الأحد ٢٦ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم سعود الأسدي

بحيرة طبرية عند المتنبي وشكيب أرسلان

كان المتنبي فارساً وشاعراً مدّاحًا , وحكيماً طمّاحاً ، ومتنقلاً جوالاً , وكانت مدينة طبرية من الأماكن التي حظيت منه بالنزول فيها سنة 328هـ وعمره خمسة وعشرون عاماً وقد اشتهرت له قصيدة في وصف الأسد الذي التقاه أبو الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي قائد الجيش في طبرية , فعاجله بضربة سوط فارداه قتيلاً , ومطلعها :

في الخدّ أن عزم الخليطُ رحيلا

مطرٌ تزيد به الخـدود محـولا

واشتهر منها :

ورد إذا ورد البحيـرة شاربـاً

ورد الفـــرات زئيره والنيلا

ولما كان المقصود هنا بالبحيرة بحيرة طبرية فلا بد من القول منذ البداية أننا في موضع سجدتين : مرة لأقدس وأجمل بقعة في أرض الجليل الذي تنوعت مناظره ما بين شاطيء بحر, وضفة نهر, وقمة جبل , واطمئنان سهل , وعمق غور مما لا شبيه له في سائر الأقاليم ، ومرة لقصيدة شهيرة من قصائد المتنبي فيها من الروعة والجمال ما يصلح لأن يقابل ما في بحيرة طبرية من رونق وجلال ، وهي البحيرة التى اجترح على ضفافها المسيح بن مريم عليهما السلام معجزاته ، فقد سار على الماء وقرى الألوف ببضعة أرغفة وسمكات ، وشفى البرص والمقعدين والممسوسين .

***المتنبي يحني رأسه ***

وإذا كان المتنبي في قصيدة وصف الأسد , ومدح بدر بن عمار لا يلتفت إلى جمال بحيرة طبرية , بسبب التجربة الشعرية الخاصة , والحالة النفسية المغايرة , والحدث المثير جدًا من مصرع ليث غضنفر بسوط فارس بطل , فإن له قصيدة غيرها نجده فيها مضطرًا إلى أن يحني رأسه قسرًا , فيكف عن النظر إلى مطامح ليست دون النجوم , لينظر فيما حوله ودونه من جمال الربوع والتخوم والبساتين والكروم في طبرية وأرباضها , ويرسم بالوصف منظرًا قلما شغل حسه الفطري , ووجدانه الشعري بمثله باستثناء وصفه " شعب بوان " من أرض شيراز في بلاد فارس , والأبيات المقصودة ثمانية في عددها من قصيدة مدحية في الحسين بن إسحق التنوخي بلغت 42 بيتا وهي :

لولاك لم أترك البحيرة والغـــور دفـيء ومـاؤها شبــم
والموج مثل الفحـول مزبـدة تهـدر فيها وما بها قطــم
والطير فـوق الحبـاب تحسبها فرسان بلـق تخونها اللجـم
كأنهـا والريـاح تضربـهـا جيشــا وغى هازم ومنهزم
كأنهــا في نهـارهـا قمـر حفّ بــه من جنانهـا ظلم
تغنـت الطيـر في جوانبهـ وجادت الأرض حولها الديم
فهـي كَماويّةٍ مطوقــــة جـرد عنهـا غشاؤها الأدم
يشينهـا جريهــا الى بلـد تشينـه الأدعيـاء والقـزم

فلولا الممدوح التنوخي لما ترك المتنبي البحيرة ذات الماء البارد والغورالدافىء وهي من أحسن المشاتي ! فكانما عوض وجود التنوخي في الغورالمتنبي عن الاستجمام في الجليل , والاستحمام في بحيرة طبرية , وعما يراه حولها من مناظر ساحرة خلابة , وباهرة جذابة أدناها أمواج هائجة كأنها فحول من الأبل ترغى وتزبد وتهدر على أن فحول الأمواج هذه ليس فيها شبق محموم للضراب كالذي عند فحول الإبل .

ثم ينتقل المتنبي بعد رصد حركة الموج إلى رسم حركة الطير من بطّ وإوز وكراكيّ ومكاكيّ وسواها لدى انفلاتها بالعوم من على الأمواج , فكان الأمواج خيول بلق لما يخالطها من سواد وبياض , ولكن الفرسان ( الطير ) فقدت السيطرة على خيولها باللجم , فانطلقت الخيول الجامحة لا تلوي على شيء !! ثم بدت هذه الأمواج (أو تلك الطيور ) وهي في كرّ وفرّ , وكأنها جيشان متحاربان , أحدهما هازم والآخر منهزم .

*** من الخارجي الى الداخلي***

في تلك الأبيات الثلاثة من الوصف المركب استطاع المتنبي بلفتة ذكية , ولمسة فنية من الصنعة الشعرية المتقنة أن يعرض , وفي آن واحد , وصفين متوازيين الأول موضوعي خارجي ظاهر, والثاني ذاتي داخلي مضمر , فالموضوعي الظاهري ما يبدو للعيان من موج وطير ورياح وحركة مضطربة , وأما الذاتي المضمر فهو ما يعتمل في نفس الشاعر من توتّر وغليان ثائر , وحمّى قتالية , وشغف بالحياة قفز به من الخيال إلى التخيل بأن هناك فحولاً هادرة , وخيولاً جامحة , وجيوشاً في حرب دائرة مما يجعل القاريء يدهش لهذا الشعر مرتين مرة لرؤية البحيرة من خلال نفسية المتنبي ومرة لرؤية نفسية المتنبي من خلال البحيرة , وإن كانت الرؤية الأخيرة المضمرة تشبه الإيقاع المضمر في الموسيقى الكلاسيكية لايشعر به إلا كل ذي حسّ عميق وشعور رقيق , وهذا المزج المحير بين الموضوعي الخارجي والذاتي الداخلي في الوصف هو ميزة رومانسية بارزة من ميزات شعر المتنبي وهو من أبرز من بذروا بذور الشعر الرومانسي في تضاعيف قصائدهم في الشعر العربي العباسي والكلاسيكي القديم .

*** من الجزئي إلى الكلي ***

وبعد هذا, وعلى المنوال ذاته يتابع المتنبي نسج أوصافه في بحيرة طبرية من الجزئي إلى الكلي , وذلك بعرض صورة البحيرة ككل , بشكلها وظلالها وألوانها , فهي تشبه بما لها من شكل دائري , وسطح ناصع لامع , وبما يحيطها من جنان خضراء , ذات أشجار لفّاء وحدائق غنّاء , قمراً مضيئا حفت به غشاية الليل وظلماته .

وقد سمّت العرب في بلاغتها هذا التشبيه تمثيلا بسبب المماثلة الحاصلة بين صورة مرئية متعددة الجوانب وصورة متعددة الجوانب متخيّلة بأسلوب ميتافوري (مجازي) , ولولا المجاز والتشابيه والكنايات التي يأتي بها الشاعر لما كان للشعر سحر وروعة أو رونق وجمال .

*** من العين الى الأذن ***

وإذا كان المتنبي أمتع ناظريه بجمال بحيرة طبرية , وذهنه بما مر في خياله من صور وتشبيهات فما باله لا يمتع سمعه بالإصغاء إلى جوقات البلابل والشحارير , وهي تترنم بالأناشيد في أجواء من ريّ الأرض غبّ مطر دائم من كفّ سحاب كريم .

هذا والبحيرة في عمق مائها وصفائها ونقائها كأنها مرآة مطوقة بإطارها , وقد نزع عنها ما يغطيها من غشاء فبدا ماؤها كزجاج شفّاف نقي صقيل
ولكن برغم مما بدا على بحيرة طبرية من حسن وجمال , فان المثل يقول: لا تعدم الحسناء ذاماً , ولعل " الذام " الذي رآه المتنبي في طبرية وهو( ليس في أصل تكوينها ولكنه طارىء عليها ) نجده في قوله :

يشينها جريها إلى بلد تشينه الأدعياء والقزم

وهكذا فإن ما يعيبها هو أن يخرج منها ماؤها وينحدر جنوبا ليروي أرضًا يقطنها أدعياء في أحسابهم هجناء في أنسابهم , ليسوا كراما بل أراذل وأقزاما لئاما .

*** وأما شكيب ارسلان ***

وأما شكيب أرسلان الملقّب بأمير البيان فقد نزل عام 1902 عند ابن عمه وكان قائمقام طبرية , وقام بزيارة مقام النبي شعيب عليه السلام وقرية حطين التابعة لطبرية لأجل مشاهدة الموقع الذي دارت فيه رحى معركة حطّين الشهيرة عام 1187 بين السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي وبين الصليبيين . وبعد أن شاهد حطين ولوبيا وقرون حطين التي جلس عليها السلطان بعد الظفر ولديه ملك الصليبيين ورفاقه وسائر الجيش الإفرنجي أسرى نظم قصيدته الرائية ، وقد نشرتها إذ ذاك مجلة المقتطف , والقصيدة مطولة تقع في 143 بيتاً وتتألّف من ثلاثة عناصر :

الاول : مقدمة وصفية لنهر الأردن من منبعه إلى مصبه , وفيها ذكر لمواقع جبل الشيخ , وجبل هونين غربي سهل الحولة , وتل القاضي , والبانياس , والحاصباني , , وجسر بنات يعقوب , والبطيحاء وبحر الجليل (بحيرة طبرية ) وكفرناحوم والمجدل والغور والشريعة والبحر الميت .

وأما العنصر الثاني فهو تمجيد وإشادة بقدسية الأرض التي درج عليها المسيح عليه السلام , وتجلت فيها معجزاته , وسائر حواريه , وسواهم من الأنبياء والمرسلين , والأولياء الصالحين , وفي هذا الجزء من القصيدة , يلتفت أمير البيان كما التفت المتنبي شاعر العرب من قبله إلى جمال بحيرة طبرية بأبيات ستة سيأتي ذكرها .
وأما العنصر الثالث , وهو ما يؤلف ثلثي القصيدة , فإنه عن صلاح الدين الأيوبي وحروبه مع الصليبيين , وذكر مناقبه , وبعث لذكراه التي قد تنفع العرب والمسلمين الذين لعجزهم وتواكلهم ليس همهم اليوم , وللأسف , إلا الحديث في مجالسهم وأسمارهم وندواتهم وإذاعاتهم عما مضى من أمجاد آبائهم وأجدادهم من باب التفاخر والانتفاخ , أو التعزية والتأسّي غير طامعين أو طامحين في أن يبنوا فوق ما بناه ذووهم الأولون أو يفعلوا فوق ما فعلوا .

*** كانها في صفائها فلك ***

وأما الأبيات التي تحمل وصف بحيرة طبرية كما وردت في ديوان أمير البيان فهي :

بحيرة كلّ شأنهـا عجـب

وهي مـن الحسن كلها غرر

لله در الكنـدي واصفهـا

كأنهـا فـي سمائهـا قمـر

كانت تحف الجنـان دورتها

والآن تحتفُّ دورها السِّـدَر

مراة نُـور من السفوح لها

إطار نَـْور لم تحكـه الأطر

كأنّهـا في صفائهـا فلك

وفلكهـا فيه أنجـم زهـر

أجمـدْ بقوم رأوا محاسنها

يوما فما أنشدوا ولا شعروا

تبدو بحيرة طبرية من خلال هذه الأبيات عجيبة , وذات
حسن فريد وهنا يذكر شكيب أرسلان , بعد أن يتذكر , وصف الكندي (المتنبي ) لها, ويقتبس شطرة منه (كأنها في سمائها قمر ) , ولا يفوته أن يفطن إلى الجنان التي كانت تحيط بها في الماضي , بينما اليوم تحيط دورها أشجار السدر (النبق) الشائك , وهي غير غامرة الظل , وذات أثمار كالتي للزعرور لا تسمن ولا تغني من جوع .

وكأنما يريد شكيب أرسلان , ولو من طرف خفي , أن يقول للقوم : ألا هبوا إلى العمل الدؤوب , وأعيدوا الأرض جنات وبساتين كما كانت في سالف العصر والأوان !! والبحيرة مرآة من نور ( بضم النون ) , وسفوحها إطارلها ولكن من نَور ( بفتح النون ) والنور الزهرأي إن البحيرة مراة من نور لها برواز من زهر , وهي زرقاء صافية كأنها قبة الفلك تزينها النجوم , وهنا يذكرنا ببيت البحتري من قصيدة له في وصف بركة الخليفة المتوكل :

إذا النجوم تراءت في جوانبها ليلاً حسبت سماء ركبت فيها
وإزاء هذا الجمال الساحر لا يملك أمير البيان إلا أن يظهر انفعاله الشديد , فينحي باللائمة على من يرون محاسن بحيرة طبرية ولا ينشدون شعراً :

أجمـدْ بقـوم رأوا محاسنها يوماً فما أنشدوا ولا شعروا
فما أجمد قرائحهم ـ معشر الشعراء ـ يمرون بطبرية هكذا مرور الكرام ، فلماذا لا ينفعلون فينشدوا روائع الأشعار في بحيرة ذات هيلة وميلة , وجمال وجلال ؟! لست ادري !!

ولو عاش شكيب أرسلان إلي يومنا هذا ورأي ما يعتري بحيرة طبرية من تلويث بسبب ما يرفدها من مجاري مياه الصرف والأقذار ، ونقص في مياها يؤدي إلى انخفاض منسوبها وتسمم لطيرها وأسماكها وهدر لثروتها وما يعتور ماءها من كدر، وقد كانت صافية كعين الديك ويرتوي منها الظمآن بحفنتيه لقال :

أقبحْ بقـوم داسوا مفاتنها
دوساً فشاهتْ ، كأنهــم بقر


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى