السبت ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٦
قصة قصيرة من العراق
بقلم هدى الدهان

نـبـات الظــل

الشمس تغيب ..تنحسر عن الغرفة ..وسيخرجان بعد قليل

إنـ..إنتبه ....إيَّاك ..لا...ك...الكرة.....
صرخاتٌ حماسيًّةٌ تتعالى... صَيْحاتٌ بالتشجيع وأخرى بالتهديد تعم الساحة حيث تنظر هي من الشرفة على باحة يلعب الأطفال بها. تركزت عيناها على وجه حارس المرمى لهذه الكرة المسكينة، تتقلص عضلات وجهه كلما اقتربت من شبكته وكأن الدنيا ـ دنياه هوـ ستنتهي إذا اجتازتها وحين ينجح في منعها من الدخول في مرماه تتعالى هتافات التمجيد والثناء وتنفرج تلك الأسارير التي كانت قبل ثوان منقبضة كرتاج باب سجن .

تبتسم الشفاه .. تضيء العينان بفرحة النصر ..الكرة التي طالما صار سدّاً منيعا لها أمام الشبكة يأخذها الآن إلى صدره بضمة رجل ...بقوة.. ليؤكد لنفسه قبل الآخرين إنه الحارس الأمين لمرماهم وليكافئها على نصره هو باحتضانة حب ...إنه يحبها ويخافها في آن واحد .

كم أحبت هذه الكرة وكم وجدت نفسها فيها بتناقضها الأبيض والأسود بعدم وجود حدود لها، في قناعتها إن كل شيء دائري معطاء..الأرض والشمس و البذرة ..الفرق بينها وبين هذه الكرة أنها لم تتقاذفها الأيدي والأرجل ..أنها التمست الطريق إلى يد الرجل الذي تحب وصدره وكانت كرة النصر له.

تسللت إليه ...إلى حياته ..أخبرها أن لديه مرمى يحبه ..شبكة نسجها بين أعمدة حديدية كانت أساساً قويا له ولزوجته وأولاده ..وفكرت ..حيث إن القدر رماها في طريقه ...وما دامت قد تسلّلت إليه فسيكون هذا الرجل لها على أن لا تُفَكِّرَ في الدخول في مرماه لأنها إن فكرت فقط.. فحتما ستجده يفتح ذراعيه لا ليحتضنها وإنما ليصدها بقوة.
رضيت بما أراد لأنها أحبَّتْه.. بل ربما أحبت ولاءه لبيته وأحَبَّتْ أكثر ما أحَبَّتْ صدقه معها وحرصت على أن لا ينكشف سِرَّها معه وكم تمنت لو أن هذا الخوف كان عليها وليس منها.

هتاف آخر بالنصر يأخذها من أفكارها ويعيدها إلى مُتَّكَئِهَا على الشرفة... تُحِسُّ بألم خفيف.. تنتبه إلى أنها ألقت بثقلها على الحافة الحديدية للشرفة وهي تتفرج على الأطفال الذين يلعبون كرتها وآثار نصف سوار ترتسم أسفل معصمها أو الأصح نصف قيد ؟!

رأت نظرة نصر أخرى لحارس المرمى وفرحة أخرى وضَمَّةً أخرى لهذه الكرة ...وتذكرت حبيبها الذي طالما ضمها إلى صدره مقبِّلاً شعْرَهَا ووجنتَيْها بعدما يقسو عليها بكلمات يرى وقعها عليها دموعاً يمسحها عن عينيها، يُذكّرها أنها لم تَخْترْ أحد اللاّعبين الكُثْر.. وأنها اختارت حارس مرمى.

عادت إلى الداخل... أحَبَّتْ هذه الغرفة الضيقة التي اعتادا اللقاء بها.. صغيرة وبسيطة تحتويهما معا ..فيها لا يغيب عن ناظريها أبداً ولا تبتعد عن يَدَيْه حتى لو أراد .

أبقت أثاث الغرفة كما هو ولم تُضِفْ له سوى شَيْئَيْن أثيرَيْن إلى قلبها ...وضعت في أحد أركانها شمعةً أهداها لها في أول عيد ميلاد لها معه على شكل نجمة خضراء.. لونها المفضل ..لطالما أحَبَّت النجوم ..ولكن من يستطيع أن يلمس نجماً إذا أحَبَّه ؟! لم توقِدْ شَمْعَتَها ...أحَبَّتْها ...لا تريدها أن تموت حَرْقاً فالنور يقتلها ويذيبها كدموع حارة تنبض فيها روح قلب يحترق ولهذا آثرت أن تهبها الحياة ولو بين جدران هذه الغرفة .

في الرُّكْن الآخر من الغرفة والبعيد عن الشمس نبتة خضراء صغيرة
نبات ظلّ ..دَنَتْ قرْبَه وداعبتْ أوراقه ..حنت عليها ..داعبتها ..رات ان اصفرارا قد علا احد اوراقها الصغيرة ..او ربما خُيل اليها من شدة خوفها عليها .احست انه ربما غدرها شعاع قاس من الشمس فلسع نبتتها وانذر بذبولها .تلقفتها بكل حنو و ابعدتها قليلا عن بقايا النور .

..تُرى هل تركت التفكير في الحب وتمسكت بوثنية الأشياء ؟ أم أنه كما قال لها يوما إنه كلما وصلا إلى ذروة حبهما وغزلهما افتعلت مشكلة بينهما ليتخاصما وكأنها تستكثر على نفسها وعليه أن يكونا سعيدين..

متى يفهمها.. ألا يعرف أنهما كلما وصلا إلى ذروة الحب أرادت أن تستأثر به وحدها وحيث أنها قبلت بالأخرى ..بالشجرة التي تطرح ثمرا والتي تنشر أغصانها ليستمتعا بدفء الشمس ويستظل بظلها هو وأبناؤه.. لأنها رضيت بذلك فهي لا تستطيع التضحية بحبه أو تنْقُضَ وعدها له أن لا تتكلم عنها، وتجد نفسها بدون أن تدري تفتعل سبباً آخر يبدو له غالبا سخيفاً لتفرغ فيه غضبها من نفسها، لكنَّ حبه لها و حنانه واحتواءه لها والأهم خوفها من فقدانه غالبا ما يعيدانها إلى ساعديه تمسح خديها بهما معتذرة ليربت على رأسها (الصغير الجميل الذي يجب أن لا يفكر إلا بطريقة لإسعادي ) كما اعتاد أن يُمَازحها بِغُرورٍ مُصْطنعْ.. ولتجد أصابعه طريقها إلى شعرها كإشارة سماح من قلبه الكبير لها.

إنتهت كل هذه الأفكار والوساوس لحظة طرق سمعها صوت خطواته وباب الشقة الصغيرة يُغلق ...نادراً ما كانا يتبادلان الكلام في أول لقائهما ..فحلاوة اللقاء أثمن من أن تضيع في عَبَثيَّات الأبجدية .
ألقت بنفسها بقوة على صدره.. تراجع خطوة للوراء ليستعيد توازنه ثم ضَمَّها إليه ..لم تفته نظرة حيرى في عينيها.. هو الذي اعتاد أن يقرأها.. عرفت أنه سيختار أحد طريقين إما أن يعامل نظرتها هذه بشيء من اللامبالاة أو أن يفتعل معها شجارا صغيرا لتقول ما يتعبها.

تذكرت كلمات قرأتها لشاعرتها المفضلة كتبت فيها "لم يعد قلبي يموت ويحيا بانتظار هاتفك" أمَّا هي فقلبها يموت ويحيا بنظرة استياء أو رضا من تلكما العينين..اخذ يدها بيده ..وعرفت أنََّ له صدرا سيتسع لها إذا تكلمت لأنه يريد أن يستمع لها ...
  مَا بكِ ؟
  أحس أنك تغيرت.. لم تَعُدْ كما كُنتَ مَعي من قبل..
  لأن لقاءنا تأخَّرَ يوماً أو بعض يوم..؟! لكن.. أتعرفين.. في كلامك ظِلٌّ من الحقيقة.. هل تدرين السبب..؟!
تَطَلّعَتْ إليْه بعََيْنَيْنِ يشوب صفاءهما ظلّ توَجُّسٍ غامض.
  إنه ما أسميه بـ.. ألْفَةِ الحُبّ.

ارتسم على شفتيْها ـ بعفويّةٍ ـ شبَحُ ابتسامةٍ وهي تُصْغي إلى نبرة صوته الرصينة التي تَتردَّدُ في سمعها بإيقاعٍ خاصّ ما يَلبثُ أن يتحوّل إلى صدىً يذكّرها بأصوات المُحاضرين في قاعات الدراسة.
  حين تتوثق العلاقة بين اثنيْن ارتبطا معاً برباط الحُبّ.. تصبح المشاعرُ بينهما حقائقُ وبديهيات لا تحتاج إلى تأكيد أو إثبات.. لا يعود أحدهما بحاجةٍ إلى تجديد العهد لأنه كائن بينهما وقائم وموصول..

(كانت قد قالتْ له مرّة: لا عليْك أنت قادِرٌ على مُداواة كلّ عِلّة وتطبيب كُلّ جُرْح.. فما بالُكَ بِخَدْشٍ بسيط..؟!.
كان صوته الآن قد أصبحَ أكثر حميمية.
  هكذا أنا.. قد يَمُرُّ يومٌ أو أكثر دون أن أنتبه إلى أنني لم أتَّصِلْ بك.. أو لم أحَدّدْ موعدا للقائنا.. ربما لإحساسي بأنك معي دائماً.. أقسم لك أن قولي هذا ليسَ فيه كناية أو مجاز.. أنا أحُسّكِ معي بالفعل.. لذا لم أشعر يوماً أنني بحاجة إلى لقائك حتى أراكِ.. لأنني أراكِ دائماً رأي العيان..
اتّسعتْ ابتسامتها عن عَمْدٍ هذه المَرَّة وهي تباغته بالسؤال:
  هل هناك أخرى..؟! رُبَّما..!!
  بل أخريات لو تعلمين..!! هناك ألف حبيبة وحبيبة .. حبيبتي أنت التي أراها كل يومٍ بعين جَديدة.. وعِشْقٍ مُتَجَدِّدْ..
  ماذا تفعل إذن حين أكون بعيدة عنك ؟

  ماذا أفعل..؟!.. أحبّكِ ذلك الحُبّ الذي حال دونه البُعد والاغتراب وطول المسافة.. أمنحكِ من ذاتي ما حَلُمتُ دائماً أن يكونَ تعبيراً عن حبي لكِ بغير الكلمات.. أذوبُ في حُضنك وأتوارى عن كل العيونِ إلاّ عيْنَيْكِ.. أبوحُ لكِ بكل ما عجزت اللغة عن حَمله إليْكِ طوال أيامِ البُعد.. أحُبُّكِ على هوايَ.

الشمس تغيب ..تنحسر عن الغرفة ..وسيخرجان بعد قليل .نزلت السلم بحذر ...وهي تخرج من البناية حانت منها التفاتة الى كرة تختبيء في الزاوية ...تنتظر يده ؟ أم تغفو لتستريح من لعب وهتاف نصر وفوز يدوم حتى مغيب الشمس ؟ ؟ .هل ستأتي إلى هذا المكان مرة أخرى ؟ ستعاود لقاءه ؟ بالتأكيد ستعود ليس لأجلها وإنما لأجل نبتة الظل... فمن سيسقيها إذا لم تكن هي ؟!.

الشمس تغيب ..تنحسر عن الغرفة ..وسيخرجان بعد قليل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى