الأربعاء ٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٣
معرض في قاعة اليونيسكو البيروتية نثر النور في أرجائها:
بقلم كلود أبو شقرا

أنسنة الطبيعة في لوحات وهيب بتديني

في قصر اليونسكو في بيروت، أقام الفنان وهيب بتديني ، معرضاً يضم أكثر من ستين لوحة تتراوح بين الزيت وبين الباستيل. وهذا العاشق للطبيعة وللتراث، حوّل قاعات اليونسكو الفسيحة الى واحة ألوان صارخة ثائرة حيناً وهادئة ساكنة حيناً آخر، تنثر النور في الأرجاء، وتحاول أن تجعله يخرق عقول وقلوب المشاهدين بغية إقامة حوار صامت عنوانه قلب النور وأزلية التراث.

بين ساحل لبنان وجبل الشوف ومنطقة الباروك وبين غاباته وأنهره، تنقلت ريشة بتديني مسجلة في ما يشبه الحلم مكنونات الطبيعة ومكامن الجمال فيها، وسبر اسرارها، فإذا بها تظهر في لوحاته مشرقة، بهية،مؤنسنة ،تنبض حركة وحياة، يضفي عليها النور وشاحاً منسوجة خيوطه من ذات الفنان ومن أحاسيسه.

"إن الطبيعة اللبنانية، يقول وهيب بتديني، هي ساحرة تطبعنا بانطباع يضج بالمشاعر والأحاسيس، عندم نقف أمام المشاهد الحلوة التي توحي للفنان برؤى جميلة، تسحر ليس فقط اللبناني، وإنما الأوروبي والأميركي أيضاً، فيراها بعين أكثر صفاء.

أنا مقيم في الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلال المعارض التي أقمتها هناك، وضمنتها مشاهد من الطبيعة اللبنانية الساحرة شعرت بإعجاب الناس هناك بتنوع الجبال، وبغابات الصنوبر المتناغمة مع الصخر ومع قرميد المنازل، والتي تشكل لوحة شفافة تترك انبطاعاً جميلاً في القلب وفي العقل. ومن خلال رسم الطبيعة وتسجيل مكامن الجمال فيها، يكتسب الفنان في لبنان هوية خاصة يغزو بشفافيتها ويغني ألوانها العالم. أما التراث، فهو رمز تجذرنا في هذه الأرض واستمرارنا في التاريخ، لذلك، من واجب الفنان تسجيله ليبقى في القلب وفي الذاكرة حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل".

ويتابع بتديني: "أنا أرفض أن يغيب الفنان اللبناني أو يهمش هذه الجماليات، ويتحول من وعي ومعرفة أو عدمهما الى أشياء أخرى بعيدة وغريبة عن واقعه. إن الواجب الوطني يفرض فهماً عميقاً لكل ما يمت الى حضارتنا بصلة، فإذا أردنا الاستقلال والتميز لوطننا، علينا التفاعل مع القيم الجمالية التي أنعم الله علينا بها".

خلال إقامته في الولايات المتحدة الأميركية، تعرف وهيب بتديني على الحضارات المتفاعلة في المجتمع الأميركي وعلى نواحي الحياة اليومية المتسممة بالسرعة في العمل وفي التفكير وفي استغلال عنصر الوقت، إلا أنه بقي وفياً لزوايا مسرح طفولته في منطقة الشوف في لبنان، يلامس عن بعد سكينة منزله الريفي قرب المتعرجات وأشجار الصنوبر ويحاكي خيوط النور المشعة من كل زهرة ومن كل وجه حفر سماءه في قلبه وفي لوحاته رمزاً للعنفوان وللكرامة.

"أكسبتني إقامتي في الولايات المتحدة، يقول، نضجاً في مسيرتي الفنية نتيجة إطلاعي على التجارب والتيارات المختلفة، لذلك، أكسبني طابع الحياة الصاخب والسريع حب الحياة المتحركة والمتطورة باستمرار، الأمر الذي جعلني أعمل على ضرورة التطور مع نمط الحياة في التعبير عن الرؤى الفكرية التي تجول في خاطري.

وأنا أؤمن بأن التطور والتغيير مفروضان في الحياة، معاً يجعل الفنان في تجدد دائم، يستوحي من الحالات التي يعيشها، مهما اختلفت وتناقضت، مواضيع حية ومتحركة وصادقة في لوحاته. من هنا، أنا أركز في شكل خاص، على التوازن بين عقل الفنان وبين عواطفه، الى جانب المعرفة المتأتية من الدراسة والاختبار.

لكن الولايات المتحدة لم تؤثر في أسلوبي الفني، فبينما نرى اللوحة الحديثة أضحت صناعة، أن تبدو في المقابل لوحاتي مركزة على الإحساس تنبض بالمشاعر وخصوصاً بالحب وبالحنين. إن الفنان يقف دائماً أمام الجدلية التي تفرضها الأساليب المستحدثة كل يوم، فإذا انجرف في تيارها، لم يعد بمقدوره تسجيل حضارته وخصوصيتها للتاريخ".

اللافت في المعرض، الى جانب اللوحات النابضة بعشق الطبيعة: أخرى تعكس تأثر الفنان بالصور التراثية، من الدبكة اللبنانية، الى النارجيلة، الى الكركة، الى وجه الفلاح المتميز بملامح العنفوان والقوة، الى مشاهد من الحياة القروية، الى البيت اللبناني العريق، الى سوق القرية الذي يضج بالحيوية، "إن هذه الصور التراثية مخزنة في ذاكرتي منذ طفولتي، إلا أنني اليوم صرت أدركها بوعي وبنضج وانطلاقاً من إيماني بضرور حفظ هذه النواحي الحلوة من حياتنا في لبنان، سجلتها في لوحاتي خوفاً عليها من الزوال الذي بدأ يهدد تراثنا العريق. وفي اللوحات التراثية، كما في لوحات الطبيعة، اعتمدت اسلوب التحرر من التفاصيل، ولذلك، يعود الى النضج والإشراق الى مراحل أبعد من البقاء في رسم الأشياء بحذافيرها. علينا أن نتجاوز مرحلة التصوير الآلي الذي كان سائداً من قبل، وأن ننقل الفن من المادية الى السمو نحو الرؤى والأحاسيس التي تطال بشموليتها الإنسان الى أي مكان أو زمان انتمى.

وأنا أعتبر، ضمن هذا الإطار، أن الفن هو رسالة إنسانية فكرية، وأن الفنان هو مفكر اجتماعي يمتاز بالإدراك والإيمان والاقتناع والفهم في تحليل الحياة، لذلك نرى أن الجمالية والرمزية والشاعرية هي أبرز العناصر التي تتألف منها لوحتي الى جانب التقنية، لأنني أريدها موحية ومؤثرة وهنا لا بد من أن أذكر قول سيد الانطباعيين فان غوغ، مفاده: "عندما أقف أمام الطبيعة كأنني أقف أمام المعبود ". انطلاقاً من هذه القناعة أنا أصنف نفسي رساماً انطباعياً ملتزماً بقناعاتي وبأحاسيسي".

وللمرأة عند بتديني صورة خاصة ومميزة فهي رمز الجمال كما في لوحة الراقصة، ورمز القوة والحماية كما في لوحة الملجأ حيث تبدو حاضنة لأطفالها خوفاً من الحرب ومن الموت، ورمز للحب المطلق وللعطاء اللامحدود كما في لوحة الأمومة.
"إن المرأة في لوحاتي، يقول، هي موحية تماماً مثل الطبيعة، خلقها الله مكتملة بميزات الجمال والسحر والرومنطيقية والعاطفة، إنها بالنسبة الي، أصدق بإنسانيتها من الرجل وأكثر ليناً".

"في العصور الغابرة كانت المرأة تقود الجماهير في أوقات الشدة، وفي أوقات السلم كانت تمارس أمومتها وأنوثتها وهي لا تزال الى اليوم، تعرف كيف تتأقلم مع كل الظروف والمعطيات، من هنا شغفي بهذا الكائن الذي يرمز الى الخصب والحب أنا أعتبرها مكملة للحياة، وبدونها لا حياة، لذلك، حرصت على رسمها في شخصياتها المختلفة من المثيرة والمغناج، الى القائدة. . إنها في كل الأحوال جميلة، تستحق التقديس، نظراً الى طبعها القائم على بذل الذات في سبيل الآخرين".

في المعرض مجموعة من لوحات الباستيل، التي، وإن دخلت ضمن إطار موضوع الطبيعة، إلا إنها امتازت عن الزيتيات في كونها تعتمد أسلوباً قائماً على العنف والصخب في استعمال الخط واللون. في الباستيل، حرصت على إبراز الثورة الكامنة في نفسي من الظلم اللاحق بالإنسان وبالطبيعة نتيجة المدنية والتطور، لذلك بدت الطبيعة صاخبة من ناحية اللون وعنيفة من ناحية الخط، ضمن إطار الاختصار للمساحات اللونية.

إلا أنني حرصت على الإبقاء على الجمالية الفنية التي تريح المشاهد التي تخلق حواراً صامتاً بينه وبين اللوحة. وهنا أذكر مثلاً لماتيس مفاده أن اللوحة يجب أن تثير في المشاهد الراحة والهدوء والسكينة وأنا أعمل من هذا المنطلق وهذه القناعة.

للحرب أيضاً في معرض وهيب بتديني زاوية خاصة، فهي وإن انتهت منذ فترة تزيد على ثلاث عشر سنة، إلا أن آثارها لا تزال تتفاعل في نفسه وفي قلبه، لا تظهر في لوحاته آثار الدمار أو أي مظهر من مظاهر العنف والموت. إنما ترجم معاناته من جرائها، برسم الظلم والإنسان الضحية الذي طعن في عمق إنسانيته وتحول الى شاة تساق الى الذبح مسلوبة الإرادة من السلاح. "على الرغم من أنني أعبر عن المأساة التي طالت الإنسان في سنوات طويلة، إلا أنني حرصت على الابتعاد عن الأولان التي ترمز الى الظلمة والموت. وعلى استعمال الألوان التي تنم عن الأمل وعن الحياة، والتي استمديتها من رؤياي ومن نفسيتي الكيانية.

لقد اكتسبت من مجمل التجارب التي مررت بها في حياتي، حب الحياة والتعلق بها. كنت في طفولتي أشعر بالسأم نتيجة تفتيشي المستمر عن طريق مستقبلي، وعشت فترات أليمة سببت لي وجعاً داخلياً، إلا أن هذه الأحاسيس ترجمتها في ما بعد في لوحاتي إشراقاً وانفتاحاً على اللون، الذي تحول الى ضوء خرق النور ووصل الى قلبه.

أنا أؤمن بأن هذه القناعة، التي تولدت عندي نتيجة ورع واجتهاد زائد في معرفة الحقائق وصولاً الى الحقيقة المطلقة أضفت على نفسي صفاء وشفافية يوازيان العقل أهمية ومعرفة، وجعلتني أدرك قدسيتها وجوهر الكلمة المعبرة عنها، فعندما نقول أن الكلمة هي جوهر، نعني أنها تعبر عن مكنونات العقل والنفس، وهي رابطة بين الحضارات والإنسان في كل زمان ومكان، وهي رمز يميز الانسان عن الحيوان لأنه ينطق بالكلمة للتعبير عن نفسه . . نضج في الخط وفي اللون، رمزية في التعبير تفسح المجال الى ولوج عوالم النفس والعقل والوجدان، عناصر طبعت مرحلة وهيب بتديني الأخرة، فإذا بها تشكل رابطاً حيوياً بين البداية الكلاسيكية القائمة على أصول الفن التشكيلي التي اكتسبها بتديني على أثر تردده الى محترفات مصطفى فروح وعمر الأنسي، وحليم الحاج ومن ثم دخوله الى معهد "مسوريكوف" للفنون في موسكو وتخصصه في أصول الجداريات، بعدما تخرج في لبنان من الأكاديمية اللبنانية للفنون (1955 – 1960) حائزاً على إجازة في الرسم وفي النحت.

ولا شك في أن التجارب المختلفة التي اطلع عليها وتعمق بها، تجلت واضحة في سلسلة المعارض التي أقامها ابتداء من السبعينيات في القرن الماضي في لبنان وفي موسكو والولايات المتحدة والرياض وغيرها . . . ووصل اليوم في محطته الأخيرة الى تحويل اللوحة الى احتفال طقوسي بقيم الحياة بعيداً عن التفاصيل المادية المتحلية بالخط، ومتساميا باللون الى النور الذي يخترق عمق الكيان الانساني.

منذ طفولتي أحببت الرسم الى درجة الهوس. في بداياتي في المدرسة كنت أقطف الأزهار وأسحقها على الورق لأحصل على اللون الذي أريد. وكم كانت فرحتي كبيرة عندما أحصل من والدي على علبة تلوين، في هذه المرحلة المبكرة، بدأت الإشراقة اللونية عندي، لذلك أعتقد بأن الفنان يولد فناناً قبل أن يدرس الفن، أي أن الفن موجود في تكوينه. وفي مطلع شبابي، عندما صرت أتردد على محترفات الرسامين الكبار تعلمت منهم تقنية التعامل مع المادة اللونية. أذكر في هذا المجال أن الفنان حليم الحاج كان يعطي دروساً مسائية، وكنت أتابعها مع بعض الشباب الذين أصبحوا في ما بعد من أبرز الفنانين التشكيليين، من أمثال فريد عواد وميشال المير. وفي إحدى الأمسيات وبغية تشجيعنا، نظم حليم الحاج مباراة في الرسم، نلت على أثرها الجائزة الأولى وكانت مقابلة في مجلة "الصياد" اللبنانية لمؤسسها سعيد فريحة، وكم كانت فرحتي عظيمة في ما بعد عندما رأيت صورتي تتصدر المجلة للمرة الأولى في حياتي. وقد دفعتني هذه الجائزة المعنوية الى اكتساب قناعة بضرورة متابعة طريق الفن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى