الأحد ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم عبد الزهرة شباري

قراءة في المجموعة الشعرية «نبوءة أيوب»

لا شك أن الدخول في خلجات وأرهاصات الشاعر صبيح عمر وعمق التدفق الصاخب والمثير إلى حد التعمق في مدلولات قصائد مجموعته الجميلة (نبوءة أيوب) والتي تمنح المتتبع لها سيرورة الجد في قراءتها بشكل متأني ودلالي للوقوف على تلك النبوءات التي يرسمها الشاعر وهو في ترنحه نحو المجد الذي يسري في عروقه أثناء تناوله للشارع الذي يسمو حوله بالمؤثرات والإرهاصات المثيرة، هذه المفاهيم التي تضغط على جوارحه لما يلمحه من إثارة وخدش في الجدار الاجتماعي والمكون الإنساني يجعل من إندفاعه وتلمسه لتلك الجروح العميقة النازفة أن يهب جوارحه النازفة أيضاً ألماً وغصة لمجتمعه وشعبه وأمته!
والشاعر صبيح عمر في هذا الوجع الذي يكتنفه، والحسرة التي يطلقها على أفق القارئ كان يريد بها فضح ذاك اليقين المرعب والأخطبوط الذي أكتنف شعبه وجعله مشرداً في المنافي وأصقاع المعمورة!

ففي قصيدته الأولى من المجموعة والتي أسماها (ورد الخال) سكب هذا الوجع والنزف المتدفق على ضاحية المجهول، وأخذ ينقش على صخر الوجود آيات الحب التي تسمرًت ْ في لوحته ثقوباً في ذاكرة النسيان ن فيقول:

((... تتركنا مبهورين بحق من رسموا / ثقوباً أو نقوشاً في ذاكرة النسيان! ))
ص8

ثم يقول في قصيدته (الجريدة):

((لم أكن أصدق ما قالته أمي ذات يوم / حين أخذ العنفوان مني ما أخذ / ماذا يترك لنا هذا غير الألم / ثم أجابت دون أن أجيب / أليس سوى أسم يذكر في جريدة!!))

وهنا يبدو الألم على وجه أمه واضحاً وضوح الشمس حيث تربو بعينيها الذابلتين حزناً وألماً عليه وعلى أخوته، لأنها تعتقد إيماناً منها بنهاية هذا الدرب الذي يسير عليه أبنائها أما أن يكونوا.... أو يبقون أسماء ً في جريدة أو يافطة أو حبراً تمحوه أمواج النسيان!

ولا شك أن في تغربه وتشرده عن أهله ومحبيه، وفقدان الأمن والحرية، ذلك الحلم الذي يغزو فكره المتعب وهو يتذكر أهله وأبناء شعبه الذين يغطون بكوابيس وآتون النيران المسلطة عليهم، ثم تذكره أصدقائه الذين سقطوا في المعارك الضارية والذين أعدمتهم سلطات الغي والإسفاف، دليل على هذا الوجع الذي يسري في عروقه مما يجعله أكثر نزوعاً أن يخاطب الوجود بإنسانية مفرطة وشعور جامح نحو الحرية والمجد الذي فقد في تلك اللجة الصاخبة التي اكتنفت شعبه!

وهذا ما يظهر جلياً في جل قصائد مجموعته المبدعة أمثال: (( فقراء الجنة، معبد الرصاص، خطوة في قبضة الثبات، ذاهب لا أسم لي، البصرة، شوارب بيض، الكرسي، كف بلون واحد، الذي سكب الشاعر أحاسيسه وخلجاته وهو يصور لنا معاناة الراحل محمود عبدالوهاب في مرضه الثقيل قائلاً:

((خذ أوجاعك مني / وامنحني لحظة من بياض الآخرة / خذ كفي رهينة / فإني أمين على ما مضى وأمين على ما حولي/ أيها الزائر الأخير /أنا المحمود / قد جئت ولم أمضي إلا بلون واحد!! وهكذا يختم الشاعر مجموعته الجميلة بهذه اللواعج والشجون)) ص 83-!84
فالشاعر صبيح يكتب للواقع المر الذي يعيشه وشعبه بواقعية تفسح له المجال في التعمق في علاقاته البعيدة وفي الأمكنة الواقعة في حدود الذاكرة اللامرئية في خياله الخصب، وهذا ما يلهمه السير في مجاهل وعمق القصيدة التي تنبثق من فكر واضح وخيال متسع بواقع الشارع اليومي الذي يستقي منه مفردات هذه الروائع التي يرسمها لنا في هذه المجموعة!
لأن الواقع المرئي لا يكون بعيداً عن مخيلة الشاعر والمتتبع له، والذي يغني البصيرة لدى الشاعر بالخصوص مما يجعل مفردات التجربة الشعرية تنهمر من بين أنامله وخياله الذي يقوده إلى الصدق في تصوير الحياة اليومية لأبناء شعبه ومحبيه ممن شاهد موتهم أمام عينيه، فهو إذن قادته خصوبة فكره إلى التشبع بواقع قصيدة النثر التي مارست حريتها الدلالية الواضحة وتفردها من القيود التي تظهر في المقامات الأخرى!

والحق أن القصيدة لدى الشاعر صبيح تحتفل بالخصوبة، وتحمل معها مفردات الحياة اليومية التي يعيشها أفراد هذه الأمة!

ولهذا نرى بوضوح الصورة الشعرية المركبة والمدروسة بالمعنى المباشر إلى روح رمزية وشكل القصيدة التي تبدو للقارئ كلوحة على جدار معرض فني جميل!

والملاحظ في قصائد الشاعر أنها ذات صورة تحتشد الكتابة الشعرية بصورها المبدعة في طراز من الفنية التي تدل على المباشرة في عمق الذات والطموح الذي يبدو لنا كحلم ترنو إليه النفوس.

وهنا يظهر على ما يبدو أن الشاعر عمر أضاف إلى القصيدة التي أمامنا قسمين رئيسين أو ما نسميهما بالمستوى الشعري اللذين تبرز ماهيتهما لدى المتبصر جلياً هما: مستوى الخطاب الذي يحاول من خلاله الدخول إلى مفردات الحياة اليومية أو ما نسميها بيوميات البشر إن صح التعبير، ومستوى الخطاب المقنع الذي يختفي وراء الأقنعة الرمزية غير المباشرة التي تحبو نحو النثرية والغموض، وهذا السعي طبعاً يؤكد التحرر من القيود التي تفرض على قصيدة النثر لدى معظم الشعراء في الوطن العربي عموماً!

وهنا لا بد من القول أن الشاعر في صور قصائده الجميلة هذه أزال القشور التي علقت وشوهت الحقيقة المفقودة في القصيدة، حيث أن لتعامله مع الأشياء والصور التي أمامه في الشارع وملامسته لها جعل رؤيته واضحة لخلق قصيدة ذات حس واضح ونبرة عميقة تبتعد عن المجازات والتخيلات المجردة عن الحس المطلق لماهيتها الحقيقية وشرودها عن الواقع، وهذا دليل لا يقبل الجدل على الإيقاع الواضح في جل قصائده والقدرة على بناء تلك الصور المركبة والروحية التي تخترق جوهر الأشياء وترسم لنا هذه الحقائق التي نراها في الواقع: كالموت والحياة، السلم والحرب، الظاهر والباطن، العام والخاص، وغيرها كثير!

وأخيراً لا أريد أن اتعمق بتحليل قصائد المجموعة تاركاً المجال لأصحاب الاختصاص في زيارة هذه الصور والكتابة عنها، ومن الله التوفيق!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى