الثلاثاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
نَظَرِيَّةُ النَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ
بقلم محمد جمال صقر

قَانُونُ الْمَجَالِ

لا ريبَ في أن تراثَ الإنسان وهو نتاج حياته كلها ماديها ومعنويها، مستمرٌّ من الإنسان السالف إلى الإنسان الخالف، ولا في أن الإنسان الخالف يحيا به كما حَيِيَ به الإنسان السالف، ولا في أن هذا التراث بنيان متطاول بكل ما يستحدثه الإنسان الخالف، حتى إنه هو نفسه ليقف منه كُلَّ حين على أطول مما وقف عليه من قبل!

وليس تراث الإنسان أشبه بشيء منه بالشجرة الحية فرعها وجذرها؛ فنتاج حياته المادي أشبه بفرعها، ونتاج حياته المعنوي أشبه بجذرها، ولا ظهور للجذر إلا بالفرع، ولا حياة للفرع إلا بالجذر. وما نتاج حياته المعنوي إلا ثقافته، واللغة قلب ثقافته النابض، والشعر عصب لغته المشدود، والعَرُوضُ قِوَام شعره القائم!

ومن طلب عروض الشعر اشتغل بشعر الشعراء -ومن طلب علم عروض الشعر اشتغل بعلم العلماء- فطالب العروض هو طالب الشعر؛ إذ العروض هو قِوَام الشعر الطبيعي القائم في أصل وجوده، فأما طالب علم العروض فهو طالب علم الشعر.

وينشأ طالب الشعر منا على استيعاب تراث الشعر، ثم اتِّباعه اتباعًا أعمى، ثم اتِّباعًا بَصيرًا، ثم الابْتِداع فيه. وسواءٌ على تراث الشعر أكان طالب الشعر في هذه المرحلة أم تيك أم تلك؛ فلن يكون مُبْتَدِعًا إلا فيه، كما لم يكن مُتَّبِعًا إلا له؛ فهو -لا بُدَّ- حاضِرُه وإن غَيَّبَه!
يَسْمَعُ طالبُ الشعرِ الشعرَ، أو يَقرؤُه، أو يَذْكُرُه؛ فتجيش بصدره موسيقاه العروضية نفسها أو غيرها، فيُغَنِّيها بقصيدة لنفسه في التعبير عن هَمٍّ من همومه. وليست الموسيقى العروضية التي يغنيها أَعْلَقَ من غيرها بما سَمِعَ أو قَرَأَ أو ذَكَرَ؛ فلن تخلو موسيقاه مُوَافِقَةً ومُقَابِلَةً ومُوَازِيَةً، من أن تكون وجها من وجوه تركيب المفردات العروضية نفسها.

وبالخصائص الوزنية (البحر أي نمط الوزن، وطول القصيدة أي عدد أبياتها، وطول البيت أي عدد تفعيلاته، وصُوَر التفعيلات أي أحوال سلامتها وتغيُّرها)، والقافوية (الرَّوِيّ أي أَثْبَت أصوات أواخر الأبيات، والمَجْرى أي حركة الروي إذا تَحَرَّك -وربما سَكَن فلم تكُنْ- والرِّدْف أي حرف اللين المُلْتَزم قبل الروي أو التَّأْسيس أي حرف الألف المُلْتَزم قبل ما قبل الروي -وربما جُرِّدْ من أيٍّ منهما فلم يكن- والوصل أي حرف تمكين الروي إذا تحرك، وربما سكن فلم يكن)- بهذه الخصائص الوزنية والقافوية جميعا معا تَتَوَلَّدُ الموسيقى العروضية، وتَسْتَنْزِلُ لطالب الشعر قصائدَها من شواهقها، وتُغْريه بها، فيُوافقُها (يُتابعُها، ويُطابقُها)، أو يُقابلُها (يُعاكسُها، ويُضادُّها)، أو يُوازيها (يُباريها، ويُسابقُها).

وبذلك اشْتَمَلَ نقدُ الشعر على أبواب "السَّرِقة" و"المُسَاجَلة" و"المُعَارَضَة"، حتى تَعَصَّبَتِ العُصَبُ، واختلفتِ النُّصَرَاءُ والخُصَمَاءُ- ثم اسْتَبْدَلَ بها بابَ التَّنَاصِّ (تداخل النصوص)، حتى ثَبَتَ في طبيعة الشعر اعتلاقُ القصائد، وتحوَّل متلقوها عن اتهام أصحابها، إلى تذوق أساليب تَوارُدهم وتَكَامُلهم.

وفي أثناء موافقة القصائد ومقابلتها وموازاتها، يَتَكَوَّنُ لطالب الشعر أسلوبه الذي تَرْسُمُهُ مواهبه التَّلِيدة ومكاسبه الطَّرِيفة، وتُلَوِّنُه مناهله المتدفِّقة وتجاربه المتعمِّقة، حتى إن القصيدة لَتُعْرَضُ على المتلقين غُفْلًا، فينسبونها إلى صاحبها، بما عرفوا من أسلوبه.
ذلك قانون المجال الذي تَجُولُهُ قصائدُ الشعر (حركتها)، وتجول فيه (إطارها)؛ فمن خصائص وزن "مَفْعَل" في متن اللغة العربية -وكلمة "مَجَال" على وزن "مَفْعَل" بأنَّ أصلها "مَجْوَل"- تَحَمُّل الدلالة على المصدر إذا دَلَّ السياق على أن الكلمة مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ (جَوَلان شديد)، وعلى الزمان إذا دَلَّ السياق على أن الكلمة اسم زمان (زمان الجَوَلان)، وعلى المكان إذا دَلَّ السياق على أن الكلمة اسم مكان (مكان الجَوَلان)، ولا يمتنع أن يتسع الإطار لكل ما يشبه الزمان والمكان في إحاطة حركة قصائد الشعر.

على حركة قصائد الشعر موافقة ومقابلة وموازية، مِنْ داخل أُطُرِها المعتبرة- ينبسطُ سلطانُ قانون المجال، ويراعيه وُجودًا وعَدَمًا طالبُ علم الشعر، لأن طالب الشعر يخضع له عَفْوًا وقَصْدًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى