الاثنين ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
عن الحضارة «14»
بقلم محمد متبولي

مؤسسات بناء إنسان الحضارة

العالم تسوده قيم القوة والبطش لذا فإننا بحاجة لظهور حضارة جديدة تعلى قيم العدل، وأبناء الشرق هم الأكثر احتياجا لأخذ تلك المبادرة الآن، فمع بدأ انحسار الحضارة الغربية، وهذا الاعتماد الكلى للشرق عليها دون إيجاد قيمه ومنتاجاته الحضارية الخاصة، فسيصبح الشرق إما معقلا لاستعمار فكرى ثقافي حضاري جديد، أو سيعود إلى عصور الإنسان البدائى إذا لم يكن للغرب بديل حضاري آخر، ومن هنا يظهر سؤال هام، من سيدير عملية التحول الحضاري تلك،فالاعتماد على الأفراد أو الجماعات وحدها فى مسألة النهوض الحضارى سيعنى أن هذه المسألة ستكون مجرد جهود فردية هنا أو هناك، قد تصيب أو لا تصيب وأغلب الظن أنها لن تحقق النتيجة المرجوة، فلابد من وجود مؤسسات قوية تتبنى إعادة بناء تصورات الإنسان، وتقدم المحفزات لذلك ثم تدير مرحلة الصعود الحضارى وهو ما سنتناوله فى هذا المقال وما يليه، ويمكن تقسيم هذه المؤسسات إلى مؤسسات بناء إنسان الحضارة مثل المؤسسة الدينية، والأسرة والمؤسسة التعليمية والإعلامية، ومؤسسات بناء دولة الحضارة وهى مؤسسات الدولة، ومؤسسات بناء مجتمع الحضارة مثل مؤسسات المجتمع المدني، وأخيرا طبيعة المؤسسة التي ستعتبر الرأس لكل ذلك.

سبق وتحدثنا عن الإيمان وقلنا أن هناك نوعين، أولهما إيمان سلبي وهو إيمان التواكل على الله في الدنيا والرضاء بالواقع دون محاولة تغييره مهما كان قاس أملا فى دخول الجنة في الآخرة، وآخر إيمان إيجابي قائم على التوكل على الله وتحقيق حكمته من خلق الإنسان وهى إعمار الكون ومحاولة إنشاء جنة الأرض أملا في الحصول على جنة السماء، ومن هنا فإننا نعتقد أن المؤسسات الدينية على اختلافها يجب أن تضع صوب أعينها نشر قيم الإيمان الإيجابي داخل المجتمع، علاوة على تسليحها الأفراد بالقيم الدينية الأصيلة لتحميهم من القيم الفاسدة، التي تؤثر عليهم وتعيق تطورهم وتهدد نموهم الفكري، وأن تقدم خطابا دينيا معاصرا يتعامل بشكل مباشر مع مشاكل الإنسان الحياتية واليومية والمساعدة على حلها، إلى هنا سيتفق معنا كثيرين.

لكن إننا نعتقد أنه كي يتحقق ذلك نحتاج إلى ما هو أكثر من تجديد الخطاب الديني، فكثير من المؤسسات الدينية تحتاج إلى تطوير كبير في نظمها الإدارية وطريقة تواصلها مع المجتمع مستغلة في ذلك أحدث ما وصل إليه العلم في مجالات الإدارة وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من علوم، وذلك بهدف جعل هذه المؤسسات أكثر فاعلية، إلا أن ذلك تغير على مستوى الشكل فقط، أما المضمون فيشمل المحتوى الذي تقدمه هذه المؤسسات، فكلمة تجديد الخطاب الديني تبدو مرضية لكثيرين، لكنها لا تعنى أكثر من تغييرا نوعيا في المحتوى وجعله أكثر حداثة، ونعتقد أن الأمر تجاوز هذه المرحلة وأننا بحاجة إلي إصلاح ديني شامل تعكف هذه المؤسسات الدينية على إعداده وتقديمه للمجتمع.

فلو تحدثنا عن الإسلام مثلا على اعتبار أنه الدين الأكبر في المنطقة سنقول، إن الإسلام ثابت غير قابل للتغيير، وأن هذا الثبات مستمد من الوحي والكتاب وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حول هذه الثوابت نشأت الكثير من العلوم الدينية، التي مرت بمراحل من التطور والتقدم وأخرى من التراجع والتخلف، وتأثرت بكثير من الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية التي أثرت فيها وتأثرت بها، وربما تكون قد تبنت هذه العلوم في وقت ما لظروف خاصة أراء تساهلت فيها أكثر من اللازم وأخرى وتشددت فيها إلى حد بعيد، وكل ذلك تكون عبر قرون من الزمان لم نعد نعرف على وجه اليقين ما دار فيها، وما دفع علماءها لإخراج ما أخرجوا من نتائج، لذا فان الهدف الأساسي لفكرة الإصلاح الديني التي تحدثنا عنها هو أن تقوم المؤسسات الدينية بمراجعة تلك العلوم، وإعادة ضبطها بشكل يحررها من كل ما دخل عليها من أخلاط الزمان وأبعدها عن أصولها، وأن يتم إعادة تقديمها بعد ذلك بشكل عصري، ولا ننسى أن الإمام محمد عبده رحمه الله قدم محاولة مماثلة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، اعتمدت على المزج بين النصوص وإعمال العقل إلا أن هذه المحاولة لم تكتمل حتى الآن رغم مرور قرن كامل عليها.

وننتقل الآن إلى مؤسسة الأسرة، فربما لم يعد لهذه المؤسسة نفس الثقل الذي كان من قبل إلا أنه مازال لها تأثيرا قويا على بناء الإنسان، لكن أخطر ما في مسألة الأسرة هو حينما تعتمد في تعاملها مع أبناءها النموذج السائد في مجتمعاتنا، النموذج الأبوي الذكورى، وتفرض عليهم قيم المجتمع بما فيها من خطأ وصواب بصرف النظر عن ما منها تجاوز الزمن وما لم يتجاوزه، ثم تتغول هذه الأسرة على أفرادها وتقمع حريتهم فى اختيار ما يناسبهم، وتقضى على ملكاتهم الإبداعية بدافع الخوف عليهم، فتخرج للمجتمع إنسان لديه قابلية عالية للخضوع للقمع والرضا بالواقع المتراجع.

لذا فان دور الأسرة في بناء إنسان الحضارة يعتمد فى الأساس على إعداد الآباء من خلال الثورة الفكرية والثورة العلمية المعرفية اللتين تحدثنا عنهما من قبل، وذلك حتى ينتقى الأباء من بين قيم مجتمعهم ما يواكب التطور الزمني ويناسب أبناءهم، ثم يحصنونهم بها لا عن طريق التلقين ولكن عن طريق الإقناع، وينمون حرية الاختيار وتقبل الآخر والملكات الإبداعية لأبنائهم مراعين المواءمة بين مصالح الأبناء وعدم الإجحاف بحقهم في الاختيار، ثم يشجعونهم دائما على إبداء أراءهم بحرية ويحثونهم على نقد ما حولهم حتى لو كان أباءهم أنفسهم، مراعين فكرة النقد البناء، وبذلك سيكون لدينا خلال جيلين أو ثلاثة على الأكثر مجتمع راق، له قيم مناسبة ولديه القدرة على تطوير هذه القيم مع تطوره.

وننتقل بعد ذلك لدور المؤسسات الإعلامية وهو الأخطر، فكثيرون يعتقدون أن المؤسسات الإعلامية قد أخذت كثيرا من دور الأسرة والمؤسسة الدينية وحتى التعليمية، والسؤال الذي يطرح نفسه دائما هل نفرض رقابة على تلك المؤسسات أو على الأفراد فى مراحل النشأ في متابعتها، أم نتركها ونترك الأفراد دون رقابة، الحقيقة أن هناك أمرين يمكن التعامل معهم فى هذه القضية، أولهما أن يكون هناك مؤسسات إعلامية تقدم مادة جاذبة للجمهور تضع صوب عينيها بناء إنسان الحضارة، عن طريق نقل نتائج الثورة الفكرية والثورة العلمية المعرفية له، وتساعد الأسرة والمؤسسة الدينية على القيام بدورهما الذي ذكرناه، وتعمل هذه المؤسسات الإعلامية على تنمية قدرة الفرد على النقد والاختيار الحر، وتساعد هذه المنظومة الإعلامية الجديدة الأفراد على تأصيل فكرة الانتقاء والتطور الفكري بشكل حر وسيكون ذلك هو الحل الأفضل من فرض الرقابة على الإعلام، خاصة وأن تجاربنا مع الإعلام الموجه غير مبشره.

وأخيرا إذا ما انتقلنا إلى جانب المؤسسة التعليمية فلن نقول أكثر مما قلناه في مقالنا السابق ثورة العلم والمعرفة، فيجب أن تكون أهداف المؤسسة التعليمية هي تمكين الإنسان من الاستغلال الأمثل لقدراته وتنميتها، وإضافة قدرات ومهارات جديدة له، وتحويل عقله إلى عقل نقدي لا نقلى وتوسيع مداركه، ومساعدته على اتخاذ قرارات مبنية على المعرفة، وإنشاء الرؤية العلمية للمجتمع، والتفسير العقلاني للأمور، علاوة على تنمية القدرة على الحوار مع الآخر ونقل نتائج الثورة الفكرية للمناهج التعليمية، والتمهيد لمنح الطلاب القدرة في المستقبل على إنتاج العلم والمعرفة.

إن ما سبق كان باختصار شديد تصور مبدئي لما يمكن تسميته إعادة تعريف أهداف وفلسفة مؤسسات بناء الإنسان، لتصبح مؤسسات بناء إنسان الحضارة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى