الجمعة ١٧ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم مصطفى عبا

الرَّجُل العابِر

وقت الغروب.

الشمس الخجولة تستجمع أشعتها الواهنة التي عوض الدفء تبعث البرودة في الجسد ثم بعد ذلك تنحشر متكومة في الأفق البعيد.

النهار يمضي ويأتي الليل.

يقودني التيه اليومي إلى تلك الحديقة العمومية، "حديقة الرأس الذهبي"، (پارْك دُو لاتِيتْ دُورْ) حيث يعج خليط من المخلوقات البشرية اختلفت بنياتها وألوانها والتي أخذت تتبدد كلٌّ في اتجاه مأواه.

على مقعد منعزل يجذب عينيَّ مشهد غير عادي وتتجمد له ساقاي. أقترب بعد جهد عابر لكي أجد نفسي أمام رجل طاعن في السن يقوم بحركات واهنة، رجل غارق في بحر التجاعيد، مقوس الظهر تحت وطأة السنين التي ولت، شيخ ذو ساعدين نحيلين مرتعشين، يمسك بيده الهشة أداة صلدة يطرق بها في إجهاد وتواصل جمجمته ذات اللون الذهبي والتي تتخللها بعض آخر الشعيرات البيضاء.

أقترب منه مزيدا ثم أقترح عليه بعض المساعدة. تستقبلني خلف أجفان مرتعشة عيناه المبللتان، عينان مفعمتان بالآمال وبالأحلام. ترسم شفتاه الذابلتان بسمة امتنان تتوخى طمأنتي وهي تحاول في نفس الوقت أن تتحدى التجاعيد التي تأسرها.

 الصقيع يجمِّد هذا المكان يا بنيّ!

يقول لي ذلك وهو يشير إلى رأسه بسبابته المعقوفة المرتعشة، ثم بعد ذلك يضيف:
 هذا الرأس مليء بالثلج يا بنيَّ، بالضباب و بالوحدة! لذلك فإنني أحاول أن أحفر ثقباً في هذه الجمجمة حتى يتسنى للشمس أن تدخلني عبره وتبعث هكذا دفئها في داخلي. لا زالت لدي رغبة في الحياة يا صديقي، هل تعلم ذلك؟... آه! اطمئن! ليس الأمر كما تعتقد أيها الشاب اللطيف، لا، فأنا لست مجنونا حتى... هه... هه... هه... حسنا، هيّا! اذهب الآن في حال سبيلك، دعني في أمان، هيا... اذهب.

مترددا وحائرا أمام عناده أكف عن الإلحاح. أتراجع بخطوات بطيئة لأستمر في تيهي بينما يلاحقني صوته: "إلى اللقاء القريب أيها الصديق!"، صوت مخدوش ولكنه مليء بالأمل والمعاندة.

كم مرة جعلت من تلك الحديقة قبلة لي، ولكن في كل مرة لم أجد أثرا للرجل الذي كان يسكنني. أما عن مصيره المحتمل وربما الحثمي -نظرا للحالة التي كان يوجد عليها- فلم تكن نفسي على استعداد لتقبله. بيد أنه مع مرور الأيام، رويدا رويدا، وعن غير علم مني أخلى الشيخ ذاكرتي بصفة نهائية وغادرتني صورته!

حدث كل هذا منذ سنوات.

الأيام وأشياء الحياة جعلتني أنسى ما حصل جملة وتفصيلا، إلى أن جاء يوم قادني فيه تيهي مرة أخرى صوب "الپارْك دُو لاتِيتْ دُورْ".

ألقيت بنفسي هناك مسترخيا. تهالكت بهدوء على مقعد في ركن منعزل بعيدا عن المتجولين الذين كانوا يدبون في كل الأرجاء. كنت أحلم بأشياء لا تهم أحدا غيري. لنقُلْ بالأحرى إنني كنت أحاول أن أحلم، كنت أحاول؟ نَعَم، لأن الشمس في تلك الأيام كانت مريضة واهِنة، وكان الزمن يربض بكل ثقله فوقي، كان الماضي يحاصرني دون رحمة، كنت أجهد النفس في نصب كمائن للحظات الهناء الذي جعل من نفسه شيئا ناذرا صعب المنال. كنت كمن يحاول إلقاء القبض على بعض أشعة نور تائهة لكي أجعلها طعما لهذا الجسد الذي غدا عدُوًّا لي مع مرور الزمن. كنت أريد أن أولَد من جديد، كنت أريد أن أتجدد...

"يا شمس ليالي البيضاء! ما عساي أن أفعل لدحض هذا الكسوف في داخلي؟ أيتها الشمس الخرافية! أيتها الشمس العصية عن الإدراك! أيها الدفء الصقيعي الذي لا أحتمله! ما عساي أن أفعل كي أطرد هذه الوحدة وأستأصل هذه الشيخوخة من جسدي؟"... هكذا كنت أتساءل. حينذاك، حينذاك فقط رأيته هناك! وكالأعجوبة وجدته منتصبا أمامي، على مقربة مني، يواجهني بقوامه الطويل وبنيته المتماسكة. كان هو ولا هو! كان له نفس السحنة البرونزية التي عرفتُ له من قبل، سحنة رجل ينتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط أو إلى بلاد العرب. كان الشباب ينساب في عروقه ويورِّد وجهه اليافع... ثم إنه ما لبث أن انحنى صوبي وبصوت فيه ما فيه من العطف والحنان قال لي:

 هل بإمكاني مساعدتك يا سيدي؟

كان التأثر والاستغراب يسدلان على عينيّ ستارا مبللا بالدمع. لا، لم يكن الأمر هلوسة، ولم يكن الذي رأيته طيفا. الحقيقة أن الرجل كان قد عاد إليه شبابه وتجدَّد بشكل ملموس. كان هو نفسه ولكن في جسد آخر أو ما شابه ذلك. كيف فعل؟ ماذا فعل؟ هل يتذكرني على الأقل؟... تلك أسئلة من بين أخرى لم أجرؤ على مواجهته بها.

قال لي بشفقة ناذرة:

 تعال معي أيها الْجَدّ الطيب. سنمضي معا لشرب شيء ما عند "كُولِيت" وبعد ذلك نتناول كُسكُساً في بيت "رُوزْلينا" في حي "لادُوشِير". كُف عن تعذيب نفسك وهيا بنا فالسماء ستمطر بين فينة وأخرى.

وبما أنه أطال في الإلحاح أجبته:

 هذا الرأس مليء بالثلج يا بنيَّ، بالضباب و بالوحدة! لذلك فإنني أحاول أن أحفر ثقباً في هذه الجمجمة حتى يتسنى للشمس أن تدخلني عبره وتبعث هكذا دفئها في داخلي. لا زالت لدي رغبة في الحياة يا صديقي، هل تعلم ذلك؟... آه! اطمئن! ليس الأمر كما تعتقد أيها الشاب اللطيف، لا، فأنا لست مجنونا حتى... هه... هه... هه... حسنا، هيّا! اذهب الآن في حال سبيلك، دعني في أمان، هيا... اذهب.

كانت تغزو ملامحه علامات الحيرة وخيبة الأمل وهو يتراجع بعيدا عني بعد أن رمقني بنظرة مليئة بالمؤاخذة والعتاب. رأيته ينآى بخطوات وئيدة متثاقلة...

كان لديّ أكبر اليقين بأنه كان يفكر فيَّ كما لم يفعل ذلك أحد من قبل.

صرخت بصوتي المبحوح كما استطعت، وكأنني أريد طمأنتَه أو طلب معذرته:

 إلى اللقاء القريب أيها الصديق!

توقف عن السير ثم التفت نحوي، بعث لي بابتسامة فيها مزيج من اللطف والمرارة وهو يحرك رأسه علامة الموافقة وكأنه يقول لي: "أجل، لقاؤنا قريب بالتأكيد".

حدث كل هذا منذ سنوات.

الأيام وأشياء الحياة جعلتني أنسى ما حصل جملة وتفصيلا، إلى أن جاء يوم قادني فيه تيهي مرة أخرى صوب "الپارْك دُو لاتِيتْ دُورْ". رأيته هناك منحشراً في ركن منعزل. كان متهالكا على مقعده الذي تحيطه أوراق ذابلة قذفتها ريح الخريف الباردة.

كان يحلم بأشياء لا تهم أحدا غيره وهو يطرق بأداة معدنية جمجمته في حركات ضعيفة واهنة، ولم يكف عن ذلك إلا حينما رآني منتصبا أمامه عارضا عليه بعض المساعدة...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى