت تتباعد مع مرور الأيام، وانشغاله بحياة المدنية وتدبير شؤون أسرته الجديدة، حتى غلبته الرغبة في العيش الدائم في المدينة، وضاق ذرعا بزيارات القرية التي تقضم عطلته الأسبوعية، ولا تترك فيها متسعا لأهل بيته.

وفكر في طريقة يقنع بها سعدى لتنتقل للعيش معه في المدينة، وما هداه تفكيره إلى سبيل، لكن زوجته أسعفته في البحث عن الحل:

 تبيع البستان وتشتري بثمنه أو تبني بيتا واسعا في المدينة بدل هذه الشقة الضيقة، وتخصص غرفة لأختك سعدى.

أنت لا تعرفين سعدى. ستجن لو سمعت فكرة بيع البستان.

ما الذي يمنعك أن تجرب، باللين والسياسة وتعداد محاسن المدينة، والقرب منك ومن أولادك. حاول بكل الطرق.

سأحاول.

قال خليل ذلك وهو يدرك أن محاولاته لن تجد أذنا صاغية عند شقيقته، بل إنها على الأرجح ستؤدي إلى رد فعل عنيف، وسيذهلها استعداده للتفريط بالبستان بهذه السهولة، وحدث نفسه قائلا:

لابد أنه ستستشيط غضبا، وربما ندمت على جهدها الذي ضاع سدى في رعايتي وتنشئتي، لأعود إليها راغبا في بيع البستان الذي غمرني خيره، وبفضله وبفضل كفاح سعدى وصبرها الطويل يعود الفضل فيما أصبحت فيه اليوم من وظيفة ومركز وحياة رغدة هانئة.

قلّب الأمر في خاطره أياما، وكلما همّ بزيارة القرية لمفاتحة شقيقته بالموضوع، أحس بدافع يدفعه ويصرفه عنه، ولبث على ذلك أياما وأسابيع يقدم رجلا ويؤخر أخرى، من هول ما يتوقعه من رد أخته على اقتراحه، حتى دفعه إلحاح زوجته دفعا إلى أن يقطع حبل تردده ذات يوم جمعة، ويبكر في زيارة أخته ويلح عليها كما لم يلح من قبل في أمر الانتقال للسكن معه في المدينة، خاصة أن ظروفه لم تعد تسمح له بالزيارة الأسبوعية المنتظمة.

تزورني وقتما تشاء وحسب ما تسمح به ظروفك، مرة في الأسبوع، في الشهر، في السنة، لا ينقصني شيء هنا، وكل أهالي القرية يعاملونني كأختهم وأمهم، فلا تخش عليّ بأسا. سأزورك أنا في المدينة إن تأخرت عن زيارتي.
بلع خليل ريقه وقد سدت عليه كل منفذ يحاول النفاذ منه، لكنه لا يستطيع أن يؤجل الأمر أكثر من ذلك، ولا أن يتحمل نظرات زوجته لو عاد إليها ليخبرها أنه لم يجرؤ على مفاتحة أخته في الأمر، فعاود حديثه:

لكنك يا شقيقتي كبرت وآن لك أن ترتاحي، وأعمال الفلاحة المضنية لم تعد تناسبك.
لماذا صارت اليوم لا تناسبني، وهي التي ناسبتني العمر كله؟

ألأن أخي صار موظفا مرموقا لا يليق به أن يقال عنه أن أخته فلاحة.

معذرة ليس هذا ما قصدته.

وما الذي قصدته إذاً ؟ إنني أقرأ في عينيك قولا تتحرج من البوح به، ولا تدري من أين تبدأ حديثك. أتظنني لا أعرفك يا خليل. أنا أختك وأمك وأحس بكل نبض في عروقك. فلا تخفِ عني شيئا. هل حدث شئ بينك وبين زوجتك وأصهارك؟ لا سمح الله.

وبقدر ما فتحت له كلماتها الطريق للحديث، وأنقذته من ورطته وتردده، بقدر ما أوصدت في وجهه الباب بحنانها وحنوها عليه، فكيف له أن يفجعها في نفسه عندما يفاتحها في أمر بيع البستان.

صمت خليل وطال صمته حتى أيقظه صوت سعدى:

سأعد لك الإفطار ريثما تلتقط أنفاسك وتجفف عرقك، فلا بد أن ما يشغلك هم كبير يا ابن أمي وأبي.

لست راغبا في الإفطار، اجلسي واسمعيني ولا تتعجلي في الغضب مني وطردي من بيتك .
أنا أطردك من بيتي؟ ولماذا ؟ وهل فعلتها معك يوما في صغرك حتى أفعلها اليوم، وأنا أرى فيك نور عيني ومنتهى أملي وبقية أهلي.

وغلبتها دموعها وتهدج صوتها وهي تقول:

لماذا تقول ذلك يا خليل؟ ما الذي حدث؟

ونهض خارجا وهو يقول:

لا شيء، لا شيء، لا أستطيع الكلام.

واعترضت سعدى طريقه، وهي تسد الباب في وجهه، وتقسم أنه لن يبرح البيت دون أن يفضي إليها بسره، وأنها لن تدعه يفارقها وهو على هذه الحال من الحيرة والتردد.
كيف يهدأ لي بال، أو يغمض لي جفن إن غادرتني ولم تشك إليّ وجعك، وتزيح هذا الهم الجاثم على صدرك؟

استدار خليل راجعا، وهو يحاول أن يستجمع كلماته كلها في كلمة واحدة، بينما نظرات أخته مصوبة إلى وجهه، وأذناها تتلهفان لتلقف كلمة واحدة ينطق بها، فيمزق هذا الصمت الموجع وينهي هذه الحيرة المفزعة.

وأخيرا جاء الصوت متلعثما متقطعا ليقول:

كنت أريد أن أحدثك عن البستان.

البستان؟ ما به؟ إنه على أحسن حال.

أقصد ما حاجتنا إليه؟ وقد أصبحت موظفا براتب ممتاز يكفينا ويزيد.

وماذا تقصد يا خليل؟

ما رأيك لو بعنا…

ولم تتركه ليكمل عبارته التي أرادها (… البستان واشترينا بثمنه بيتا واسعا في المدينة)
تبيع ماذا يا خليل؟ تبيعني؟ تبيع أختك وتبيع أباك وتبيع أمك، تبيع أعمارنا التي أفنيناها في هذا البستان، لتشتري بيتا لبنت المدينة؟ أإلى هذا الحد نهون عليك يا خليل؟
ما أردت إلا إسعادك وإراحتك يا شقيقتي، وإذا كنت غير موافقة فلن أعاود التفكير في الأمر.
راحتي؟ وهل شكوت لك التعب يوما؟ وراحة والدك؟ هل سترتاح عظامه في تربتها، عندما يعلم أن ابنه الوحيد الذي خلفه في هذه الدنيا ليحمل اسمه، ويخلد ذكره قد باع تعب عمره، وكيف ستنظر إلى وجه أبيك عندما تقابله يوم المحشر وقد بعت ذكراه وجهد حياته؟

لن أعود لهذا الحديث يا أخيتي ما دام يغضبك إلى هذا الحد، ولن أفعل إلا ما ترضين به.
وانسلت كلمات خليل متراجعة أمام غضبة أخته في الدفاع عن البستان مثل لبؤة تدافع عن أشبالها. وأقر بهزيمته التي كان يتوقعها، وعاد خائبا إلى زوجته ومدينته.

تتابعت زياراته لشقيقته كسابق عهدها، وإن كان لونها قد بهت قليلا، وانطفأت جذوة حرارتها ودفئها. فالجرح الذي جرحه خليل لأخته ليس من النوع الذي تسهل مداواته وبرؤه، وهو بالنسبة لها لم يأت مصادفة، ولا كان خاطرا عارضا من خواطر خليل، الذي ربته وعرفته أكثر من نفسه، لكنه يَنُمُّ عن فكرة مبيتة وراءها من يحرض خليل عليها، ويدفعه إليها دفعا، وإذا لم تواته الشجاعة ليصر عليها هذه المرة، فقد تواتيه في مرات قادمة.

نسي خليل حكاية بيع البستان، وتناست زوجته ذلك إلى حين واتتها فكرة البيع بدون علم سعدى، وترك الأمر الواقع يفرض نفسه عليها فرضا:

ستثور وتغضب لعدة أيام ثم يهدأ غضبها، ولن تجد لها ملاذا سوى بيت أخيها، الذي يطيب خاطرها ويستسمحها وتعفو عما سلف.

لكن الأمر يحتاج قبل ذلك إلى تدبير محكم، إلى بصمة سعدى على ورقة توكيل لأخيها، للتصرف في نصيبها من البستان دون أن تعلم شيئا عما تحويه الورقة. يمكن إيهامها بأنها وثيقة تسجيل من دائرة الأراضي، أو أنها إقرار أنه لا عائل لها سوى أخيها، فتضاف إلى عائلته ويزداد راتبه قليلا .

وهكذا تم التحايل على سعدى، وقضي الأمر كله وبيع بستان "أبو خليل" من وراء ظهرها، بينما كانت تمضي يوم الجمعة في زيارة بيت أخيها في المدينة.

عندما توجهت كعادتها مبكرة إلى بستانها صبيحة يوم السبت، فوجئت بصبية ونساء ورجال ينتشرون في طول البستان وعرضه، يقطفون ثمره الناضج ويهيؤونه للبيع.

صرخت فيهم سعدى ونهرتهم، وعلا صوتها وهي تؤنبهم على جرأتهم في اقتحام البستان وقطف ثماره، لكن ردهم هو ما أذهلها:

إنه بستاننا، لقد اشتريناه من أخيك خليل بشهادة فلان وفلان على وثيقة البيع.
لم تصدق سعدى ما سمعته أذناها، واستمرت في صراخها وعويلها ولطم خديها، وتجمع جمهرة من أهل القرية يستطلعون الخبر، ولما تيقنوا جميعا أن أخاها قد باع البستان دون علمها، حاول بعضهم التخفيف عنها، ومواساتها عما أصابها، وزاد بعضهم على ذلك بأن حثها على أن تطالب أخاها بنصيبها، الذي هو ثلث ثمن البستان.

لم ترد سعدى على ملاحظاتهم، ولم تنبس ببنت شفة. انسلت من بين الجمع وما عادت إلى بيتها، بل هامت على وجهها في أرض الله الواسعة. ما عثر أحد من أهل قريتنا لها على أثر، ولا سمع أحد في لاحق الأيام عنها بخبر.

عندما أفقت من رحلتي مع الذكريات وجدت نفسي قد ابتعدت كثيرا عن القرية، وفطنت إلى أنني لم أتأمل كثيرا من المعالم التي مررت بها، فعدت أدراجي وفي نيتي أن أتأمل في طريق عودتي ما أغفلته في ذهابي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى