الاثنين ٢٧ أيار (مايو) ٢٠١٣

قـراءة في ديـوان «أوتـار النزيـف»

جمال الدين حريفي

(1)

على سبيل التقديم

"هي تغريدة روح حبيس ضاق بصلصال الهوان فأشعل الحرائق في رمـاد اليأس ثم أفـرد جناحيـه فوق واحات الحلم. شاعر وطائر..يرفع فوق كل حلم ظله.....

روح جريح منكسـر...لكنـه...

قوي، متمرد وثائـر... روح نسـر تسكن روحه.

أو روح أسـد جريح، وليس أقوى من أسـد جريح.

والشاعـر/النسر يسمو فوق جرحـه ويعلي فوقه، صوتـه، ليزرع في السراب نخيلا من الكلمات ويفجر في اليباب أعينـا للسياحين العطاش لعيـون الشعر."

(2)

فرادة العنـوان

أول آيـة لتميز الديوان الشعري للأستاذ أبو شيار تطالعك في عنوانـه "أوتـار النزيـف".

فقد وفق الشاعر في تركيبـه مـن رمزيـن قوييـن ومعبريـن عـن واقع حال ما يعتمل طي ضلوعـه من يأس وأمل وما يعتمل في الواقع من مآس وتطلعـات وأحلام.

الأوتـار تحيل على النغـم
والنزيـف يحيل على الألم
الأوتـار موسيقى
والنزيف جراح
الأوتـار شـدو وغنـاء
والنزيف بـوح وبكاء

الوتـر لسان العـود والقيثارة والهجهوج والكمان والمندوليـن..

الوتـر لسان الحال حين تضطرم نـار العشـق في الصدر ويطفح الوجـد بصاحبـه. ومن بيـن كل الآلات الموسيقيـة فليس أروع ولا أقـدر ولا أجـدر بالتعبير عن الأحـزان والأشجـان من الآلات الوتريـة، ومـن بين الآلات الوتريـة فليس أروع ولا أجدر ولا أقدر من العـود على حمـل رسالـة الروح لأهـل الأحـزان والأشجـان.

الشعـراء الملهمـون نادرا ما يفارق العـود حضنهم قبل كتابـة قصائدهم وبعدها، و عبد العزيـز أبو شيـار واحد من هؤلاء الملهميـن الذيـن يعزفـون وجراح أرواحهـم تنزف بالآمال والآلام فيطربـون الناس ويرقصـون الأرواح على إيقاع أحلامهم وصفاء سرائرهم. الروح الحبيس في قفص الواقع المخيب للآمال كيف يستطيع البـوح والإفصـاح عما يضنيـه ويعانيـه لولا الوتـر. ولولا العـود.؟

فتقاسيم العـود كلمات الروح أما القصائـد فهي النزيـف. إذ ليس الجسم وحده الذي ينـزف.

الروح أيضا ينـزف
الروح ينـزف حيـن ينكـوي بنـار العشـق المستحيـل
وينـزف حين يستحيـل تحقيق الأماني الغاليات..........
وينـزف مـن غدر الأيـام وصد الحبيب
وينـزف من هجـر الخلان وجحود الأوطـان
نزيـفا أحمر قـان كنزيـف الدم.

وذاك النزيـف هـو ما جعـل الشعوب تبدع الأوتـار وهـو ما جعلهـا تصنع من جسم العـود جسدا آخر للشاعـر، حيـن يئـن أو يحن أو يشكو ما بـه ويعري جراحـه للريـاح.

وديـوان "أوتـار النزيـف" عـود أوتـاره القصائـد والشـاعر عـازف ينـزف بالكلمـات.

الكلمـات دم الشـاعر، كلمـا لا مسـت أنـاملـه الأوتـار صـدح الجرح بالنشـيد.

يقـول الشاعر مـن قصيدة النـزف العـازف.

" أنـزف ونزيـفي بعـزف.
رأيـت فتاة... تستهلك الجسـد المنهـوك بالمساحيـق
كي تحظى بالإعجـاب والتصفيـق
عبر طقوس العـرض والطلـب
وأخـرى ترصع الخصر..
غصـن زيتـون وزعتـر
تكحـل بالبارود
تتخضب بأحمـر الدمـاء
تفتـل ضفيرتها مقلاعـا..
تزفـه للحجـر...
أنـزف ونزيـفي يعـزف..."

كل القصائـد في الديـوان تحمل موسيقـاهـا الخاصـة وعزفهـا الخاص.

القصائـد ألحـان تهفـو للكلمـات وتعانقهـا كمـا لـو أن الشاعـر عزفهـا قبل أن يكتبهـا أو ينزفهـا.

حقـا لقـد عزفهـا داخلـه.. لقد عزفهـا في سـره، ثم تدفق من خفق القلب نزيـف الكلمـات.. صار الدم حبـرا بين يديـه وصـار الألم العصي شعرا ينبض بالحياة وبالتمـرد وباللوعـة وبالقلق وبالعشق وبالجنـون وبالأمـل في أن تأتي أيـام أخـرى أحلى وأبهى مـن هذه الأيـام التي تكتـم على الأنفـاس وتخمـد في القلب جـذوة الحياة.

أوتـار النزيـف ديـوان أراده الشـاعـر بوحـا صريحـا وعاصـفا باللهـب المستعـر في أحشائـه وبين جوانحـه.

ديـوان من حروف مشتعلة تقاسيـمَ وترانيـمَ على خمسـة أوتـار كما هي أوتـار العـود.ولأنـه شاعـر وموسيقي أو لأنـه وسيط بامتياز بين ألـم الروح وأحـرف اللغـة فهو يحـول موسيقـاه الداخليـة إلى كلمـات مغنـاة على تقاسيم العـود.

لقـد جعل الشاعـر لكل ألم وتـرا.

خمسـة أوتـار للعـود وخمسـة أوتـار للألم ولليأس وللكبريـاء وللجرح وللحلم وللأمل.

وللعـود وتـر سادس، وتر سادس لا يستغني عنـه الشاعر ولا الموسيقي الذي يقـود يد الشاعـر إلى الكتابـة مثلمـا يقـودهـا إلى العـزف على الجراح.

الوتـر الأول للشعـر.
الوتـر الثاني للحبيبـة الملهمـة.
الوتـر الثالث للذات الشاعـرة.
الوتـر الرابع للمـوطن والوطـن.
الوتـر الخامس للأمـة النائمـة.

أما السادس فلا يستقيـم تقسيم ولا ترانيم ولا أمل ولا أمل ولا غنـاء ولا شـدو أو بكـاء إلا بـه.

الوتـر السادس هـو الوتـر الأقصى.. وتـر القدس والوطـن المشتهى.. وتـر المنفى.. وتـر سادس لنزيـف الجرح الفلسطيني وحـده.

أو قمر سادس لليل القصيدة.

(3)

أوتار النزيف

وتـر الشعـر:
الشعـر عنـد أبـو شيـار موقف

الشعـر رسالـة وبوصلـة.

الشعـر قـدر الشاعـر الملهم.

وهو حيـن ينـزل واديـه، تحيـط به جنيـات عبقـر لتزفـه عريسـا للقصيـدة، فجنيـات الشعـر يحطن به لا ليلهمنه فـن القـول وإنمـا ليرهفـن السمع إليـه يتقدم سلالـة الشعراء الحقيقييـن معلنـا:

"أنـا الشعـر والشعـر أنـا

الشعـر يسكنني"

شعـر يعبـر نقاط التفتيش، شعـر يرفع الرؤوس كبريـاء وشمـوخا، شعـر يحترف الحـزن أو يمسحـه عـن العيـون.. شعـر يعبـر شمسا لظلام السجـون، هذا هو الشعـر عند أبي شيـار وهـذه وظيفتـه.. الشعر ليس ترفـا وليس بضاعـة أو تسالي يتاجر بها الشطـار والتجـار في سـوق الكلمـات، الشعـر لا يسلي و لا يلهي ولا يباع ولا يشترى.. الشعـر رسالـة الشاعـر الإنسـان لشبيهـه مـن الناس في الألم والمعاناة.الشعـر موقف من الحيـاة.

وتـر الملهمـة:

حبيبـة و ظامئة العينيـن

تضع رأسهـا على صـدر الشاعـر، وخيالهـا يسكـن جسـده.

قـد تكـون فكـرة أو صـورة أو أمـا أو لغـة أو عاصمـة أو وطنا أو ثورة.

قـد تكـون امرأة.. مـن بين أسمائهـا / الحريـة.

ظامئـة العينيـن هي الملهمـة التي تسكن جسد الشاعـر، تلهمـه قولـه وتلهب مشاعره وتلتهم قلبه.. أو تلتهمـه كلـه، فيتماهى معها.

"أنت أنـا" يقـول.

ظامئـه العينيـن تتخلق في الصورة أو الفكرة التي يريد لها الشاعر أن تكون صورتها أو فكرتـه هو عنها.

ظـامئـة العينيـن قـد تكون القصيدة فقط.

وقـد تكون سورة الغضب حين يصرخ الشاعر غاضبـا مـن هوان الأعـزة في ديارهم.

ظامئـة العينيـن تلهـم الشاعر قصـائده الجديدة.. لوقتـه الجديد إذ "يـورق العالـم في رأسـه" ويجهـر بالنشيـد.

والشاعـر لا يبخل على ملهمته بالصفات التي تحب.. فهي الزهرة بين الغصـون وهي الشعاع في الدجى وهي القيثارة وهي النـور وهي الحلـم.

الشاعـر الذي يكتب القصيـدة. ليست تلهمـه غير القصيدة.

وقصيدة الشاعر ظامئـة العينين وبها عطش لا يروى.

وهي ظامئـة القلب أيضا لكي تحب وتحب.

شاعر ويعشق القصيدة كيف لا تلهمه القصيدة ؟. و لقصيدته صفات المرأة لأن النساء أجمل القصائد على الاطلاق.

وتـر الذات الشاعـرة:

عبد العزيز أبو شيـار شاعـر "رسـولي"

يتقلب منبسطـا ومنقبضـا بين أهوال الشعـر وأحـوال القلب.

فتارة يسبقـه حلم الأطفال.. فيصير غجريـا يركب رياح الكـون كالسياحين في الأرجـاء وطليقـا كالطيـر يعيش أعمـارا بعدد القصائـد.. فهـو فراش وهو نبع سرمدي يروي العطـاش. وتـارة أخـرى يصرخ في الأنـام محذرا مـن الأمـل الزائف كالسراب، يرفض ما سيكـون، يرفض انهيار أحلامـه وأيامـه، يرفض رحلتـه الأولى، يقتل الغجري فيه، يعتبر أسفاره ضربـا من الجنـون. لكنـه في تناقضـه يبقى شاعر الأمـل البنـاء. شـاعر الإرادة والفعل، وليس تناقضـه سوى عنـوانا لتعارض الحلم والرغبـة مع الواقع المـر العنيـد.

تعارض الحلم والرغبـة في العـزة والعيش الكريم مع واقع يئد الرغبات والأحلام..

كيف لا يناقض الشاعـر نفسـه وأمـام عينيـه تنكسـر الأحلام ؟

وهل في تعبيـره عن انكسـار الأحلام لطف أم ضعف أم غضب أم عنف ؟

أليس مـن واجب الشـاعر أن يكـون أحيانـا لطيفا لطيفا كطيف لكي يحس أكثر من الآخريـن فيستشرف الأحزان والأفراح الآتيـة ؟ وأليس مـن حـق الشاعر أن يكـون غاضبـا.. غاضبا و قويـا لكي يسبـق واقعـه ويتقدم أهلـه إلى الواجهـة.

هذا هو الشاعـر عبد العزيـز أبو شيـار.

لطيف في غير ضعـف.

وغاضـب في غيـر عنـف.

لأن لطفـه ليس لطف الهـوان ولأن غضبـه ليس غضب العدوان، وإنمـا لطفـه مـن رقـة إحساسـه وغضبـه مـن قـوة إرادتـه.

"شاعـر رسولي" يرفع أقدار أهلـه كصخرة سيزيف على كتفيـه ويرتفع بأقدار أمتـه مـن حـال الهـوان إلى حـال العـز ويشير بأصابع الاتهـام إلى أقـدار أوطـان تـوزع صكـوك الغفـران بالمجان على من يعلن الإذعان..

يصرخ الشاعـر بالأمل مـرة أولى وثانيـة ويشعـل الحروف ليضيء الطريق للسالكيـن: ها هنا السؤال:

فإذا صرخ الكل مثلـه

فكيـف يكـون الحال ؟

وتـر المـوطـن والوطـن:

الموطن والوطن عند الشاعر صنوان، فذاك وطن الهوى والقلب و الأنفاس وهذا موطن التاريخ والحضارة والذاكرة..والشاعر طائرهما المغرد معا، يحلق فوق الموطن مطلا على رباه وقراه ويحلق فوق الوطن حاملا البشارة لربوعه أو باكيا ما حل به وحالما بإيقاظه من سبات، يطوف الشاعر الطائر بالموطن والوطن يجمع البسمات من وجوه الكادحين ويزرع الياسمين في جسد الإنسان، يا وطني يقول الشاعر:

"يا وطني فقـراء نحن
ونملك كل سلاح الفقراء.
الكرامـة والوقت وأحلام الآتي."

الشاعـر يؤمـن بالآتي مـن دم ومـن عرق الفقـراء.. ويؤمـن بمستقبل الوطـن، حتى وإن كان يحزنـه ويؤسيـه أن تكون كل الأحلام قد صارت من الماضي وأن تكون الكرامة مجرد ذكريات خاليات، وهو والوطن سيان، يعانيان من قيود ومن قفار وزهور ذابلات.

ما أشد حسرته.. وما أعظم يأسه وخيبته في وطن تغير من حال إلى حال.

ولا عجب أن يختـم الشاعـر ديـوانـه كما لـو أنه يغلق صفحـة الوطـن بقصيدتـه الرائعـة عـن ورطاس.

فورطاس الموطـن هو ورطـاس الوطـن.

أيتشابهـان أم يتماهيـان في ما ضيهمـا وحاضرهمـا، وكيف ؟

ورطـاس بلا مستقبل والوطـن بلا ذاكـرة.

أليس ورطـاس ذاكرة لمجـد الوطـن ؟.. فلم فككـت أوصالـه وفتـت أحجاره ؟؟ فقط لكي ترتفع في كل الأرجاء مدن بلا ملح ولا روح وبلا طيروبلا ورد وبلا مجـد، أليس ذلك ما حـل بالوطـن ؟

ألـم تفكك أوصـال ماضيه وتفتت أحجار ذاكرتـه ؟..

يتحسر الشاعـر على المآل الذي لم يكـن منتظـرا وعلى الأحلام المؤودة في أسرتهـا لأن أصحـابهـا لم تكـن لهم الإرادة ليقوموا مـن أسـرة النـوم واكتفـوا بالأحلام.

الأحلام وحـدها لا تكفي لحمايـة الموطـن والوطـن.

وتـر الأمــة:

والأمـة هي بيت القصيـد في الديـوان، بل هي "صدر" كل بيت و"عجزه" خاصـة بعد أن صار صـدر الأمـة "ظهرا" يمتطيـه الأعـداء والأغـراب والتافهـون والزمـارون والطبالـون والراقصـون على الحبـال.

وصار عجز كل بيت في قصائدهـا وخطبهـا العصماء عن مجدها التليد العنوان الأبرز لعجزها وذلها وصغارها في عصر لا يقبل بغير الصدر أو القبر، وينبذ العجز والضعف والجهل والوهن.

الشاعر في حقيقة الأمـر لسـان حـال الأمـة، يعتصـر الألم قلبـه على واقع هوانهـا على أبنائها وتنزف روحـه تحسرا على مآلها بين أمم الأرض التي تقدمت أو قامت من كبوتها لتلحق الركب وتصطف إلى جانب صنـواتها في المقدمـة مـن مضمار السباق نحو الرقي والعيش الكريم..

يصف الشاعر ضعف الأمة وتكالب أعدائها على نهش جثتها و لحس قصعتهـا

فهذه الصهيونـة مكشرة على الأنياب، وهذا الغرب بنى لأهلـه معابد لآلهة الحب وأشهـر على بلـدان العرب ( العراق) راية وأسلحـة الحرب.

هولاكو جديد تدك سنابك خيل حديـده جنائن المدنية وتقتلع أشجـارهـا وأزهـارها، مخلفـة وراءها غبـار الخراب والدمار. لا يهمهـا مسـن أو طفـل أو امرأة أو زنبقـة، بل عينها على الثروات التي تحرك عجلـة اقتصادهـا وتضمـن الرفـاه لأبنائهـا.

وهذه الأمـة.. أمـة الشاعـر غارقـة في الوهـن بفعـل قرع الكؤوس وشرب الأنخاب وضرب الطبـول، ترقص على إيقـاع الخـوف والجـوع، أقطـارهـا رقع وهي بين الخلق مهزلـة تضحك مـن نومهـا ومـن حمقهـا الأمم.

و ليكـن:.. فالشاعـر لا يقبل بالهزيمـة.

أنه يعرف الداء ويعرف الدواء.

ومثلمـا يديـن الأعداء والخصـوم ويصف ما عليـه الأمـة مـن ركون للغرب و إذعان لظلمـه وطغيانـه فإنـه يصدر في المقابـل بيـان نهضـة الأمـة وتقدمهـا.. فهي ليست كما يوهمهـا أعداؤهـا، وليست كما يعتقـد أبناؤهـا: أمـة ميتـة.. بل إنهـا لا تزال تحضن جذوة الحياة.. وتلك الجذوة هي ما يسعى الشاعر لتأجيجـه فينفخ فيها شيئا مـن روحـه ومـن عـزة نفسـه لتهـب واقفـة في وجـه العدوان و الطغيـان وتستعيـد ماضيهـا ومجدهـا.

فيقـول باسم هذه الأمـة التي لـن تمـوت.. وليس الهـوان والذل في عمرهـا إلا مرحلـة لـن تـلبث أن تتجاوزهـا إن هي أخذت بأسباب النهـوض.

يقـول الشاعـر:

لكننـا رغـم هـذا الليـل نعلنهـا
ولير الأعمى وليسمع من به صمم
إن طال ليل الأسى واشتدت ظلمته
وأرق الأمـة المكلومـة الظلــم
فالصبح يأتي هنا والشمس طالعـة
عما قريب وليـل الظلـم منصرم
هذي دمـاء طيـور بالحق تنتفض
ترمي العـدا شرارا كأنـه الحمم

في قصيدة "دمع الحروف" التي اقتطفنا منهـا المقطع السابق نجـد الرؤيـا الفكريـة والسياسيـة واضحـة ونجـد العبارة اللغويـة قويـة كما نجـد البنـاء الشعري متماسكـا، وبهذا الوضـوح والقـوة والتماسك نفسـه يقدم الشاعر البيان المقترح لنهضـة الأمـة قائلا:

"من كـان يفخر أن جرج قدوتـه
وأن قبلتـه عجـل أو صنــم
فنحـن قدوتنا بالوحي شاهــدة
قوامها السنـة الغـراء والقلـم
بالعلم نرسم للأكـوان خارطـة
حدودها العز والتمكين والقيم
بنهضـة ألبس العرفـان فتيتهـا
ثوب الشجاعة لا جبن ولا هرم
درب المعارف فرض في عقيدتنا
والله ناصرنا منه العون يستلـم"

التشبت إذا بالهويـة، التشبت بالوحي والسنـة والعلم والأخلاق والقيم والشجاعـة في مواجهـة الصعـاب وعدم الجبن أمـام معضلات العصـر تلك هي الطريق السالكـة إلى النهضـة والتقدم في نظـر الشاعـر المهمـوم بأمـر أمتـه والملتزم يقضاياها.

وعلى غرار هذا النهج ينحو في بقيـة القصائـد التي تنزف أسى وحسرة وتعزف على أوتار الأمل في غـد أفضـل.

وتـر الأقصـى:

التقسيم على أوتـار النزيـف لا يستقيم إن لم يلمس الشاعر العازف وتـر الأقصى.

فالأقصى يقيم في كل القصائد، وترنيمتـه تصاحب كل التقاسيـم.
الأقصى في وادي الشعـر، شعـر.
وفي العيـون الظامئـة، حبيبـة ملهمـة.
وفي الذات الشاعرة الأقصى هو الإرادة.
وفي الوطـن هو ورطاس وواد كيس وقريـة نمريس
ومن الأمة الأقصى هو القلب والروح
الأقصى وتر فريد
الأقصى قلب الشاعـر وروحـه
الأقصى مقلاع وحجر
الأقصى أطفـال
الأقصى زيتـون وزعتـر.

يقـول الشاعر محدثا عـن نفسـه في أقصى عزلتهـا.

"فإذا اشتد بـه الوجـد
أدخلتـه الانتفاضـة محرابها
فيستحيل كتلـة لاهبـة"
الأقصى وليـد ينـام:
"على الصدر الحنـون"
"الأقصى دمـوع الثكالـى...
وأنيـن الأسارى في غياهب السجـون"

ولعل الأقصى في النهايـة هو الملهمـة الحقيقيـة للشاعـر ولعنـوان الديـوان، وهو الكلمات المغناة على تقاسيـم الأوتار، لعل الأقصى هـو الجرح النازف مـن صدر الشاعـر الثائـر... جرح الأقصى قديـم... وموجع ومؤلم قـدم المأساة وقـدم ألمهـا وأوجاعهـا.

يقـول الشاعـر:

ستون عاما من النكبات موجعـة...
والأرض نرويها بدمـاء ثـوار
لا تحسبوا أنـا ننسى جرائمكـم...
في الصدر تنفجر غضبا كإعصار

(4)

الذاكـرة الشعريـة للديـوان

وبعد: فقـد رأينا آيـة التميز الأولى لديـوان الشاعـر أبو شيـار في العنـوان.

ثم رأينا آيـة التميز الثانيـة في الأوتار / القصائـد التي نزفت بجراحـه.

وبقيت آيـة ثالثـة مـن آيات تفرد وتميـز هذا الديـوان وتلك هي ذاكرتـه الشعريـة الشيقـة الرقراقـة والتي تمتح مـن معيـن الشعـر السلسبيل الذي ارتوت منـه سلالـة الشعراء الحقيقييـن.

الديـوان يشي بأن صاحبـه ليس شاعرا نرجسيـا أو شاعرا منكفئـا على نفسـه يمجد ذاتـه ويلعق جراحـه الخاصـة ويجتر همومـه الشخصيـة، بل هو شاعر ملتزم بقضايا وطنـه وأمتـه بقدر مـا هـو شـاعر منفتح على كل التجارب وجواب لكل الآفاق، إنـه شاعـر يتفاعل مع هموم الأمـة كما يتفاعل مع ذاكرتها الشعريـة، فيحاور أصواتا وطبقـات وأنمـاطا شعريـة منهـا القديـم والحديث ومنها المقيـد والمنثور، ولكنـه في النهايـة لا يكتب إلا تجربتـه الخاصـة والمتفردة.

والحقيقـة أن الذاكرة الشعريـة للديـوان عريضـة وفسيحـة يجوبها الملهمـون المنفيـون عـن الأنـام وعـن الأوطـان في القصائـد وفي القصائـد وحدهـا.

الديـوان يعبره الشعر الحقيقي لشعراء الحقيقـة، وتجوبه الخطى العابرة للزمـن ويجوبـه ضياء الحروف الخالدة.

فهاهنا لمحـة مـن حكمـة جـبران أو غضبة الشابي أو أنـة مطـران وها هناك آهـة مـن أنفاس المعتمـد أو زفـرة مـن كبريـاء المتنبي ومن تلك الكلمـة ها هناك يمر خيـط الضوء الشارد لمعنى جديد ورهيف كيأس درويش أو يمشي حادي الشعر وراء قوافي البدو التائهين في صحراء المعلقات.

المنفيـون في غربـة القصائـد لم تخنهـم قصائـد الديـوان وإنمـا أحسنـت وفادتهـم ولم تتنكـر لهم ذاكـرتـه بل حفظت أسماءهم وشمس كلمـاتهم كمـا حفظت لهم قمـرا من الود الذي يحفظـه كل شاعر أصيل لأهلـه وأحبابـه وشركائـه في الحلم والأمل.

فذاكرة الشعر مشتركـة كالحقيقـة. وهي أيضا سخيـة وفيـة معطاء، فقصائـد هنـا تعارض القصائـد وقصائـد هناك تعانق الأغاني وكلمـات تنثني في دلال أمام اللحن الشجي وأخرى تنحني للبهجـة في صوت المغني، مما يجعل من قراءة الديـوان متعـة حقيقيـة باعتباره ديوانا مضاعفـا ومتعدد الأصـوات، ديـوان حـوار وتفاعل مع الذاكـرة الشعريـة للأمـة. وقصائده المركبـة مـن أصوات متنوعـة ومتناغمـة ترغمـك على الانحنـاء تقديرا لشاعـر يستطيع أن يودع في شعره الأسرار المتفردة لحقـب شعريـة متباعدة وكأنهـا محايثـة لبعضهـا، وذلك أمـر لا يستطيعـه إلا شاعر أسلست القصيدة قيـادهـا لقلمـه، مثلمـا أسلست الأوتـار قيـادهـا لأناملـه./.

الهوامش:

ـ الكاتب:

عبد العزيز أبو شيار شاعر وناقد من مواليد مدينة أبركان ربيع 1956، تلقى دراسته الابتدائية بمدرسة ابن هانئ ثم ابن رشد الإعدادية ثم ثانوية أبي الخير...واصل دراسته العليا بجامعة علال بن عبد الله / فاس: شعبة الأدب العربي وفي الوقت ذاته ولج المركز التربوي الجهوي ليتخرج أستاذا للغة العربية نهاية السبعينيات...مارس التعليم ردحا من الزمن ثم غادر المغرب لتدريس اللغة العربية بالمملكة العربية السعودية: 1992/1994 ليعود ثانية لبلده حيث درس مادة التربية الإسلامية وهو مرشد تربوي للمادة. ميوله للكتابة تفتقت في مرحلة التعليم الإعدادي. وكانت كتابة الشعر لديه مرفوقة بولعه بالموسيقى إذ تعلم في بداية السبعينيات العزف على الآلات الوترية وخاصة العود، فأسس مع أستاذ الموسيقى أمجاهد شاطري مجموعة الأطلال الموسيقية /1972 ثم أسس مجموعة هواة السلام وكتب لها بعض الأزجال الغنائية أشهرها " فنهار جميل كنت مسافر"...عبد العزيز أبو شيار شاعر غزير الإنتاج ولكن جل قصائده القديمة ضاعت لعدم وجود مطبعة آنذاك بالمدينة...غير أن قراءاته الشعرية في المناسبات الثقافية المتعددة جعلته يجمع ما حضي بالبقاء من إبداعاته الكثيرة في ديوان وسمه ب"أوتار النزيف " /2010...ولديه ديوانان قيد الطبع: " النهر المسجور " مودع بوزارة الثقافة، و " فيض الأباريق ".

ـ الكتاب "أوتار النزيف" ـ ديوان شعري / الطبعة الأولى: 2010 ـ طبع شركة مطابع الأنوار المغاربية.

ـ تنويه:

ارتأيت بأن لا أشير إلى الشواهد النصية من القصائد في متن القراءة، وأن أضع لها بدل ذلك ترتيبا وتريا خاصا اقتضته ضرورة القراءة نفسها، فعلى الراغب في الاطلاع على النصوص العودة إليها في مضانها بالديوان.

وتر الشعر:

وادي الشعر: الصفحة ( 7 / 8 / 9 )

وتر الملهمة:

ملهمة الشعر: الصفحة ( 10 / 11 )

ظامئة العينين: الصفحة ( 12 / 13 / 14 )

همسات الجمال: الصفحة ( 15 / 16 )

وتر الذات الشاعرة:

أنت أنا: الصفحة ( 17 / 18 / 17 )

الغجري: الصفحة ( 20 / 21 / 22 )

لا يهمك من أكون: الصفحة ( 23 / 24 / 25 )

صرخة: الصفحة ( 26 / 27 / 28 / 29 )

الأمل: الصفحة ( 30 / 31 )

صرخة أخرى: الصفحة ( 32 / 33 / 34 )

لماذا ؟: الصفحة ( 35 / 36 / 37 )

إرادتي: الصفحة ( 38 / 39 )

وتر الموطن والوطن:

صرخة أخرى: الصفحة ( 32 /33 / 34 )

هموم جنوبية: الصفحة ( 64 / 65 )

مناجاة طائر: الصفحة ( 78 / 79 )

لست وحدك: الصفحة ( 85 / 86 )

لا تقل لي: الصفحة ( 94 / 95 )

ورطاس: الصفحة ( 96 / 97 )

وتر الأمة:

دمع الحروف: الصفحة ( 41 / 42 / 43 )

جنود الطوائف: الصفحة ( 91 /92 / 93 )

الموت ينجب الزنابق: الصفحة ( 49 / 50 / 51 )

تقاسيم على أوتار الحزن العربي: الصفحة ( 54 / 55 / 56 /57 )

عيد بأية حال: الصفحة ( 61 /62 / 63 )

يا أمة: الصفحة ( 67 /68 /69 / 70 )

هيهات أن ننسى: الصفحة ( 71 /72 /73 /74 )

أيسمع القوي ؟: الصفحة ( 75 /76 /77 )

عذرا رسول الله: الصفحة ( 81 /82 )

الآتي : الصفحة ( 83 / 84 )

وتر الأقصى:

الرضيع الذي كسر المرايا: الصفحة ( 52 / 53 )

قادمون:. . الصفحة ( 58 / 59 )

أحرف على جدار الشوق: الصفحة ( 87 /88 /89 / 90 )

النزف العازف: الصفحة ( 44 / 45)

معالم:
ـ وادي كيس: هو واد يفصل بين المغرب والجزائر يقع بشاطئ السعيدية شرقا.

ـ قرية النريس:هي لمريس تقع بين أحفير والسعيدية وتبعد عن بركان ب20 كلم تقريبا.

ـ الركادة هي للا خضرا التي خصها الشاعر والروائي عبد المالك المومني بكتابيه " الجناح الهيمان بنبع الركادة الوسنان " و " ريحة البلاد خضرا " وهي عين قريبة من بركان 10كلم على الطريق الرئيسية شرقا نحو وجدة وتحيط بها طبيعة خضراء جميلة.

ـ ورطاس: منطقة جبلية جميلة بعيونها وأشجارها تقع على سفوح جبال بني يزناسن ولكن مقالع الصخور شوهت منظرها وجمالها.

ـ السعيدية: من الشواطئ المشهورة وطنيا وعالميا وشاطئها الجميل برماله الناعمة وغاباته وخضرة نباتاته يمتد على مسا حة أكثر من 15كلم وتقع على بعد 25كلم من بركان شرقا باتجاه الجزائر.

جمال الدين حريفي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى