الجمعة ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم محمد خليل

شمال إلى حجر الانتظار

مع الشاعر رشدي الماضي في:

شمال إلى حجر الانتظار(1)

* أما قبل،

• في العنوان إشارة موحية إلى الاتجاه شمالاً، إلى حجر الانتظار، يريد الشاعر أن يأخذنا إلى ما يمكن أن يرمز إلى الثقافة والوعي والأفق الجديد والرؤيا. طبعًا مع المحافظة على الوجه المشرق لحضارتنا. يُذكر في السياق ذاته، أن الانتظار من الموتيفات البارزة لدى كثير من الشعراء، لما له من ذاكرة وحياة، وقلما نجد شاعرًا لم يأت، في قصائده، على ذكر الانتظار!
فليس من السهل، في أيامنا، أن يُقبل كل شعر، وقد يكون لذلك غير مسوِّغ، نذكر منها: ظاهرة السيولة في الإصدارات الشعرية، التي تعج بها ساحتنا الأدبية المحلية من حين لآخر. كذلك، افتقار تلك الإصدارات إلى عنصر الإبداع، محور الأثر الأدبي وكل فن آخر. ثمة سبب إضافي، فقد تكون تلك الأشعار تحديدًا، بعيدة عن ذائقة القارئ ومجال اهتمامه، لذا من حق المتلقي أن يبحث عن شعر أو فن فيه ما فيه من متعة حقيقية آسرة، تجذبه رغمًا عنه. يقول هوراس "يهدف الشعر إما إلى الفائدة أو المتعة أو إلى جمع المتعة والفائدة معًا"(2).

يثري الشاعر، كما يُفترض، شعبه الذي أنجبه، ومجتمعه الذي أنتجه، من خلال تطعيم أشعاره، بأفكار ورؤى جديدة، تواكب العصر ومتغيراته، كما تعكس هموم الإنسان وهواجسه، كفرد وكمجتمع على حد سواء. وإن كان يحق للشاعر أن يرى أو يعبِّر أو يصور، من خلال فنه، ما يشاء، إذ يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، علمًا بأن الشعر الحقيقي، ليس مجرد رغبة جامحة، أو بوح عابر! كذلك هو الشعر الجديد، إنه حلم وارتياد وكشف لخبايا نفس الإنسان ولزوايا حياته ووجوده وواقعه. فيها تتقاطع الاتجاهات كافة: أفقيًا ورأسيًا وميلاً، بعيدًا عن التسطيح والأفكار المكررة، بغية تغيير الواقع وتطويره نحو الأفضل والأجمل. من هنا قد "تصبح الأسطورة هي البناء التعبيري الأمثل لدى الشاعر الحديث، لأنها تتضمن في كيانها العضوي ذلك المناخ القديم بما يجسده من نسيج قريب من مادة الحلم"(3)! وهو، أي الشعر الجديد رؤيا، يقول أدونيس "لعل خير ما نعرّف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها، قفزة خارج المفهومات السائدة. هي إذًا، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد، أول ما يبدو، تمردًا على الأشكال والطرق الشعرية القديمة"(4)!

يرفض الشعر الجديد محاكاة النماذج الشعرية النمطية السائدة، البعيدة عن روح الإبداع، ويؤمن في الوقت نفسه، بأن الإبداع يقع خارج دائرة المتداول والمألوف. الإبداع الحقيقي ليس مجرد تصوير أو محاكاة للواقع الراهن، إنما كشف لذلك الواقع، بكل تفاصيله وجزئياته، من خلال تجربة الذات الفردية، والذات الجمعية في تفاعلها مع تجربة البشرية جمعاء. فرسالة الشعر تغيرت عن الماضي لتصبح هادفة إلى ترسيخ القيم والمطالب القومية والإنسانية الخالدة في كل مكان، مثال ذلك: حقوق الإنسان في العدل والحرية والسلام والحب والكرامة الخ..

لقد أصبح تجاوب الشعر المعاصر، مع متغيرات العصر ومتطلباته، نتيجة طبيعية وحتمية للتطورات التي واكبت واقع الناس في مختلف مجالات الحياة: الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. لا يمكن أن يبقى الشعر الجديد، وسائر الأجناس الأدبية والفنون الأخرى بمعزل عن تلك التطورات، التي ترفض كل نمطية جاهزة أو قولبة تقليدية، إنها تتطلع إلى الانعتاق من إسار تلك القيود التي تثقل كاهل الفن والشعر تحديدًا، ولا تتناسب مع روح العصر، كالتصنيع والزخرفة الشكلية والقافية الموحدة، وما إلى ذلك. وشاعرنا، كما يبدو، يأبى أن يعيش في الزمن الحاضر بينما يكتب بلغة الزمن الماضي، بأسلوب شعري قديم، شكلاً ومضمونًا. ولو فعل ذلك لم يكن واقعيًا ولا نقول عصريًا أو حداثيًا. ولا يُستبعد بأن تكون تجربة الشاعر مع الأسطورة والرمز، محاولة من جانبه لإعادة بعض الألق المفقود للشعر، وبعثه من جديد. ذلك ما يتلمسه القارئ من خلال الديوان الجديد ((شمال إلى حجر الانتظار))! وفي مثل ذلك يكتب أدونيس "إن اللغة الشعرية القديمة شأن علاقات الإنتاج القديمة عامل اغتراب وتغريب. إن الشاعر الذي يكتب اليوم بالطرق الشعرية القديمة لا يكون مغتربًا عن ذاته وعصره وحسب، وإنما يكون أيضًا مشاركًا في تغريب الإنسان"(5)!

للشاعر المبدع كما للفنان المبدع، أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بروح من التجدد والحداثة، فهو يمتح تجربته الشعرية من طبيعة الأدب في مجتمعه ومن واقعه الضيق في بلاده، تمامًا مثلما يحق له أن يعيش تجربة المعاصرة في واقعه العالمي الواسع بأسره، تلك التجربة التي تطغى عليها قيم كالرمز والأسطورة، ملك البشرية جمعاء. إن "الأديب أي أديب يكون أصيلاً بمقدار ما يتمثل بيئته، ويكون معاصرًا بمقدار ما يعبّر عن روح عصره"(6). فالأديب شاعرًا كان أم ناثرًا، من حقه بل من واجبه أن يكون عابرًا للمكان في واقعه أو مجتمعه، كذلك للزمان أي عصره، وأن يتمثّل القيم التي تسود في أي مجتمع وفي أي عصر كان. من المحبذ أن يعبّر عن الهموم الإنسانية الكبيرة الخالدة، لا عن الهموم الفردية الصغيرة فحسب. لم يعد يعرف المبدع حدودًا أو قيودًا، فعالم اليوم أصبح قرية كونية صغيرة. يقول جبران خليل جبران على لسان الشاعر "فالأرض كلها وطني والعائلة البشرية عشيرتي"(7)! من حق الشاعر إذًا أن يجد له متكأً في تجربة الجنس البشري قاطبة، عبر العصور السابقة الموغلة في القدم. يقول رشدي الماضي في بعض مقارباته لواقع العراق اليوم:

زرياب!!

لم تعد سعف النخيل نوافذ

تذرذر النور على ((دار)) في العراق

غاب عنها الأصفياء-دارًا عامرة!!(ص32).

لكنه مؤمن بحتمية عودة الحياة إلى العراق وبعثه من جديد، فيقول:

سيدور يا زرياب الزمان

وينقلب وجه الحكاية!!

حين تنهض في دجلة ((عشبة))

تفك أسر الفرات
وتعيد ((جلجامش)) وترًا وأغنية!!(ص32)!

ويحسب المرء أنه لا بد للشعر المعاصر، لأجل خلاصه مما أصابه من ضمور ووهن، ومما تردى فيه من تراجع وسطحية ونمطية، من الاحتماء بالأسطورة والرمز. يكتب أدونيس بتذمر وشكوى قائلاً "ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة العربية، وإنما الشعر نفسه هو كذلك غير موجود"(8)! وأما عن دور الأسطورة، فيقول جبرا إبراهيم جبرا "لا أستطيع أن أتصور حياة أي إنسان بدون فعل الأسطورة. فالأسطورة قوة فاعلة في كل ما يفكر به الإنسان، أو يسعى إليه أو يحققه، وإن لم يع هو ذلك وعيًا واضحًا"(9)! وقد أكد الناقد الكندي نورثروب فراي على "أهمية ارتباط الأدب الحتمي بالأسطورة، حيث يصبح الأدب هو الأسطورة"(10)! التي تعد من أهم مظاهر الثقافة الإنسانية. تأسيسًا على ذلك، لا تصبح الأسطورة والرمز من سمات الأدب الحديث والمعاصر بمختلف أجناسه فحسب، وإنما تصبح ضرورة من ضرورات الشعر وكل فن آخر، مثلما أن الشعر ضرورة من ضرورات الحياة!

إن اللجوء إلى الأسطورة كقيمة فنية، في الشعر العربي المعاصر(11) قد يكون مرده إلى ما تشتمل عليه من طاقة إبداعية فنية، تعبيرية وجمالية وإنسانية عميقة، أو يعني من بين ما يعنيه كقيمة عليا، يمكن أن تعيد إلى الإنسان بعض ما يفتقده من الانسجام والتوازن والهدوء في واقعه المعاصر، الذي يبدو منغمسًا بالمادية، وأبعد ما يكون عن الروحانية. كذلك فيه، رفض للواقع الراهن، حين يتمرد أو يثور على الظلام وأعداء الحياة، ويبشر بفجر جديد قادم، ومنتصر لا محالة. إلى ذلك فإنه حين يقوم باستحضار الأسطورة أو الرمز، إنما يتمثّل نوعًا من البطولة الغائبة أو المفتقدة في الواقع، لتقف في وجه الطغاة والظلمة. الأمر الذي قد يدفع القارئ إلى تقمص دور هذا البطل أو ذاك، والنظر إليه كمخلص أو كشعلة تنير له الطريق، أو مثال يحتذى، بالكشف عن تناقضات الحياة وسوداوية الواقع، التي لا تطاق ولا تحتمل. فالفن قادر، بطريقته الخاصة، على المواجهة والتحدي أو التعبير عن واقع الحال في أقل تقدير. فكل أسطورة، كما يفترض، تروي تاريخًا أو تعرض صورة فنية، أو لوحة تعبيرية. تلك بعض الإشكاليات التي يتلمس الشاعر رشدي الماضي مقاربتها، من خلال ديوانه الجديد الموسوم بـ "شمال إلى حجر الانتظار"! وأحسب أنه لا أراني، بهذه العجالة، يمكنني أن أفيَ الديوان حقه، لما يشتمل عليه من مخزون فكري وثقافي وحضاري هائل. وفي الحق، بهذا الديوان يكون رشدي الماضي قد حقق تجربة نوعية متفردة، تجربة جديرة بأن تكون محطة أخرى، لكنها متقدمة في مسيرة عطائه الإبداعي. ما يعني مدماكًا جديدًا ينضاف إلى بنائه المعماري القائم.

** الحَجْر: بالفتح والكسر: الحضن أو الناحية. وهما من دلالات الحجر المتعددة. وإن كانت الحَجَر: فهي الصخرة(12). والتعويل من جهتي على الدلالة الثانية. يقول المثل العربي: قاعد لك على حجر! وفي رواية أخرى على بلاطة! أي أنا بانتظارك هاهنا، ولن أبرح مكاني!
العنوان، كما يبدو، معبِّر وفيه متعة حقيقية، جمع الشاعر فيه روح المعاصرة والأصالة معًا في تجاور جميل. فمن الشمال أقبلت تلك الموجة، أي من أوروبا، بما تحمله في أعطافها من رياح التغيير والتنوير، وهي ما اصطلح على تسميتها بالحداثة، فإن أشرتَ إلى اتجاه الشمال عنيت الثقافة. وكذا البوصلة فإنها تشير دائمًا إلى جهة الشمال، والخريطة أيضًا لا تقرأ إلا باتجاه الشمال(13)! ففي العنوان إشارة موحية إلى الاتجاه شمالاً، إلى حجر الانتظار، يريد الشاعر أن يأخذنا إلى ما يمكن أن يرمز إلى الثقافة والوعي والأفق الجديد والرؤيا! طبعًا مع المحافظة على الوجه المشرق لحضارتنا. يُذكر في السياق ذاته، أن الانتظار من الموتيفات البارزة لدى كثير من الشعراء، لما له من ذاكرة وحياة، وقلما نجد شاعرًا لم يأت، في قصائده، على ذكر الانتظار. نذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: نزار قباني، ومحمود درويش، وإليوت.
يشي الديوان الجديد، بتجربة شعرية قد تبدو، للوهلة الأولى، رائدة، وهي أكثر تقدمًا شكلاً ومضمونًا، من سابقتها ((مفاتيح ومنازل الكلمات))(14). وللتذكير فقط، فقد تسنى لكاتب هذه السطور، من خلال متابعة نقدية سابقة، أن يكتب الآتي "مهما يكن فإن توظيف الأسطورة، لدى الماضي، بهذا الزخم، يشكل انعطافًا، أو بداية لمرحلة جديدة، من مراحل تطور عطائه الشعري والإبداعي. وليس يساورني أدنى شك، أن ظاهرة توظيف الأسطورة في شعر الماضي، ما تزال تستحق عناية الدارسين، بالكشف والتحليل، وذلك من خلال تتبع أبعادها وملامحها ومراحل تطورها، بشكل أرحب وأعمق"(15). وما كذّب الماضي خبرا!

من أهم ما يتميز به الديوان الجديد: تماسك وحداته الشعرية فنيًا، وحداثة النص، ومادته اللغة البكر، بأسلوب تجديدي، شكلاً ومضمونًا، كقوله: لا تذرذر سوى قلق المجاعة؟(ص5). وقوله: دخلت حجرة أحوالي و اتركي نيسانئذ يتكرر(ص6)! و تعهدتك في أوراق انتظاري، كرمة(ص9)! و ليِّني قضبان نافذة الفراق(ص12)! و سأصعدني هبوطًا إلى ((غارهما))(ص13)! و احترق في مواقد الثلج حطبي (ص42)! و يرى صناديق الصمت قد أينعت؟!(ص43)! ومن جيد قوله في حبه لحيفا: أنا وأنت؟! تسعى بيننا الشهوات ((الخبيثة))(ص74)!

كذلك، ما يحتوي عليه من خطاب ثقافي لا متناه، وتوظيف مكثف ومولع برموز وأسطورة مستوحاة من التراث الإنساني الخالد، وإسقاطها على واقعه/واقعنا الأقرب فالقريب فالبعيد فالأبعد، أي محليًا وعربيًا وعالميًا، كأن يقول:

لا تخافي مدينتي

إذا تمطى الرصيف على صيفه

عناتي هناك-ستائر لا تنام

ولا تخشى أصابعها البحر

حصارًا

عوليسها!! كنعاني يتقدم(ص8)!

في أجواء أسطورية كنعانية واضحة للعيان، يستحضر الشاعر الإلهة عنات، وعوليس الذي يواجه عذابًا هائلاً، يراه قادمًا قريبًا لا بعيدًا، إنه يتقدم! حال انتظار الوطن لعودة البطل. كذلك نجد لديه إحالات حداثية متعددة، نذكر منها:

عانقته

قارورة نثورته(16)!

وصالا وصالا(ص9)! كذلك قوله:

لوركا(17)

عاد قيثارًا تعافى

أغنية وأوتارا!!!(ص11).

وكذلك قوله:

أتيت لألقي على الأرض سلامًا؟!

تهدَّم الزمن

وتوأمه ((مسيح)) يصلب من جديد

سأترك رايتي ((جنديًا يستريح))!!

وأهب يديَّ ما تهز به ((الأرض الخراب(18)))!(ص51).

ومن قوله في ((عودة المجنون)):

أنا ابنك الذي حاكوه في نيسانك القاسي(19)، خروجًا

خروجًا، وقصقصوه شتاتًا...(ص97)!

* ترسخ الاتجاه الأسطوري الرمزي لدى شاعرنا، مع شغف واضح بالغموض، حتى أصبح ظاهرة بارزة ومتميزة في مشهد حركتنا الأدبية المحلية، قل نظيرها، وإن كان الغموض مطلوبًا لكن ليس لذاته، إنما كوسيلة فنية مقبولة في حدود الاعتدال، حتى لا يملها القارئ، وينفر منها!
ولا يخفى على القارئ مدى احتفاء الشاعر وولعه بنماذج أسطورية وأخرى رمزية متعددة مما يحفل بها الديوان، والأمثلة على ذلك كثيرة من: اجتماعية وحضارية وفكرية وسياسية وتاريخية ودينية، قرآنية وإنجيلية وتوراتية، على نحو لافت، وما يشتمل عليه من ثراء بالمفردات والتعبير الحداثي المبتكر، كأنه من رأس النبع ينهل الماء الزلال، لغة وأفكارًا وأغراضًا، بعيدًا عن شرنقة الأنماط المعهودة أو المتعارف عليها. كذلك، يُرى شاعرنا وهو يراقب مجريات الأحداث عن كثب، في واقع سوداوي من حوله، فهو يرى ويسمع، يأمل ويألم ويتعذب، من صدمة الخيبة في واقعنا المعاصر، يقول:

بلغي ((أسماء)):

كثُر الوشاة على الدروب(ص14)!

ولا عجب أن يكون لدى الشاعر، غايات أو وجهات نظر أخرى في الحياة، يتوسلها من خلال فنه، الذي يرسله إلينا نشاطًا فعالاً، إضافة إلى قيم الجمال والفن واللغة، مثال ذلك: حرصه على حث القارئ، بشكل غير مباشر، على تقبل وجهة نظره تلك، أو التأثير على اتجاهات القارئ وإقناعه بإمكانية تغيير موقفه. وفي الوقت نفسه، يرى الشاعر، بفنه، عاملاً مؤثرًا لأجل تغيير الواقع، لا مجرد أداة تعبير فحسب. الأمر الذي يعني دعوتنا لأن نكون فاعلين ومتفاعلين، وشركاء حقيقيين، في إنتاج المعرفة، وفي تفسير الحياة، ومواجهة الواقع الراهن وتغييره، محليًا وعربيًا وحتى عالميًا. فالرؤيا ملهمة للفعل، والفعل يكتسب أهميته من خلال خيال القارئ مستجيبًا لخيال الشاعر. إنه البعث من جديد الذي يطمح إليه الشاعر في المحصلة النهائية، فنحن محكومون بالأمل، كما يكتب سعد الله ونوس(20)! وبوابة الشعر هي: الرؤيا والأمل والحلم!

يبدو أن الشاعر قد قرأ تلك النماذج العليا وتأثر بها، شعرًا وذوقًا، وهي مما اشتهر في التراث البشري، فصارت من مكونات أشعاره. وهو ما يؤكد على قراءة واسعة وسعة ثقافة واطلاع.
** يقول جبران خليل جبران "إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر، وعلى شفتيه وبين أصابعه، فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر... الشاعر أبو اللغة وأمها، تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض ... أقول ثانية إن حياة اللغة وتوحيدها وتعميمها وكل ما له علاقة بها، قد كان وسيكون رهن خيال الشاعر. فهل عندنا شعراء؟"(21)! وكان الفراهيدي يقول: الشعراء أمراء الكلام!

يتجدد شاعرنا ويجدد، كما يبدو، بعيدًا عن النماذج السائدة والمكررة لدى ذوق كثر من الشعراء والقراء على السواء، مما دفعه أن يقدم لقرائه نماذج ذوقية مختلفة، كشفًا للذات الشاعرة، وأملاً بتطوير قدرات القارئ وذوقه، في الكشف والمعرفة والتنوير. فهو لا يستجيب، فيما يختاره من شعر، لدوافع فنية فحسب، إنما لأفكاره ولذاته وللواقع القريب والبعيد على السواء، بما يتناسب والمتغيرات من حوله.

ويحسب القارئ ضرورة أن يأتي توظيف الأسطورة والرمز، منسجمًا مع روح القصيدة، بحيث يكون جزءًا لا يتجزأ من بنائها العام، شكلاً ومضمونًا. وعلى نحو يؤدي دورًا فاعلاً ناشطًا لا خاملاً، ومتحركًا لا ساكنًا، في النص الشعري. ومحملاً، في الوقت نفسه، بغذاء خصب للخيال وللعقل معًا، حتى يحظى بالقبول والرضا من جانب المتلقي، ويقربه إلى الشعر بدل أن ينفره. وإلا كان الأمر لا يعدو كونه مجرد وسيلة فنية يحلو التزين بها!

لا نجانب الصواب إذا قلنا: لقد ترسخ ذلك الاتجاه الأسطوري الرمزي لدى شاعرنا، مع شغف واضح بالغموض، حتى أصبح ظاهرة بارزة ومتميزة في مشهد حركتنا الأدبية المحلية، قل نظيرها على ذلك النحو الموسّع(22). وإن كان الغموض مطلوبًا لكن ليس لذاته، إنما كوسيلة فنية مقبولة في حدود الاعتدال، حتى لا يملها القارئ، وينفر منها "وأفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه"(23). من هنا، قد يصعب على القارئ الافتراضي، وحتى المختص أحيانًا، أن يدرك شعر رشدي الماضي ويفهمه كما يجب، دون الرجوع إلى تلك الأساطير والرموز في مظانها الأصلية، بغية فهمها فهمًا متكاملاً، والوقوف على حمولاتها الدلالية، وشخصياتها، وفك رموزها وذلك "من خلال الرجوع إلى الأسطورة ككل متكامل ، حتى نكتشف المعنى الأساسي للأسطورة"(24)!

فمثلما تحتاج الكتابة الإبداعية، سواء أكانت شعرًا أم نثرًا، إلى ذات مبدعة، كذلك هي القراءة المبدعة، فإنها تحتاج إلى ذات مبدعة، حتى تتمكن من إضاءة جوانب النص وكشف مكنوناته، ما ظهر منها وما بطن. وبذلك فقط يمكن للمشاركة الفعلية أن تتحقق، من قبل المتلقي، في إنتاج المعرفة.

(طرعان)


* الهوامش:-

1. رشدي الماضي: شمال إلى حجر الانتظار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر و مكتبة كل شيء، بيروت و حيفا، 2012.

2. محمود الربيعي: في نقد الشعر، ص45، دار المعارف، القاهرة، 1968.

3. غالي شكري: شعرنا الحديث إلى أين؟ ط3، ص13، دار الشروق، القاهرة، بيروت، 1991.
4. أدونيس: زمن الشعر، المقدمة ص9، دار العودة، بيروت، 1996.

5. أدونيس: مجلة المعرفة، ص97، دمشق، مارس 1973.

6. جلال العشري: ثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة، ص257، دار المعرفة، بيروت، د. ت.

7. جبران خليل جبران: صوت الشاعر ، المجموعة الكاملة العربية، ص408، دار الجيل، بيروت، 1994.

8. أدونيس: البيانات، رابطة الكتّاب والأدباء بالبحرين، ص54-55، البحرين، 1992.

9. جبرا إبراهيم جبرا: المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر، ص47، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995.

10. ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، ص33، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1994.

11. يرى بعضهم أن تعويل الشعر العربي المعاصر على الأسطورة إنما يعني التبعية لتجارب الشعر في الغرب والتنكر لتقاليد الإبداع الشعري العربي، وبالتالي الإغراق في الغرابة والغموض والافتعال. والكلام مجاف للحقيقة والواقع! انظر، حسام الخطيب: المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر، ص44، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995.

12. ابن منظور: لسان العرب ج4، مادة حجر، دار الفكر، بيروت، 1990.

13. لقد تنبه على تلك الثورة والشعور بضرورة التجديد منذ مرحلة مبكرة، حتى قبل الحرب العالمية الثانية، شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي نادى بالاتجاه شمالاً فقال:

آن يا شعر أن نفك قيودا قيدتنا بها دعاة المحال
فارفعوا هذه الكمائم عنا ودعونا نشم ريح الشمال

كذلك فعل الطيب صالح من خلال رائعته رواية موسم الهجرة إلى الشمال!

14. رشدي الماضي: مفاتيح ومنازل الكلمات ديوان شعر، مكتبة كل شيء، حيفا، 2005.

15. محمد خليل: مفاتيح ومنازل الكلمات، بين أسطرة الواقع وحلم الخيال يتوسل الشاعر مستقبلاً أفضل، ملحق صحيفة الاتحاد، حيفا، 29/12/2006.

16. ورد المصطلح نثورة، في قصيدة الأرض اليباب لإليوت، مترجمًا إلى العربية نثارة وأحياناً نشارة!

17. فيديريكو غارسيا لوركا شاعر إسباني، وكاتب مسرحي، رسام وعازف بيانو، ومؤلف موسيقي حداثي بامتياز. ولد في فوينتي فاكيروس بغرناطة في 5 يونيو 1898. اغُتيل من قبل الثوار الوطنيين في 19 أغسطس 1936 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية. يعده البعض أحد أهم أدباء القرن العشرين. وهو واحد من أبرز كتاب المسرح الإسباني، من أشهر أعماله المسرحية: عرس الدم، وبيت برناردا ألبا.

18. أو الأرض اليباب، بالإنكليزية: The Waste Land . قصيدة للشاعر الإنكليزي توماس ستيرنس إليوت، نُشرت عام 1922. تُعّد بإجماع النُقّاد أروعَ أعماله الشعرية على الإطلاق. والقصيدة تُعبر عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى وتصور عالماً مثقّلاً بالمخاوف والذّعر والشهوات العقيمة، وقد أهداها صاحبها إلى زميله الشاعر عزرا پاوند. وهي قصيدة حداثية واسعة التأثير، تقع في أربعمائة وأربعة وثلاثين سطراً. وقد أفاد منها الشعراء العرب فائدة قيّمة!

19. في إشارة إلى ما ورد في الأرض اليباب لإليوت: ابريل يا أقسى الشهور! وهي من العبارات الشهيرة فيها. انظر كذلك: ص7،ص42 حيث يقول: أنا عدت يوم انتصبت يا نيساني القاسي!

20. كاتب مسرحي سوري 1941-1997، تتناول مسرحياته نقدًا سياسيًا اجتماعيًا للواقع العربي بعد صدمة المثقفين إثر هزيمة 1967.

21. جبران خليل جبران: المجموعة الكاملة العربية، ص631-633.

22. يشار في ذلك السياق إلى أن الشاعر ميشيل حداد، يعد من رواد الشعر الحداثي في أدبنا المحلي، إذ يحتفي، بشكل لافت، لجهة الأفكار والرؤى والغموض الذي يصل حد الغرابة والرمز، إلا أن شاعرنا، كما يبدو، أكثر ولعًا بالأسطورة والرمز، مما اقتضى التنويه!
23. ابن الأثير: المثل السائر، ج2، ص414، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1999.

24. كلود ليفي شتراوس: الأسطورة والمعنى، ص67-68، ترجمة وتقديم شاكر عبد الحميد، بغداد، 1986.


مشاركة منتدى

  • الدكتور محمد خليل / تحياتي / وكما تقول تمامًا:

    "فمثلما تحتاج الكتابة الإبداعية، سواء أكانت شعرًا أم نثرًا، إلى ذات مبدعة"،
    كذلك يحتاج النقد، إلى روحكَ المبدعة وكلماتكَ الصادقة، والدراسة الجادة الواضحة.
    كما تفعل دائمًا.
    أنني مع كل قراءة جديدة لكم أشعر بعمق تجربتكم النقدية ..
    تحية مرة أخرى.

    وللصديق الشاعر رشدي الماضي: الإبداع دائمًا طريقكَ وهو طريق الخلاص.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى