الأحد ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم مهند النابلسي

العجلة الكبرى والعظام الرقيقة!

كل من زار «فينا» يتذكر الارجوحة الضخمة أو «العجلة الكبرى» التي ألهمت الاديب العالمي «غراهام غرين» لكي ينسج حولها احدى أهم رواياته «الرجل الثالث»، فعندما تبدأ المركبة بالصعود دورانا، تتصاغر أحجام المخلوقات لحد الضآلة، حتى أن الشرير في الرواية المذكوره يجد في ذلك مبررالقتل الناس،لأنهم يتحولون حسب وجهة نظره "لذباب أسود اللون"! فهل يمكن لانسان أن يشعر بالتعاطف والشفقة تجاه الذباب؟ وماذا يضيره لو تلاشت ذبابة وكفت عن الحركة للأبد؟! انها عين الطائر التي سعى الانسان طويلا "للتمتع بها"، وكد من أجلها طوال العصور، ابتداء من محاولات الرائد عباس بن فرناس، وحتى اختراع طائرات الشبح التي تعجز الرادارات عن كشفها. واذا كان شرير "غراهام غرين" قد رأى الناس ذبابا من ارتفاعه المتدني نسبيا، فماذا رأى الطيارون من كابينة القياده ابتداء من الطائرة التي قذفت هيروشيما بالقنبلة النووية الاولى، وانتهاء بطائرت اف16 وبي 52 وحاليا الطائرات الروبوطية بدون طيار، كذلك لابد من ذكر "عيون رواد الفضاء" من الارتفاعات الشاهقة،وعدسات المركبات الفضائية والاقمار الصناعية التي تجوب الفضاء الخارجي لأغراض علمية-بحثية أو حتى تجسسية!

في الفيلم الأخير لبيتر جاكسون "العظام الرقيقة" ترصد فتاة "تعيش في السماء" المسار الدرامي لاسرتها المنكوبة (بفقدانها) وتعاين التفاصيل اليومية لقاتلها الطليق...وحيث يلقى حتفه بفعل الصدفة فقط، عندما يتعرض لسقوط قطعة مدببة من الجليد على كتفه أثناء تحرشه بفتاة جديدة! هكذا نلحظ هنا "عين الطائر" ممثلة في "فتاة السماء" وهي ترصد حركة الأقدار ومصائر الأشرار! وكذلك ينعت سكان كوكب "بانادورا" (في فيلم آفاتار) المهاجمين الطامعين بثروات كوكبهم الافتراضي "بغزاة السماء".

هل نستنتج من ذلك أن النظرة البعيدة قد تلغي أحيانا التعاطف الانساني الحميم؟ وهل نحل مشكلة غربتنا الروحية باللجؤ للنظرة القريبة (المكبرة)؟ تبقى المفارقة المزعجة فسارتر يتحدث عن "الشعور بالغثيان"،وخاصة عندما تبدأ بالتحديق في شيء ما حتى ينحل شعورك "بمعرفته"، ويصبح غريبا وغير مألوف.حاول أن تحدق مليا في وجه انسان تعرفه جيدا،واطل التحديق فيه لتكتشف أنه يصبح بالتدريج غريبا عنك!

وبينما يذهلنا العلم يوميا بابداعاته البالغة الاعجاز، نفاجىء بفقدان التواصل البشري والروحاني في الكثير من أوجه حياتنا، وكما راقب كامو انسانا يقوم بحركات غريبة في غرفة تلفون مغلقة بدون أن يسمع كلامه، دعنا نراقب تشنجنا الدائم، وانعدام تواصلناوغربتنا كما نتأمل شريطا سينمائيا بدون صوت، وبسرعة زائدة، حيث تتحول الانفعالات لحركات "كاريكاتيريه" تثير الضحك والسخرية، وللتأكد من ذلك يكفي مراقبة انفعالات وصراخ المتحاورين في برنامج الاتجاه المعاكس!

لماذا نذبح الحيونات، ونصيد الأسماك، ونسحق النمل في طريقنا، ونعتبر ذلك عملا عاديا؟لأن الآخر الذي نقتله بالرغم من كونه كائن حي، الا أنه ليس من نوعنا، وبالتالي يجب تقبل قتله ومعاناته كنتيجة طبيعية لرغبتنا في اشباع غرائزنا وحاجاتنا الانسانية، فوجودنا كبشر (أو تنوع وجود الكائنات ما بين مفترس وضحية) يعتبر بمثابة كارثة للحيوانات الضعيفة! وبالتالي ألم تكن ممارسات وعهود الاستعمار "صورة بشرية" درامية لهيمنة المتفوق واحتقاره الشديد للآخر "المتخلف أو الضعيف لا فرق"، وللتأكد من ذلك يكفي مراقبة شريط تسجيلي لطريقة تعامل المستعمرين البلجيك الأوائل للأفارقة المحليين في ما يسمى الآن دولة "الكونغو"،وذلك على سبيل المثال لا الحصر! ومع ازدياد الهوة "العلمية والتقنية والاقتصادية وحتى الثقافية" والتي تصنف البشر مابين "متخلف ومتحضر"، وفقدان النزعة الأخلاقية والضمير الانساني، فان الخشية تزداد من ممارسات "شوفينية –عنصرية- فوقية" تمكن "المتفوق والقوي" من قتل واستعباد ألآخر "المتخلف نسبيا" ارضاء لغرائزه ونوازعه واساطيره ورغباته وتطوره العلمي وبشكل غير مسبوق، وربما العدوان والتنكيل الوحشي الذي قامت به اسرائيل وتقوم به باستمرار على الشعب الفلسطيني وغزة وجنوب لبنان وسوريا مؤخرا يمثل نموذجا عمليا "عصريا" لهذه الممارسات العدوانية المتغطرسة، اذا ما أخذنا بالحسبان التحريض على القتل والكراهية التي مارسها "حاخامات" الجيش الاسرائيلي عندما شبهوا "العرب والفلسطينيين" بالصراصير التي يجب سحقها!

لا تتوافق غرائز البشر مع تطورهم العلمي وستبقى شعوب كثيرة تعاني من هذا التناقض، واذا ما أردنا أن نتجنب مصير تحولنا "لحيوانات تجارب"، فربما قد آن الأوان لحملات تنوير (فكري-ديني-مذهبي-عقائدي) شاملة تخلصنا من الترهات والخرافات والتشرذم والفساد والتنكيل والتفجير والذبح،وكذلك أنماط الفكر الاستعراضي والاقصائي والنخبوي والطائفي و"التكفيري" والجهوي... وغيرها من العلل والآفات التي تعاني منها الشخصية العربية - الاسلامية! لقد استغل الغرب الخبيث ممارسات الطغيان والاستبداد وتوق الجماهير للحرية والديموقراطية والمساواة لكي يسخر هذه الحركات الجماهيرية التلقائية لمصلحة أجنداته المشبوهة في المنطقة العربية، ولضمان أمن واستقرار اسرائيل، وذلك بواسطة عملائه المنتشرين في كل مكان وموقع....كما سهل الوجود الجاهز للنماذج الاسلامية التكفيرية الجديدة وتكاثرها ودعمها (المالي والتسليحي) السخي وغير المتوقع وتشريع وجودها من قبل فقهاء السلاطين، لكي يقوم الغرب الاستعماري الامبريالي مع اسرائيل الغاشمة (لأول مرة في التاريخ المعاصر) بتقويض حركة التحرر والمقاومة العربية وبأيدي اسلامية تدعي بجرأة ووقاحة وتبجح بأنها تحتكر الحق والصواب و تستند لمرجعيات "سماوية مقدسة"! تماما كما تفعل بحركات "مصارعة الجودو" الذكية، فأنت تستغل بدهاء مواطن القوة والضعف لدى خصمك لكي تنفذ منها وتتغلب عليه: فتم بخبث استخدام عناصر "الاستبداد والفساد والفكر السلفي المتشدد والاحتقان الطائفي وجهل العامة والدهماء" لتقويض ثورات ما يسمى " الربيع العربي"!

غني عن القول أن الديمقراطية واحترام الانسان والنظام والاعتماد على الذات وبناء المؤسسات هي العناصر الأكثر أهمية لبناء الحضارة والتقدم، والزمن لا يرحم في سباق التناقس بين الامم والشعوب،فيما (وربما) يعكف العلماء في مختبرات "سرية" لاجراء تجارب أولية لبحث امكانية صناعة "روبوتات" بشرية مستقبلية ذات عناصر "مهجنه"، والخشية من تحول أفكار "الخيال العلمي"الى واقع ينتج عنه "كائنات" مركبة فاقدة للروح الانسانية، ومشحونة بذاكرة "سيليكونية" انتقائية استعلائية تمارس العنف والقهر بشكل ميكانيكي خال من الاحساس بالذنب "ووخز الضمير" البشري،وقد تساعد صانعيها على انجاز المهمات "الاستعمارية" بدون تعريضهم للمسائلة القانونية، فمن سيقدم "روبوتا" أساء التقدير للمحاكمة؟ وربما تكون اغتيالات طائرات الدرون (بلا طيار) مقدمة لتشريع أنماط جديدة مستقبلية من الاجرام "الروبوتي"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى