الثلاثاء ٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم محمد الهجابي

في بالكوني مخلوقٌ فضائيٌّ

الشارعُ هادئٌ. في الحقيقة، هذا ليسَ بشارعٍ. هو هادئٌ، لكنّه ليسَ بشارعٍ كما هو متواضع عليه. أقصدُ ليسَ في هيئة شارعٍ تماماً، لكنّه أشبه به. لا وجود لعمارات على جانبيه. كلّ ما هنالك هو دور للسكن بطابق واحدٍ، في الغالب. وثمّة بعض فيلات يتخلّلُ الدور. وعلى الأرجح، هي دور سكن ببالكونات مديدة، وبدرابزين يزنّر فراغاتها. تشغَل البالكونات نباتاتُ زينة وزهورٌ مثبتة في أصصٍ وأحواضٌ وبراميلٌ ومكرمياتٌ وفازاتٌ معلقة في الهواء أو في الحيطان. النباتاتُ تعترش الشرفات، وتتسلّقُ المدرجات والدعامات والتكاعيب، وتزحفُ على الحيطان؛ نباتاتُ اللبلاب والعليق وزهرةُ البطّة وحبلُ المساكين ومخلبُ القطّ وأبو خنجر وبسلةُ الزهور والشبرفايد والأرجيريا.. قد تكونُ جميع أسقف الدور مكسوة بقرميد أحمر اللون. أقدّرُ هذا دون أنْ أؤكدّه. ضوء النهار يبرقُ على القرميد والنباتات والحديد. والشارعُ يدوّم فيه سكونٌ وطئٌ، والوقتُ نهارٌ الساعةَ. وأنا في البالكون أطمحُ تارة جهة اليمين، وتارة جهة الشمال، وأسرحُ ببصري إلى أبعدِ نقطة منْ هذا الشارع المريح. لم أر سيارة تمرقُ. لم أر أيضاً عُبّاراً على الرصيف، أو كلباً يقلبُ مشمولات حاوية، أو قطاً يتسكّعُ ويموءُ. شارعٌ ينعمُ بسكينة عجيبة. هذا ما رأيتُه. وإذا لم يخن شعوري، فقد أقرّرُ بأنّ غلبة الأنسام التي راحت تلفح منشقي هي منْ أشجار ميموزا والجاكراندا الأرجوانية المدهشة التي تغمرُ رصيفيْ الشارع. لذا، بمقدوري أنْ أصرّحَ بأنّني أسكنُ حياً مميّزاً؛ حي ميموزا لمنْ لا يعرفه.

كنتُ بالبالكون أتفرّجُ. هذا ما ظننتُني عليه في البداية، فيما أنا أسرحُ ببصري بعيداً، يميناً وشمالاً، مبهوراً بانعكاس أشعة الشّمس على الأشياء والكائنات. وظهر لي كأنّما النهارُ أصفر، ثمّ بدا لي أخضر. وبعد حين، تخالطَ الأصفر بالأخضر. ولك، أنتَ، أن تتصوّر هذه اللوحة الجميلة: دورٌ مكلّلةٌ بالنباتات في شارع هانئٍ، والجميعُ مطروشٌ بأخضر ذهبي، أو بذهب فيروزي.

هكذا، شاهدتُني في نهار ذلك اليوم بالبالكون. قلتُ رأيتُني نهاراً، ولم أحدّد أيّ الأوقات يكون بالضبط. أخشى أنْ أقولَ إنّ الوقت ظهيرةٌ. ليس ثمّة منْ علامة تشي بذلك. ولربّما هو الصباح، وقد غمرته أشعة الشّمس الآخذة في الانتشار. وقد يكون صباحاً وهو في سبيله نحو منتصف النهار. وفي كل الأحوال، لا يمكن أنْ يكون مساءً. لم ترنّق الشمس بعد. ولم يكن ضحى أيضاً.

اعتقدتُ أنّني أزجي وقتاً ممتعاً بالبالكون، بينما الشارع خالٍ والأنسام الفوّاحة تتراقصُ في الفضاء منتشيةً بقدوم فصل الربيع. كلّ هذا الاخضرار، وهذا الذّهب، منْ هذا الفصل الرابع. ولا مراء، فصلٌ جميلٌ هو. والأجمل فيه أنْ تكون في بالكون سكنٍ مريحٍ في شارعٍ آمنٍ.

في الواقع، لم أكنْ أتفرّجُ. الذي أخرجَني منَ الصالون المفضي إلى البالكون، والذي أخرجَني منَ المكتب إلى الصالون، ليس هو التفرّج بالنظر على الشارع. ليس هذا هو الذي دفعني كي أغادرَ المكتب، ثمّ الصالون منْ بعده. هو صوتٌ بالأحرى. هو الصّوتُ منْ أخرجَني منْ درعي. بلْ هو الهدير هذا الذي استوفزني. لكأنّه صوتُ محرّك طاحونة، أو هليكوبتر. أتاني الصوتُ فيما أنا منشغلٌ بالكتابة. ماذا كنتُ أكتبُ؟ ليس بوسعي، الآن، أنْ أتذكّرَ ما كنتُ أحبّرُ به أوراقاً بيضاء. لكنّني أتذكرُ، بالمقابل، أنّه ما إنْ سمعتُ الصوت حتّى زايلتُ المكتب إلى الصالون، ثمّ فتحتُ الباب على البالكون. بسرعةٍ كبيرةٍ فعلتُ. عنفُ الهدير أربكَ قعدتي إلى الطاولة، وأخلّ بميزان تفكيري، فأرخيتُ قلم الحبر الأسود الجاف منْ يدي، وأرتبتُ واقفاً، ثمّ سرتُ إلى الخارج. يمّمتُ البالكون وبي رغبة فضول.

ما يقلّ عنْ خمس عشرة خطوة بيْن هذا البالكون والمكتب. وربّما أقل منْ ذلك. مسافة فاصلة قطعتها أنا في خطوات معدودة. لم أكنْ أمشي. ليس هذا بمشيٍ. لعلّي كنتُ أقفزُ. لم أكنْ أخطو. كنت أسفو. كنت أقفزُ، على الأرجح. منْ ارتجاج الزّجاج، ورجع صدى الهدير داخل الشّقة، قفزتُ إلى البالكون. ثمّ ألفيتُني أوزّع بصري في مختلِف الاتجاهات. ما هذا الصوت المرعد؟ صحتُ في خاطري، فيما أنا أستودفُ الخبرَ على امتداد الشارع. ثمّ جعلتُ أحدّق إلى البالكونات والشرفات في الجوار، وفي القبالة. أتلصّصُ البصرَ إلى مداخل الفيلات والأحواش والأغراس.

عجبٌ، ليس منْ الخلق غيري يطلُّ! هل أعيشُ لحظة سرنمة؟ أأكونُ أفتري على نفسي؟ الصّوتُ صوتٌ، ولا ريب في ذلك. والصّوتُ، إلى ذلك، ليس كباقي الأصوات. وما بلغَ صغوَ الأذن يصدي ما يزال. هل أكذبُ، وقد أفقدَني هولُه التركيزَ في ما كنت عليه بالمكتب؟ ليسَ صوتَ ماكينة غسيل، وهي تطحنُ وتفركُ، هذا الذي أوقفَني عنِ الكتابة. وليسَ مقلاة سقطت فوق بلاط المطبخ وقد تخلّصت منَ العلاقة البلاستيك. ولا هو بخبطة بابٍ إثر هبّة ريح شديدة. هذه أصواتٌ أفرزُها، وأفقهُ كنهَها. الذي صكّ طبلة أذني لا يشبهُ هذه الأصوات في شيءٍ. وهذا ليسَ بصوتٍ. بل هو هديرٌ. ليسَ بهديرٍ، بل هو زلزالٌ. هل زلزلت الأرض زلزالها والناس عنْه غافلون؟ أأكون منْ دون الخلق وحدي الصاحي؟ كيف أكونُ في الشارع وسواي في المطارح والمضاجع؟

عدتُ إلى المكتب، واستويتُ على المقعد. عادَ جسدي إلى الطاولة، بينما بقيَ بالي في البالكون. ومضطراً أبقيتُ البالَ مشطوناً بالشارع. ولكَمْ سعيتُ إلى استعادة نشاطي في الكتابة، وأنا وزان الورق، دونَ جدوى. ولكي تسترجع يدي حركتها الدؤوبة والمعهودة فوق الورقة، بينما قلم الحبر الجاف يحرثُ البياض مخلفاً حروفاً في تركيبات عجيبة، كان لا بدّ منْ أنْ ينسحبَ البال منَ البالكون إلى الداخل. قضيةٌ لا أضمنُها بعد الذي جرى وفي البال دويُّ صوتٍ لا يشبهُ باقي الأصوات؛ صوتٌ لا يطقّ الخيال ولا الأحلام.

سكونُ الشارع مثيرٌ. وأنا أقول إنّه، بالأولى، سكونٌ مستفزٌّ. وقطعاً، لنْ أستطيعَ استئناف الكتابة في شروطٍ هذا طابعها. وحتماً، ثمّة لغزٌ. لنْ أقتعدَ كرسي الطاولة قبل أنْ أجليَ خبرَه في تمامه. قصدتُ المطبخ، ولقّمتُ قهوةً سادةً. فكّرتُ في أنّ قهوة في فنجان خزف ناصع البياض ربّما أذهبت عنّي بعض توتّر، وروّقت منْ مزاجي. ولعلّي أقتنعُ في النهاية (في التحليل النهائي!) بأنّ ما تناهى إلى مسمعي إنْ هو إلاّ منْ صنعِ خيالٍ نافرٍ.

شربتُ قهوتي على عجلٍ، وفكّرتُ في أنْ أدفعَ بجسدي إلى البالكون حتّى يلاقي البالَ المشطونَ، فأعود بهما معاً إلى المكتب. عدتُ إلى الطاولة، وتسمّرتُ على الكرسي، ثمّ تناولتُ القلم، ورحتُ أردّدُ بصوت خفيض الجملة الأخيرة منَ النصّ: «.. يا لحظّك يا السي محمد بهذا الصّيد المرتقب الثّمين!». ولمّا لم أفلحْ في استحضار الخيط النّاظم، وقد غادرَني إلى الشارع، طفقتُ أراجعُ النصّ منْ بداياته: «قلتُ له: ما لا أفهمُه هو لمَ هي دائمةُ التبسّم. لكأنّها مبرمجةٌ على الابتسام. ثمّ لمَ تسارع إلى وضع أصابع الكفّ على فمها كلّما ضحكت؟ قالَ لي: كلّ النساء يفعلنَ، وليسَ امرأة الباتيسري لوحدها فقط. اُنظرْ إلى ثغرهنّ ملياً تراهُ بشوشاً. المرأةُ صنوُ التبسّم، يا صاحبي. ثمّ سألتُه: لكن ماذا دهى امرأتي لا تفعلُ؟

انزلقتُ منَ الشّقة إلى المصعد في احتراس كبير، وخرجتُ. لكنّ الحديث الذي دارَ بين الشخصين في صندوق بالي ظلّ يتلامعُ أمام عينيّ وأنا أخبّ الرصيف. في الشارع، صرتُ أحدّق في وجه النساء. ليسَ الوجه تحديداً، وإنّما الفم. ليسَ الفم بالذات، وإنّما الشّفتان والأسنان، وتلك الومضة التي تنجمُ عنْ هذا الجماع؛ ومضةٌ نطلقُ عليها، في الغالب الأعمّ، نعت: ابتسامة. يا لروعتها في مبْسم الإناث!

بارحتُ الشارع الفرعي هذا، ودلفتُ إلى شارع محمد الخامس. ثمّ انتبذتُ طاولةً في ركن بمقهى تاغزوت، وجهّزتُ عدّتي، وأخرجتُها خلسةً، ثمّ رميتُ بها إلى بحر الرصيف. وخاطبتُني في السرّ، كما لم أخاطبني منْ قبل: ما أسعدك يا السي محمد! أنت هذا النهار ستصطادُ ما لا يحصى منْ ابتسامات النساء العابرات، فيما هنّ يرفلنَ ويتغندرنَ ويفختنَ، مزهوات كالفراشات الحائمات. يا لحظّك يا السي محمد بهذا الصّيد المرتقب الثمين!».
والظاهرُ إذن، أنّ الخيطَ الناظم فلتَ منْ زمام تحكّمي فعلاً. وباتَ بيني وبين النّص مسافة راسخة نحتَها الصوت المهول. لكأنّ الصوت فلقَني إلى شطريْن اثنيْن متخاصميْن.

شطرٌ هو جسمٌ بلا عقلٍ. وشطرٌ هو عقلٌ بلا جسمٍ. ولا فائدة ترتجى منْ عنادٍ لا طائلَ منْه. اتكأتُ بظهري على مسند الكرسي، وإذا بغفوةٍ كابسةٍ شملتْني، فاستسلمتُ لها بالكامل. وفي صميم الغفوة، هزّني الدويّ الصاعق مرّةً أخرى، فاستقمتُ تلقائياً في وقفتي، وهرولتُ صوب البالكون. لم يكنْ نهاراً ما رأيتُ، ولم يكنْ ليلاً كذلك. هناك ظلمةٌ تتخلّلها ألوانٌ متماوجةٌ ترقّشُ معالمَ الأشياء، كما لو كانت أضواء نيون، وهي تجثو على المكان مصحوبةً بصوت مرعد آتٍ منَ الفوق. رفعتُ بصري، فإذا بي وجهاً لوجهٍ مع صحن مسطّح عملاقٍ يدورُ حول نفسه بتثاقلٍ. وفي التو، اتجه تفكيري نحو أفلامx- files مع Fox Mulder وDana Scully، وتلك الموسيقى المميّزة المصاحبة للجينريك. ثمّ فكّرتُ في فيلم "الصحون الطائرة تهجم" مع Hug Marlowe و Joan TaylorوMorris Ankrum و .Donald CurtiوJodie Foster مع "Contact"، وفيلم Independance Day (1996) مع Will Smith، وتذكّرت كتاب ك. غوستاف يونغ: « Un mythe moderne, des signes du ciel» الذي لا أزالُ أحتفظُ به في مكتبتي منذُ سبعينات القرن العشرين! توالت في ذهني هذه الأسماء في زمنٍ هو أقرب إلى خطفِ الرّمش، فيما أنا أحاولُ أنْ أفهمَ ما يجري.
أنا أعرفُ أنّك لنْ تصدّقَ. ستقولُ إنّما هو «ضربة حمار الليل!» هذا الذي لحقَ بي، علماً أنّ الوقت نهارٌ. والحقّ أقولُ، إنّني أتفهّمُ هذا الاحتراز منك. مكانَك سأُكوِّنُ الانطباع عيْنه، لا شكّ. شخصياً، أعترفُ أنّني لا أصدّقُ ما يحدثُ. أنْ أشاهدَ هذا في فيلم أمريكي، وبمتمّمات بصرية خارقة، فهو أمرٌ ممكنٌ. وسبق لي أنْ تفرّجتُ بالنظر على أفلام تعرضُ للتيمة ذاتها. وأنْ أقرأَ حول الموضوع، هو قضية واردة أيضاً. وفاتَ لي أنْ قرأتُ منْ حكايات الخيال العلمي الشيء الكثير، ابتداءً منْ قصص جول فيرن إلى غاية رواية جون ألفا كيل: "la Prophétie des ombres" التي تحوّلت، كما تعلم، إلى فيلم منْ بطولة Richard Gere وLaura Linney (2002). لكنْ أنْ أشاهدَ معاينةً صحناً طائراً تنبعثُ منْ أطرافه أضواءٌ شاقولية مشعّة، وأرى سلّماً، كأنّما هو درجٌ، يتدلّى منْ فتحةٍ أسفله. ثمّ أرى مخلوقاً غريباً ينزلُ منْه؛ مخلوقاً قصيراً ونحيلاً، وبلا ملامح دقيقة ومحدّدة، وبلا زغب أو لون أو كساء، في ما خلا هامة كبيرة بحجم يقطينة، وعينيْن، كلّ واحدة بسعةِ طبق خزف صيني كبير بيضوي الشكل. ثمّ يستقرّ الكائن قدامي تماماً بالبالكون، فهذا منَ المسائل التي لا تحصلُ سوى في الخيال والحلم والأدب.
رأيتُ مخلوقاً فضائياً. أقسمُ إنّني رأيتُه في بالكون شقّتي في ذلك النهار. ومنَ الصِّدف الفارقة (!؟) أنّني رأيته وحدي منْ دون سائر الناس. أين باقي السكان، ولمَ لمْ يهرعوا إلى البالكونات والشارع؟ هلْ تمّ اختطافُهم، وحانَ دوري؟ هلْ أنا آخرُ المستهدفين أمْ أوّلهم؟ هلْ هم منْ مريكان السماء الأخرى، هناك في الأعلى، الأعلى، وفي البعيد، البعيد، أمْ منْ روسييها أمْ منْ صينييها..؟ والحاصلُ، أنّ مخلوقاً فضائيّاً زارني. صدّق أو لا تصدّق، فأنت حرٌّ في ما تخمّنُ. وأتفهّمُ مبرراتك مسبقاً، وأياً تكن، بكلّ روح رياضية (روح رياضية؟). إنّ الموضوع مثيرٌ حقاً. كيف لا؟ ومنْ فرط هذه المفاجأة العجيبة، لم أتمالك نفسي، فانكفأتُ إلى الداخل لا ألوي على شيءٍ. ثمّ سقطتُ في ظلمة غميسة، لم أبرحْها سوى مبلل الجسد، ومزحر، مثلما لو كنتُ أحلمُ.
أبريل 2009


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى