الأربعاء ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

فَـجـوة

((علي، يا علي... علي...))

أعرف أنها تنادي عَلِيـَها، لا تناديي علَيّ... أحجية غريبة، سخريتها حسرات لا تستكين في غطيط غفواتها التي تمضيها على الكنبة فترة الظهيرة، عادتها التي لم تغيرها، كما لم تغير شيئا في البيت طيلة سنوات الانتظار العصيب الذي أدمنته، سقطت إلى قرار بئره الجافة ولا تود الخروج منها، جئيرها يتقاذف نحوي من دهمائه المقفرة بوحشية الوحدة التي استوطنتها، كلما حاولت مد يدي لانتشالها منها أجد لديها قوة غريبة تصر على سحبي إلى مكمن أحزانها، ولو لأذكرها بشيء من... ابنها الغائب، تلح في السؤال عنه، تريدني أن أحكي لها عن كل يوم أمضاه بعيدا عن حنوها، ما حاله، ما تعرض له، طال ارتعاد جسدها بعد إصرارها على خلع قميصي لدى اختراق خارطة الآلام المنقوشة في ظهري جحوظ عينيها المتضرجتين حمرة الجروح المتقيحة، غشاوة من السواد حطت عليهما، كادت تطرحها أرضا لولا تداركي وقوعها، أسندتها حتى الفراش، كانت كومة عظام خشيت تفتتها بين ذراعيّ المرتعشتين بارتعاشها، أعيتها حدة البكاء فغيبها النوم وأنا أردد كالبغبغاء إلى جانب رأسها قسمي المرتطم بعجزي عن فعل شيء أن أوان رجوعه إلى أحضانها أمسى جد قريب، أسح الدموع بعيدا عنها وعن غرفتي القديمة التي أوصدت بابها في وجهي ما أن رأتني أدخلها، هرولت إلي وسحبتني من يدي إلى الخارج، كادت تطردني من جديد مثلما فعلت حال رؤيتي أقبِل يديها وأهوي برأسي إلى صدرها المعبق بعطره الإلهي، جفلت وراحت تدفعني بيدين مرتعشتين إلى الخارج، تستغيث بالجيران أن يهرعوا لنجدتها من ذلك الغريب المتطفل الذي أرسله رجال الأمن لمهاجمتها بعد أن سلبوا منها ولدها الذي رهنت ما تبقى لها من عمرٍ في رصيد الحياة في توسل لقياه ولو لمرةٍ واحدة...

ولكني أنا هو يا... أماه، بكل الانكسارات التي تتلبسني ولا تعينيني على الفكاك من أسر لعناتها، على العكس تماما، سكينك الحاد يعمق الهوة داخلي، يحاول شطري إلى شخصين، لا أعرف أيهما أكون، الغائب الحاضر أم الحاضر الغائب لديكِ... لا يمكنني البقاء في هذه المتاهة الخرقاء إلى الأبد.

صرخت بهذا أو بعضه، وربما صراخات أخرى تغير على غيظ مواجعي منها ومن الدنيا التي سخطت عمري في أقفاص القردة هشيما، ثم تركت صنم الذهول جامدا في مكانه وخرجت عازما ألا أعود ثانيةً، غير أن الليل أمسى حبات مسبحتها الطويلة، إحداها تسلمني لأخرى مع تدويرها ما بين سبابة وإبهام يدها، خشيت ذوبانها في شغف قبلاتي المكلومة بأمومتها التي تصر على مداراتها عني، تختزنها للطالب الجامعي المصقول بآماني المستقبل الذي اعتاد أن يسكنها كل تفاصيله حتى في اختيار الزوجة، يترك لها تسمية الأحفاد الذين سوف يشغلوها عن كل شيء، حتى عنه وعن أخته هناء وصبييها المتعلقين به كما لو كان في مثل عمر كل منهما، تزوج أحدهما ويكاد يصير أبا وسافر الآخر للعمل في الخارج، اتفقت معها على فبركة هذه المسرحية (السخيفة) حتى أستطيع دخول بيتي...

ـ معقول إنك نسيت عنوان بيتكم وتذكرت عنوان بيت صاحبك!!!.

ـ هو الذي ذكرني به بعد أن وجدني لا أعرف طريقي إليه.
ـ طول عمره خدوم ومضياف ويحب أصحابه، عيبه الوحيد السخرية، بلا حدود ولا تحسب للخطر، لا يخفي استهزاءه من الجميع، الحكومة والأحزاب والمتعصبين، وعندما أحذره من طول لسانه لا أعرف كيف كان يجعلني أسابقه إلى عتو القهقهات التي غصصناها خيبات مريرة... أففففف، كان يجب أن يهجس قلبي المصير الذي يتربص به وبي، وكأني أعنتهم عليه، حتى الله يمكن أن يغفر ويسامح ولكنهم لا يرحمون، أبدا لا يرحمون.

اصطبرت على نشيجها المتقطع حتى استطاعت أن تردف: و... أمك، لم يدلك قلبك إليها أيضا؟.

نظرت إليها بعمق متكتم التنهد: لعلها لن تعرفني بعد كل هذه السنوات.

صرختها تهم بافتراسي: لا... إياك أن تقول أو تفكر بهذا للحظة، إياك... فهمت؟.

ـ أنتِ لم تتعرفي علي... أقصد نسيت أني صديق ابنك، رغم أن أختــ...ه والجيران أيضا لم ينسوني لأني كنت كثير التردد عليه هنا.

أخذت تهز رأسها في تمتمة: نعم، مع إن إسمك علي أيضا، وكذلك ـ تحملق فيّ ـ فيك بعض الشبه منه، ولكن حبيبي ليس عصبيا مثلك، فجأة تهب وتصرخ ثم تخرج وتصفع الباب وراءك وتقول كلاما غريبا لا أفهمه.

ـ السجن يغير الكثير فينا ولا يتركنا كما كنا.

ـ ما أن يخرج علي من السجن سوف أبيع الدار وكل شيء وآخذه إلى أي بلد أستطيع أن آمن عليه فيه، حتى لو كانت جزيرة لا يعيش فيها غير عدد قليل من الناس، هذا أفضل بالتأكيد ـ أطرقت للحظات ثم سرعان ما استهجنت الفكرة: لا، لا... أي جزيرة أحبسه فيها، أما تكفي عزلة سبع عشرة سنة لحد الآن عن العالم، أنا أريده أن يعود كما كان، مفعما بالحيوية ومحبا للحياة مهما أذاقته من مرارة، وأنا أعرف ولدي جيدا، سوف يرمي كل شيء وراء ظهره ويقول لنطوِ صفحة على كل ما فات.

هممت أن أهتف لها بذلك ولكني أمسكت لساني وأحنيت رأسي حتى لا يعاودني انفجار جديد في وجهها المشع بنور الأحلام.

لاحظت وجومي فأرادت زرقي بنفحة أمل: وأنت لا تخف، بالتأكيد سوف تتذكر شيئا عن بيتكم، وعندما يعود علي سوف يساعدك ومن يعرف من أصدقائكم في ذلك، أم أنك لا تعرف مدى شهامة صاحبك؟...

آآآه كم أحسده، صاحبي علي، ولكن أنا من أكون فعلا؟؟؟...

سؤال ينقر رأسي بوتيرة متزايدة، قد لا يكف إلا بحفر فجوة تعبر منها الكذبة لتغدو حقيقة لا بديل لها في بؤرة دماغي، تستمد عنفوانها من نظراتها المتشككة ـ المتوجسة التي ترشقني بها من حينٍ إلى آخر حول السر الحقيقي وراء وجودي معها في دار ليست بداري، ومع ذلك تجدني أتصرف كما لو أني صاحبها فعلا ولا مكان لشابها العشريني فيها، فأجعلها أكثر تمسكا بأحاديثها المسهبة عنه، تعمد إلى تذكيري وبعناد لم يفارقها أني مجرد ضيف، عابر سبيل رأفت لحالي من أجله فقط، وحتى لا تدع مجالا للتقصير في حق غيبته الطويلة، تغافلني بوضع مبلغا من المال إلى جانب السرير من يومٍ لآخر، ابتعت ملابسا كثيرة، بان الاستغراب في وجه البائع من شدة لهفتي على كل ما تقع عليه عيناي ودون مساومة على السعر، أكيد تصورني محدث نعمة قاسى من الحرمان أمَره، أو ربما لص لا يعبأ بغير الوجاهة على حساب جيوب الآخرين، لا بد أن تعبيرات وجهي وتململ كلماتي، بل هيئتي بصورة عامة، سربت ذلك الانطباع إليه، محاولاتي التصرف بطبيعية وتلقائية تنجح أحيانا وتدرك قاع الفشل أغلب الأحيان لتسقط عني قناع الإنسان الذي كنته، فأدخل عمق مرآة وجهها المتبجحة في تخسفات العمر المسروق مني ومنها...

تبا لشطط الجنون التي تنوي قذفي إليها حالتها الغريبة والمستعصية حتى على الطبيب النفسي، توسلتني هناء أن أراجعه دون تردد أو تأجيل بعد سوقها لها إلى غرفتها وتوبيخها العصبي المستغرب التصاقها بي على كنبة الصالة ولف ذراعها حول كتفي، تهمس في أذني كلماتها المواسية لمعاناتي مع أمنا التي تعرفني ولا تعرفني، تضنيني باحتوائها الحميمي لي ونبذها لمجرد خاطر أن أحل محله في قلبها في آنٍ واحد، تقلقِلها مشاعرها المضطربة نحوي، تجلسها أحيانا على حافة الفراش، عيناها لا تحوطاني إنما تنغرسان داخلي، تخدِش محجريها دمعات ترفرف نحوي من عالمٍ آخر تقف ذاكرتها المشوشة حاجبا همجيا يمنع ولولجي إليه، أو على مفربة من رأس، حريصة ألا يقبض صحوي على أصابعها الرقيقة متلبسة في تمريرها بين خصل شعره بنعومة تعود بي إلى عمرٍ مضى دونما رجوع، أبقى متصنع النوم مرتشفا ما أستطيع من دفء أنفاسها المتعبة دوما، تنهيها بتنهد تترك حنينه يلفح صفحة وجهي قبل انصرافها لتعد أكثر ما كنت أشتهي من طعام الإفطار، يأخذها القلق بعده من تأهبي للخروج بحجة محاولتي البحث أو تذكر موقع بيت أهلي، نزعة طفولية تدفعها للهرولة خلفي نحو الباب، ترجوني ألا أتأخر، أن أحرص على نفسي جيدا، وألا أضع ثقتي بأحد أيا كان، وعندما أسألها إن كانت تنوي الخروج تذكرني في نبرة عتاب أنها لم تغادر البيت إلا للضرورة القصوى منذ أن اختطفوا منها ابن بطنها المغروس في أوصالها كما لو كان جنينا لم تلده بعد، تعود بعدها بسرعة مرتبكة تلفظ الأنفاس، يوخزها التفكير بإمكانية عودته أثناء فترة خروجها الملعون، صديقاتها هنّ من يقمنّ بزيارتها باستمرار، والجارات أيضا صرنَ يتفهمنَ سر نظراتها المتلفتة كل دقيقة نحو باب الدار، التسوق يتكفله زوج هذه وابن تلك، بالإضافة إلى وجود هناء وعائلتها إلى جانبها بشكلٍ يومي أو شبه يومي، أما مهاتفاتها فصارت تضايقها من كثرة إلحاحها في الاطمئنان عليها، كثيرا ما صرخت بها:

((أنا أمك لا طفلتك يا حمقاء))...

تقسم لي أختي باكيةً أنها لم تقصر نحوها بشيء حتى لو كان ذلك يقودهما شجار وخصام تنساه، بمجرد انقشاع زوبعة العصبية العاتية المعروفة عنها، شرعت سيفها في وجهي البارحة عند عودتي المتأخرة بعض الشيء، فرحت بهيجان قلقها علي إلى حد البكاء خشية ألا أعود، وددت الارتماء في أحضانها بشهقات تعبر حرائق الفراق الآثمة التي أتاهتنا عن بعضنا لو لم تصدني بمقارنتي بابنها الذي لم يكن يتركها بين أشواك صبار الوقت لوحدها كل هذا... جميلة مخادعاتك يا أماه، أكثر مشاجراتنا كانت بسبب تأخري الدائم إلى ما بعد منتصف الليل مع أصدقائي الذين لم أعثر على أغلبهم، ومن عثرت عليهم شقت بيننا أبحر من الغربة رغم الحميمية المجاملة التي يحاولون أن يحفوني بها، تلوذ في عيونهم بعض الرهبة من اقتفاء رجال الأمن خطواتي، وتلوذ في عينيكِ تخوفاتك العصبية من المجهول، يشكو دمعكِ طيشي واستهتاري، ذات الكلمتين تلازماكِ، كل الأعوام الفائتة لم تزحهما عن لسانك، مثلما يتلجلج وجودي في ثنايا عقلك، حركة عض شفتي السفلى بقوة تلجم لساني عن أي تهور قد يجرنا إلى نقطة اللا عودة التي حذرني منها الطبيب والتي قد تسقيني علقم الندم ما حييت لم تذكرك بعادتي القديمة للنأي عن أي خصام لم نكن نتحمل حوم فحيحه بيننا ليلة واحدة، توسطت جبينك المقطب قبلة اعتذار غصت بعبرة قهرٍ جديدة لا تنجح مآقي عيني المعكرة في طمسها عن عمق نظراتك التي كانت تسبر مكامن أسراري دون الإتيان بكلمة...

(( علي، علي، عليييي...))

تتصارع النداءات، بل هي استغاثات الآن، مع رنين الجرس المتصل مثل صلي رشاش وارتجاج الباب المتجسم فينا رعبا يكفأ وجهها مطوّى الملامح على الأرض مرةً تلو الأخرى، جسدها يتضاءل ما بين زحف وتشبث ولو بالهواء المنسحب من الدار، أسابقها بعدة قفزات سريعة من حائطٍ إلى آخر غير مصغٍ لتوسلاتها ألا أفتح باب البؤس والشقاء مجددا، أعرفهما جيدا بلا سؤال أو انتظار إجابة، تمضي عدة لحظات وأنا أترنح كالسكارى بين كماشات الأيدي الكبيرة الخشنة وتشنجات يديها الحانيتين، أصابعها المطوقة زنديّ بشراسة فريسة تقاوم سكين الذبح المسنون تكادان تمزقا كمي القميص، تركتاه لتسارع ذراعاها الالتفاف حول صدري، تواصل الضغط عليه بقوةٍ تصهر في أضلعي الدفء والألم معا، احتضان غير مكتمل مثل وجودي المنقوص منذ خروحي من المعتقل، في إجازة لا أكثر، لم أجرؤ خلالها على السكنى في حنايا صدرك لمرةٍ واحدة، وهأنا أساق إلى الغياب التام في جحيم الظلمة مجددا، ولكن هذه المرة لا أرهب أي تعذيب تعودت اجتراع علقمه بقدر ما أرتعد من سؤال علّ الموت يستبق يقين الإجابة عليه، إن كنت قد خرجت فعلا ومررت بكل هذا التخبط في متاهات الذاكرة المثقوبة لأمي التي تركض حافية القدمين وراء اقتيادي مكبل اليدين حتى أركب السيارة المارة من أمام البيوت والجيران المبحلقين في صمت أخرس يفسح المجال لذلك النشيج الآتي من بعيد اختراق أذني، يوصيني أن أطمئن بال ابنها علي عليها...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى