الاثنين ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم زكرياء أبو مارية

إفـراط

[... وعلى الرغم مما يترتب عن هذه الحالة (انتقال الكائن البشري من حالة الطبيعة إلى حالة التمدن) من حرمان من العديد من الامتيازات التي كان يستمتع بها من الطبيعة فإنه يفوز بما هو أعظم: إن ملكاته تتمرس وتتنامى، وأفكاره تمتد، وتصبح عواطفه أكثر نبلا، وتسمو روحه إلى حد أن عليه - لولا الإفراط الذي يحطه إلى درجة أدنى من تلك التي خرج منها- أن يبارك كثيرا تلك اللحظة السعيدة التي خرج فيها من تلك الحالة وإلى الأبد، ليتحول من حيوان غبي ومحدود الإمكانات إلى كائن ذكي وإلى إنسان.]

ج.ج. روسو / العقد الاجتماعي.

لو أنني أعرف أن العدل طبيعة في البشر، كطبيعة الاحتقار لديه، لكنت السباق إلى الشكوى ورفع دعواي إلى الجهات العادلة، ولكنني أدرك مثل كل من هم من فصيلتي المتأدبة والحساسة أن الكلب إذا ما حدث وعضّ صاحبه يوما ما فإنما هو بذلك يوقع بأسنانه على لحم مقدس اعترافه بأنه يستحق أن تصدر العدالة في حقه أقسى وأبشع العقوبات، كأن تحكم باقتلاع أسنانه مثلا، ليجرد بذلك من شرف انتمائه إلى الدرجات العليا في فصيلته، ولينهي بالتالي مشواره الكلبي كجرو من جديد، دون أدنى أمل في ترقيات مقبلة هذه المرة، ولن يحتاج الأمر إلى محاكمة أصلا، لأن واجبات عرفية فرضت منذ أزمنة "ما بعد إنسان الكهوف" [1] بألا يُسمح للكلب الذي هو وفيّّ بالدرجة الأولى أن يعض صاحبه، في حين أن المعضوض الذي هو السيد طبعا خولت له في المقابل حقوق عرفية منذ نفس الحقبة أيضا أن ينفذ حتى الظلم في حق كلبه، دون حاجته إلى اللجوء لمحكمة وحكام.

كنت أعمل "كاتبا خاصا" لدى واحد من أثرى أثرياء المدينة، وهذا كان يفترض من طرفي وفاء أشبه بوفاء الكلب لصاحبه، فطبيعة عمل من هذا القبيل ستفرض علينا دائما وعلى الأقل هذا التعديل في سلوكنا، مادامت الفطرة على الوفاء مثل الفطرة على العدل أيضا عسيرة التحقق في جبلّة بشرية، كما أن رضا صاحبي على اقتراحي بأن أوظف مواهبي الأدبية في الخطب التي ظللت أهيئها له حتى اكتسب بها شعبية واسعة خدمت مصالحه المالية والسياسية كان يبقيني على اكتفاء نفسي يسمح باستمراري معه على نفس وفائي.

لا أنكر أن اقتراحي ساءه بادئ الأمر، لأنني أخبرته أن التفوق في الكتابات المتأدبة بما فيها الخطب يكون مبنيا على صدق أحاسيس كاتبها، مما جعله يتخوف أن يكون صدقي وبالا على عالميه المالي والسياسي المتأسسان على الخديعة والأكاذيب، كما لاحظ أن لساني لم يكن طلقا كما ينبغي للسان خطيب أن يكون، ولكنني أقنعته بأن الكتابة في الأدب ليست خطا فقط ليتعين علي أن أجيد الثرثرة لمجرد الاعتبار بأننا لا يمكن أن نجيد الكتابة إلا مرورا بإجادة القراءة أولا وكأن ما نكتبه هو ما نقوله، وأخبرته أن أغلب أجود الكتاب عبر التاريخ كانوا من أسوأ المتحدثين، وكان دليلي الدامغ على ذلك هو كون إنسان الكهوف أجاد التواصل بالكتابة حتى وهو لا ينطق أساسا، وسألته أن يتصور معي كيف كان يمكن لذلك الإنسان المنقرض أن يعبر بنقشه على جدار عن حبه مثلا أو خوفه أو سعادته أو حتى جوعه لولا امتلاكه للإحساس الصادق بما كان يخالج صدره، ويبدو أن ثرثرتي أقنعته أكثر مما فعل محتواها، وأكد لي أن مساعيه ستفلح من منطلق كونه سيكذب وهو يستعمل صدقي، ولذلك ائتمنني على العالم المستمع من حوله.

أتذكر جيدا يوم أن مات والداه في حادثة سير مروعة، كان وحيدهما، مما حدا بالصدفة وحظوظه أن يكونا أقوى ليقرباني منه دون غيره، فأنا عندما كنت أمر في نفس ذلك اليوم عبر الطريق المؤدي نحو الجريدة التي كنت أنشر فيها قصصي وفاجأني بعد ثلاث دقائق تقريبا من خوضي فيه ذلك الاشتعال الشرس والمخيف الذي أحاط بالسيارة، لم تمكني الإمكانيات والقدرات المتوفرة عندي آنذاك إلا من محاولة إنقاذ الشخص الوحيد الذي كان الأبعد عن الألسنة المشتعلة، والذي فور أن فتح عينيه بعد ثوان من ذلك عانقني بأقوى من طاقته الخائرة ليشكرني وهو يبكي ويلهث على كوني أنقذت حياته، وأنا لا أتذكر كونه لم يأبه يومها لغير نجاته إلا ويخيل إليّ أن شكره لي كان عرفانا منه أوّلا على كوني تركت والديه يلقيان حتفهما شيا في السيارة، حتى إنني أنا نفسي عندما علم بأمري مع الكتابة وعرض علي أن أكون كاتبه الخاص الوفي والمخلص ووافقت بسرعة ودون تردد، لم يكن ذلك لإحساسي بالذنب آنذاك، والتكفير بالتالي على كوني تسببت في وحدته بعدم استطاعتي إنقاذ والديه أيضا، وإنما كان بسبب المقابل البخس الذي كانت تعود عليّ به الكتابة في الأدب، وكان بإمكاني أن أكتفي بوظيفة الناسخ والمصحح المقترحة دون تفانيّ لانتزاع حقي في الإحساس أيضا، لولا أن الكتابة، حتى لو كانت بغير مقابل، هي ما سوف يجعل دائما صوت الواحد منا يتناسب مع حقيقته الأولى، كونه خلق كاتبا قبل أن ينطق.

إنسان الكهوف كان يجبره خرسه ودافع التواصل لديه على تطوير لغة حركية تلبي رغبته، ولأن تناوبه مع آخره على مهام الحياة الموزعة بين الحراسة والخروج للصيد والقطاف كان يحتم تلاقيهما قبل تبادل دوريهما فإن ذلك ظل يغنيه عن تطوير الوسائل المرئية لتواصله، إلى أن تقدم منه الكلب بدافع غريزة التكامل مسخرا نفسه حارسا للكهف، وآنذاك فقط صار لإنسان الكهوف الذي يخرج للصيد دافع التواصل عبر وسيلة غيابية مع آخره الذي يخرج للقطاف، إذ أن الاحتمال كان كبيرا بألا يتوفقا في تلاقيهما مرة أخرى قبل أن يتداولا لعدد من المرات مجيئهما إلى الكهف كل في غياب الآخر، وهكذا كان للكلب حظ من الفضل في توصل إنسان الكهوف لابتكار التدوين البدائي في شكل رسوم وعلامات تطورت، مع مرور الوقت ووفاء الكلب لمهمته بإخلاص، إلى ما صارت عليه اليوم شكلا وتعبيرا.

الوفاء كل لا يتجزأ، وشريعة غليظة يتحتم حفظها حتى لو عقدناها مع عدو، والكلب وفيّ ومخلص بالدرجة الأولى بهذا المنطق، قبل تميزه بالعض مثلا، أو بالنباح على الأقل، أو بقدرته على التعقب التي تمكنه منها حاسة شمه القوية، أو غير ذلك من الخصال الأخرى التي قد يتمكن لسبب من الأسباب أن يستغني عنها أو يعطلها لفترة في ظروف معينة، دون أن يكون وفاؤه وإخلاصه اعترافا منه بالضرورة بجميل ما، أو مقابل معروف، ولذلك سيكون الأولى هو ألا نكتفي بطرح التساؤل فقط، حتى ونحن نصحبه بعلامات كثيرة للتعجب بخصوص السبب الذي قد يدفع بكلب أن يعض صاحبه، وإنما علينا أول ما نتأمل هذا العالم الغريب أن نتمادى في صناعة غرائبيته ونتهم المعضوض مثلما قد يصنع ذلك تخييل مجنون أو متفكه فقط، فالمسألة محسومة مسبقا بنفس المنطق السابق قبل الحجة في كون المعضوض هو من بدأ باستخدام من أدوات الشراسة ما مكنه من إخراج الكلب عن وفائه وإخلاصه وطبيعته الأليفة، وليس هذا تبرئة للكلب، وإنما يمكن من منطلقه أيضا أن ندين المعضوض على كونه أجرم في حق الكلب ما دام صنع منه ما أصبح عليه في الأخير، كلبا فيه على الأقل من طبيعة البشر تقلب المشاعر وعدم الثبات على مبدأ.

بقيت لزمن طويل أنعم بعملي لدى صديقي كصديق وفيّ ومخلص له، إلى أن فكر يوما أن يسخرني لغرض كان سيخدم كثيرا مصالحه التي لطالما حسبت ألا حدود ستحبسني يوما عن تمني إسعاده من قرارة نفسي بقضائها له على أحسن وجه، وعلى الرغم من أن الدور الذي أسند إلي كان صغيرا جدا، إلا أنه كان فيه من عظمة الاحتقار للشخصية التي كنت سأتقمصها ما يناقض شخصيتي الحقيقية وطبيعتي الوفية لمبادئي أيضا وكرامتي.

كانت زوجة صديقي قد أصبحت في رأيه دون مستوى تطلعاته ونجاحاته، وبما أنه لم يكن يجد لها سببا مناسبا يمكن أن تستحق عليه الطرد ككلبة عضت صاحبها غير كونها أضحت تدخل في رأيه ضمن صنف النوع الوفي لبدائيته وبساطته فإنه خطط أن يضبطنا سويـا متلبسين في وضع صرح لي أنه كان مهما عنده أن يكون عاريا، لأن ضميره كان سيؤنبه كثيرا لو أنه قـام بطردها دون عذر قوي.

"لقد أمضينا معا ما يفوق الخمسة عشر سنة، قال لي، وقد يتساءل البعض قائلين: أبعد كل هذه المدة؟ إنه تاريخ، ماذا تغير الآن، سيقولون، لأنتبه أن علي أن أتخلى عنها فجأة هكذا؟ وقد يبدو فعلا أن شيئا ما لم يتغير، عدا تلك العلاقة بيننا والتي يجب أن تكون قد توطدت أكثر بعد هذه المدة الطويلة، ولكن لا أحد يريد أن ينتبه أن زوجتي لم تعد يافعة وشهية كما قد يجب أيضا. سأطارحها الغرام اليوم، قال لي، وعندما سأذهب كعادتي بين الشوطين إلى المطبخ بحجة تجديد قواي بعصير ستتسلل أنت إلى جوارها في الفراش، سأعطل الكهرباء لنتفادى المفاجأة المستبعدة، فزوجتي كما سترى لم يعد يسمح لها تقدمها في السن أن تتجاوز نصف غيبوبة انتشائها إلا بعد شوط ثان يُدخلها في النصف الآخر المؤدي نحو صحوتها، ولا تذهبن بك تخوفاتك بعيدا بخصوص ما قد يصدر عنها في حقك بعد أن أضبطكما، فأنا سأبقى مترصدا لأفاجئك قبل أن تلوث شرفي طبعا، وسألقي في وجهها بيمين الطلاق لأشغلها به قبل أن تفكر في احتقارك.

ما ألحقه بي صاحبي من أضرار عندما رفضت عرضه المخزي لا يمكن أن يوصف، ولكن موقفي، وعلى عكس ذلك، يمكن في المقابل وصفه بكل سهولة بأنه كان موقفا لا يسمح بأن أشتكي لجهة أعرف أنها لن تنصفني أمام المال والسلطة، وأنا لو شئت أن أقدم المثال على ذلك لأضع في الصورة من قد يراوده شك حول ما أقوله لأقبلت بكل حيلتي وسيادتي على كلبي الوفي والمخلص والأليف محرضا إياه أن يعض كلبة الجيران مثلا، سأدفعه إلى ذلك بكل الوسائل، حتى إنني قد أضربه أو أعضه، وهذا هو ما قد يلجئ كلبا إلى ما يتفاداه كل كلب، دون أن ينفي عنه ذلك وفاءه وإخلاصه، وأنا أيضا أجبرت على عض صاحبي دون أن يخرجني ذلك عن وفائي وإخلاصي، والدليل هو أنني فور أن رفضت عرضه ونويت استقالتي عدت لألعق جرحه بنفس الحزن والألم اللذان سوف أعود فيما بعد لألعق بهما جرحي الغائر الذي تسبب لي هو فيه عندما استنكر عليّ رفضي ونعتني بالكلب.

هرعت كالمطرود حتى وموظِّفي لم يكن قد أفصح بعد عن طردي، فأنا أول ما انتهى من طرح عرضه جريت محزونا ليتعقب صراخه فراري فور أن أدرك أنني لا يمكن أن أكون أقل شأنا من كلب، ولولا ما كانت تحمله نبرة صوته من معنى قدحي لنعته لكان شرفني منه ذلك.

كان بإمكاني أول ما تجاوزت باب الفيلا واستقبلتني الخضرة متلألئة تحت الأضواء الكاشفة أن أنتزع كل زرع الحديقة المترامية، وأحسست أنني أستطيع أن أقوم بذلك خلال ثوان كسيل، ولكنني حين أشرعت نيتي في وجه أول نبتة أمامي خارت غضبتي من أول محاولة فاشلة لي لاقتلاعها، لأجثو بعد لحظة صغيرة قربها جاشا وجاهشا، قبل أن ينبعث من خلفي صوت مصدرا أمره بأن أكف عن لهاثي، مستحسنا فكرة أن أتخلص دفعة واحدة من بقايا الألم الذي كان لا يزال يطوق صدري بصرخة أفرغ من خلالها أيضا سري الثقيل بكون ما كتبته تحت الطلب قبل خمسة عشر سنة من خطابات غرامية أيضا ليراسل بها سيدي زوجته إبان فترة خطوبتهما قصد التقرب منها والتماس ودها لا يمكن أن يكون في الأخير، ووفق اعتراف ضمني وسابق مني، إلا نابعا مثل باقي كتاباتي من إحساس صادق أستحق الطرد عليه.

أضع القلم جانبا ريثما أسوي الضماد في يدي لعلني أتمكن من مواصلة كتابتي دون أن يقف الألم حائلا بيني وبين ذلك، وبالرغم من أنني أعسر، واليد التي من المفترض أكثر أن تتعرض للعض هي اليمنى، فإن ذلك سيضل يعوق اليسرى بالضرورة، حتى وإن تماثلت اليمنى للشفاء، ربما لأن اليسرى هي التي تخيلت أنني ضربت بها الكلب في المثال السابق بما أنني أعسر، وكانت بالتالي سببا في تهيجه وثورته حتى عض اليمنى التي كانت تدافع، أو ربما لأن اليسرى هي التي تكتب لتترجم ألمي، وهذا ما يستدعي تألمها أولا، وأيا كان الأمر فإنه نفسي دون شك، وبما أنه على يد ما أن تتألم فإن اليد التي تكتب هي الأحق بأن تقوم بذلك، ليكون امتدادها بالكتابة وفيا وأمينا للألم الأصلي والذي لا أظن أن المراهم والضمادات السطحية ستشفيه، ولا حتى المحاولات الفاشلة واحدة بعد أخرى للإحدى وعشرين حقنة في البطن للوصول إلى الأعمق دائما دون جدوى طبعا، بما أن ألمي الحقيقي كان يختلف عن باقي الآلام في كونه لا جسديا ولا متناهي العمق وسيدا مطلقا لا أمل في الانعتاق من قبضته الجائرة، فإما أنه تأنيب ضمير على كوني تخيلت كل ذلك الشر، وإما أنه تأنيب ضمير على كوني اكتفيت بتخيلي لكل ذلك الشر.

أقاضيه؟!! سيسهب، هو السيد المعضوض، في سرد شكواه ومظلمته، بما أنه حيوان ناطق، ولعل كلبا أول ما سوف ينبح ليدافع عن نفسه فإن كل الطبقات في صوته سترعب السادة الحكام وحتى محاميه، لتثبت بذلك التهمة عليه، وحدها الكهوف ستواتيها دائما نفس جرأتها التاريخية لتكون منصفة وعادلة، ليس فقط بتوضيحها أن الكتابة هي ما قد يجعل صوت الواحد منا يتناسب مع حقيقته الأولى، كونه خلق كاتبا قبل أن ينطق، ولكن أيضا بتقديمها للإثبات الخالد بأن الكلب هو الصديق الوحيد الذي ظل مصرا على رفضه بألا تطور الطبيعة نباحه إلى ما هو دون ذلك.


[1إنسان الكهوف والكلب تعاملا على أساس مقايضة سلوكية فرضتها في فهمهما حالة الطبيعة التي كانا عليها، وكان لتوقف الكلب عند تلك المرحلة البدائية للعقل واكتفائه بذلك الحد من التطور دور في توقفه عند نفس وفائه دائما، عكس إنسان الكهوف الذي خول له تطوره العقلي أن ينتقل نحو فهمه بأن الوفاء ما عاد لدى الكلب سلوكا اختياريا، وإنما عدم فهم مستدام للشروط الجديدة التي صار يتحتم عليه بضرورتها الامتثال بالقوة لإفراط حالة التمدن الزاحفة تصاعديا وبالتدريج في ملكات وأفكار وعواطف وروح إنسان الكهوف (سابقا).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى