السبت ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠١٣
رُؤى ثقافيّة «63»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

الديمقراطيَّة والأربعون حراميًّا!

-1-

يُحكَى أنه كان في قديم الزمان، في بلاد عربستان، حفظها الله من كلّ تغيير!، حطَّابٌ بسيطٌ يُدعَى (ديمقراطيَّة بابا). كُلَّ يومٍ كان الحطَّاب ديمقراطيَّة بابا يحتطب من التِّلال البعيدة، ويقوم بتحميل الحطب على حماره العجوز متَّجهًا به إلى المدينة ليبيعه. وبينا كان ذات نهار منهمكًا بعد صلاة الظُّهر في العمل، يقطع جذوع شجرة على تلَّة المُقَطَّم، سمع ضجَّة خيلٍ تقترب. بدا له أنها قادمة نحوه مباشرة. فما لبثت أن أحاطت به سحابةٌ من الغبار، وإذا مجموعة كبيرة من الرجال الأشدّاء، قد لَوَّحَتْ وجوهَهم الشمسُ، وسفعتْ نواصيَهم الهواجرُ، تلتمع أعينهم كالعُملة النُّحاسيَّة، شواربهم منسدلة كالهَوْل الدَّاهم، كُلّ واحدٍ كالصقر يريد الإنقضاض على فريسة. بالتأكيد أنهم لم يمرّوا من هنا عابرين، هكذا هجس ديمقراطيَّة. لا بدّ أنهم عصابة من لصوص الصحراء! حاول ديمقراطيَّة إخفاء نفسه بين الأَجَم الكثيف، لكنه نسي أن الحمار لا يمكن إخفاؤه، وأنه بارز للعيان بكُلّ وضوحٍ وشفافيّة! كان الحمار لدى سفح الجبل، والخرج الثقيل يتدلَّى من فوق ظهره، فيه الحطب وفيه ما باع به الرجل من نقودٍ زهيدة أو من مقايضات. فلمَّا رأى اللصوصُ تلك الحمولةَ على الحمار سال لعابهم، ففتَّشوها، لكنهم لم يعثروا فيها إلّا على حطبٍ وبعض دريهمات وأشياء أخرى تافهة. أخذوا الدريهمات في الخرج والأشياء الأخرى، ورموا بالحطب. فجأة قفز أحد المجموعة- يبدو أنه رئيس العصابة- موجِّهًا نظراته الحادَّة إلى صخرة هناك، صائحًا، بصوتٍ أجشّ:

«افتح، يا سمسم!»

ويا للدهشة! جعل وجه الصخرة الهائل في الانقشاع بسلاسة، وانفتح بابٌ كبيرٌ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب، بحيث أصبح بإمكان كُلّ رجل من هؤلاء «العتاولة» أن يَلِجَ في قلب الصخرة.

توارى اللصوص واحدًا تِلْوَ الآخر داخِل الصخرة، وسرعان ما عادوا إلى الظهور خالي الوفاض ممَّا دَخَلُوا به. ومَرَّة أخرى أَمَرَ الرئيس الصخرة بقفل الباب، صارخًا: "سَكِّرْ، يا سمسم!" فانطبقت الصخرة، وكأن شيئًا لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيهم!

تساءل ديمقراطيَّة، بينه وبين نفسه: أأنا في حُلم أم في عِلم؟!... وجلس يتفكّر هناك لفترة طويلة، وهو يحشد ذكاءه. ثم لمّا تأكّد أن اللصوص قد انقرضوا بعيدًا، صعد بحذرٍ شديدٍ من تحت الأشجار، وأخذ جولةً حول الصخرة. قال في نفسه: «ما يمنعني أن «أفتح يا سمسم» أنا أيضًا؟!»...

في وَجَلٍ، وبصوتٍ متهدِّج، قال:

«افتح، ياااا سم سم سممممسم!»...

فكان لكلماته وقع السِّحر على الصَّخر! انفتح مصراع الصخرة العظيم! دخل ديمقراطيَّة بابا، فرأى، ويا لعجيب ما رأى! إذا قُبَّة عالية، كأنها قاعة من قصرٍ جمهوريّ! وقد رَصَّ اللصوصُ منهوباتهم في أحجام مختلفة، ومن ضمنها الخرجَين اللذين كانا على ظهر حماره الكريم منذ ساعة. عُملات ذهبيَّة وفضيَّة، وجواهر متنوِّعة، لا يعرف لها نوعًا ولا عَدًّا، تضيء أرجاء الكهف الصخري.

جثا ديمقراطيَّة بابا على ركبتيه، ورفع ذراعيه بالدعاء: «الحمدلله الذي هداني لهذا، وما كنتُ لأهتدي لولا أن هداني الله! إن الله لغالب على أمره.. لَكَمْ صبرتَ، يا حطّاب، فنلتَ مالَكَ وفوقه أضعافًا مضاعفة من كنز هؤلاء اللصوص الكلااااب، الذين ينهبون ثروة الشعب!» وأجهش بالبكاء حتى اخضلَّت لحيته.

بعد هنيهة أخذ خرجَي حماره، فحشاهما بما استطاع من صُرَر الذَّهب والفضَّة والجواهر المكدَّسة هناك. وحَمِد الله ثانية أن اللصوص تركوا له الحمار. حمَّل حماره، مخبِّئًا ما استلب تحت بعض الحطب، ليظهر أن ما على الحمار حطب، ليس إلّا، لا سمح الله!

عاد إلى امرأته، ولم يتَّجه إلى السوق هذه المرَّة، بطبيعة الحال!

ولمّا أن رأت امرأته كلّ تلك المجوهرات، عَقَدت الدّهشةُ لسانها الطويل، قالت له: «ويلي، أنَّى لك هذا، يا بابا؟!» قال: «هو من عند الله!... لا، أنا لست حراميًّا، بل هم الحراميُّون، يمتصُّون دماء الناس، ويستلبون خيرات البلد. لو كانت لي بهم قوَّة، فإنهم ليستأهلون أن يُصَلَّبوا...». وسرد عليها القصَّة!

عَدَّا هو وزوجُه.. وعَدَّا.. وعَدَّا، وفي كل محاولة يغلطان. فقرَّرا أن يكيلا تلك الثروة كيلًا، فذلك أسهل. لكن أين المكيال؟

اقترحت امرأة ديمقراطية بابا أن يذهب إلى بيت أخيه (باسِم) لاستعارة مكيال. فذهب إلى منزل أخيه، طالبًا إلى امرأة أخيه أن تعيره المكيال. شكّت امرأة باسِم في الأمر، فمنذ متى كان ديمقراطية بابا، الحطّاب البائس، يستخدم المكاييل؟! فجعلتْ في قعر المكيال طبقةً خفيفةً من عسلٍ، كي يلتصق بها بعض المادّة المكيلة، ورَجَت ديمقراطية أن يعيد المكيال بأسرع وقت لأنهم في حاجته. للعجلة والفرح لما يكترث ديمقراطية بابا وامرأته لوجود بعض العسل في أسفل المكيال، وحين أعاده إلى امرأة باسم كان قد علق بقعره سِلْسَال ذهبيّ صغير. افتضح الأمر، وأزبد الطمع في الصدور. زار باسِم أخاه مساء ذلك اليوم، وقد صارت أُمُّ عياله تناديه: (ديمقراطية باشا). وبعد لفٍّ ودوران، استقى منه المعلومات كاملة عمّا حَدَثَ له. بذلك أصبح «الأخوان» على معرفة بسِرَّ الصخرة، ومفتاحها السِّريّ. في فجر اليوم التَّالي، اتجه باسِم إلى صخرة اللّصوص، هرميَّة الشكل، ومعه عشرة بغالٍ دُهْم. انشغل باسِم وانشغل بالجمع والتحميل، ونسي نفسه داخل الكهف الصخري، هو والبغال. ولسوء الحظ والذهول امَّسحت ذاكرته المضيئة عقب ذلك الجهد الجهيد، فنسي كلمة السِّرّ التي تفتح الباب، وكان قد انغلق عليه كعادته.

«افتح يا حمّص.. افتح يا ترمس.. افتح يا فصفص.. افتح يا...!».. لا فائدة لم ينفتح شيء!
مضى عليه وقت في تلك المحاولات، إذا به يسمع وَقْع سنابك الخيل تقترب واللصوص، وقد عادوا إلى كهفهم المصون، وصوت الرئيس يُدوِّي من الخارج: «افتح يا سمسم!»
 «نعم، نعم.. هي سمسم.. سمسم بنت الكلب هذه!»

وانزوى في إحدى زوايا الكهف المظلمة. لكن البغال، كيف يخفيها؟

ألقى اللصوصُ على لِصِّ اللصوص القبضَ، متلبِّسًا بفعلته، وأجروا معه التحقيق اللازم، فاعترف على نفسه وأخيه. فما كان من الرئيس إلّا أن ذهب إلى دار ديمقراطية باشا ليَفْتِكَ به، متنكِّرًا في زِيِّ تاجر غريب، مصطحبًا معه جِرارًا أربعين، على عربةٍ تجرُّها الخيول، زَعَمَ أن فيها زيتَ زيتون، يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار! وكان قد خبَّأ رفقاءه من اللصوص المجرمين المحترمين في تلك الجِرار، عدا واحدة ملأها زيتًا بالفعل. رَحَّب به ديمقراطية باشا واستضافه، هو وجِراره.

وتقول الحكاية إنها كانت لديمقراطية باشا جارية اسمها مرجانة، كانت أُعجوبة في الذكاء، استطاعت إنقاذ ديمقراطية باشا من اللصوص، بعد أن اكتشفت المؤامرة، إذ أحسَّت همهمات الجِرار، ومَن فيها يتحيَّنون الفرصة للهجوم على ديمقراطية باشا. فما كان منها إلّا أن أحْمَتْ زيتًا حتى درجة الغليان، ثم صَبَّت فوق رؤوسهم منه، وأحكمت سَدَّ الجرار عليهم. بعد هذا جعلتْ تُغري رئيسهم النشوان، متظاهرةً له بالرقص، حتى طعنته بخنجر مسموم، كانت اختطفته من أحد لصوصه البَرَرَة. وبذا عاش ديمقراطية باشا في ثبات ونبات، وخلَّف الصبيان والبنات. والله أعلم بحقيقة ما جرى وما فات.

-2-

قالت شهرزاد، وقد أدركها الصباح، وقبل أن تسكتَ عن الكلام المباح:

إن في هذه القصّة لعبرة لأُولي الألباب. على أن مرض الحطّابين الطمّاعين كثيرًا ما يكون عضويًّا مزمنًا، مداخِلًا لضمائرهم، لكنهم يزكُّون أنفسهم، ملقين الأسباب، كدأبهم، على فيروسات خارجيَّة، كما هي عادة الأهالي في عربستان عمومًا، الذين يَحْلُو لهم أن يشجبوا عيوبهم على غيرهم. والمؤكَّد- الذي لسنا في حاجة فيه إلى أيّ أقاصيص أو عِظات أو شهرزادات- أنهم كانوا، أصلًا وفصلًا، يعانون من أنفلونزا الحريَّة، والعدالة، والكرامة، والأمانة، والديمقراطية. أمّا أدمغتهم فقد تبرمجت على العبودية وتأليه الكبراء والآباء منذ الأزل، سواء تعلق اﻷمر بمن حلّ منهم الحيّ الشاميّ أو اليماني، أو بجميع الأمصار في عربستان. ﻻ جديد تحت شمسهم الملوِّحة للوجوه، المجفِّفة للقلوب والأكباد، ذلك ما حدث في جزائرهم، وما حدث في فلسطينهم، باﻷمس، وما يحدث اليوم في مصرهم. وما سوف يحدث غدًا في تونسهم الخضراء. ﻻ مكان لديمقراطية باشا، ولا حتى بابا، في دنياهم، إلَّا لو اتَّفق والهوى، والمذهب، والطائفة، والمصلحة، والوﻻء، والشِّعر الجاهلي! وفوق كلّ شيء وبعده: لا ديمقراطيَّة هاهنا، كائنة ما كانت، غير ممهورة بمباركة النسر الأمريكي! ثم أردفت شهرزاد، وقد أوشك الديك أن يمدّ حنجرته بأذان الفجر:

الديمقراطية، يا شهرياري، ليست لعبة صناديق كما حَكَوا، لكنها تأسيسٌ ثقافيٌّ طويل الحكاية والتَّبِعات، يَحْكُم قانونُها الحاكمَ والمحكومَ، وإلّا استحالت إلى فوضى عارمة؛ وهذا ما حدث، فلا الحاكم يستطيع التحلِّي بأخلاق الديمقراطية، ولا يريدها أساسًا، ولا الشعب كذلك يفعل، اللهم إلَّا تنظيرًا وتخييلًا وكلامًا في كلام.

قال الدِّيك: ...وأيّ ديمقراطيَّة قامت في التاريخ تحت «البسطار» العسكري؟! لا تصدِّقي، يا شهرزاد، أن باستطاعة مرجانة- ومهما بلغ ذكاؤها- أن تُنقذ ديمقراطية باشا من الأربعين حراميًّا، ثقافيًّا.. أو أيديولوجيًّا.. أو عسكريًّا!

لا أحد هنا لم يَعُد يصطفّ مع داحس أو يصطفّ مع الغبراء!

وحده (العقل) لا صَفَّ له اليوم بين العرب!

ومَن لم يَمُتْ بالديمقراطيّة العربيّة.. فبشِّره بالحياة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى