الأربعاء ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٤
بقلم مهند النابلسي

المفعول السحري «للانصات والاخلاص»!

متلازمة ذات دلالة في الادارة والفن والسياسة

يعاني الكثير من الناس من سؤ التفاهم الناتج عن ضعف الانصات، وفي الادارة يلعب عنصر الانصات دورا بالغ الأهمية...وعلى المدير الناجح أن يبذل جهدا لتحسين مستوى انصاته لمستخدميه، وبالتالي تقبل اراءهم اذا كانت عملية ومنطقية.

لقد تبين عمليا ان العمال والمستخدمين العاملين تحت امرة مدير يحسن الانصات، ينجزون العمل المطلوب بصورة منافسة عكس هؤلاء الذين يعملون تحت اشراف مدير لا ينصت، فالعمال الذين يعلمون بأن مديرهم ينصت لهم يفكرون بطريقة ابداعية ناقدة، كما يعطيهم ذلك شعورا حيويا بالثقة، ويحفزهم لكي بستنبطوا أفكارا جديدة تساهم في تحسين العمل.
يعتبر الانصات فنا رفيعا من فنون الاتصالات الأساسية، وله مفعول سحري في مجال تطوير القدرات البشرية وتعميقها، وعند افتقاده يسود الملل والاحباط وينخفض مستوى الثقة بالنفس، فكلما شعر المرء بتجاهل أرائه كلما قلت رغبته بعرضها، كما يقل اخلاصه وتفانيه، وقد يتوقف عن التفكير النقدي البناء، وتفقر مخيلته، وقد يتبع ذلك تراجع واضح في امكانات التطوير المهني والشخصي!

ولا بد أن الانصات سيصبح تحديا كبيرا لدى المدير الذي يشعر أحيانا بضحالة الأراء المقدمة، الا أنه من المهم أن ينصت، فالانصات يشعر المستخدمين بأنهم يؤخذون على مأخذ الجد من قبل الادارة، وهو كفيل بأن يخلق مع الزمن نوعا من "الحكمة الجماعية " التي تكفل بتجنب المزالق والمطبات الخطرة. وحتى يشعر الجميع بالمساهمة في اتخاذ القرار الصائب، يفضل تجنب صيغ الأوامر المباشرة من نمط: "افعل ذلك!"، وبدلا منها يمكن ان تصاغ هذه العبارة كما يلي " نشعر بأن الأقضل أن نفعل ذلك، ما رأيك؟!". لقد ثبت بأن الناس يقدمون أقصى طاقاتهم ويستمتعون بانجاز الأعمال عندما يشعرون بحرية اتخاذ القرار والتنفيذ والمسؤولية، لذا فمن الضروري بناء اجواء احترام للأراء المختلفة التي تخلق وتثير الابداع والمخيلة . الانصات الجيد عنصر أساسي من عناصر الديموقراطية في الدول المتقدمة ، كما انه عنصر هام جدا في كافة مناحي الادارة الحديثة، ويتطلب الهدؤ والتحلي بالصبر ، كما انه يتطلب التخلي عن الغرور والأنانية واحتكار الصواب. وقد ثبت ان الانصات أصعب من الحديث لأنه يتطلب التركيز والتفكير والتحليل، ويعتبر وسيلة تلقائبة للتعلم وتلقي الأفكار والاقتراحات بطريقة تفاعلية-بناءة.
اكتشاف تيمة الاخلاص في الفيلم الفنلندي: " أضواء في الغسق "!

في الفيلم الرائع "أجواء في الغسق" (الذي ترشح للسعفة الذهبية في مهرجان كان / 2006) للمخرج الفنلندي "أكي كيروسماكي "، يراهن رجل الأعمال الشرير على سذاجة وبراءة الحارس الليلي المسكين "كويستينين"، وانجذابه العاطفي لشقراء ماكرة لكي ينفذ جريمة سرقة كبيرة لمحل مجوهرات، فعندما تسأله الفتاة (المأجورة) فيما اذا كانت ستنجو من تهمة المشاركة بالسرقة، يجيبها بثقة لافتة:" تكمن عبقريتي بمعرفتي لشخصية الحارس المخلصة والرومانسية، لذا فهو لن يشي بك أبدا وسيتحمل كامل المسؤولية! "، وهذه النقطة تحديدا التي ترسم سينايو الحبكة السينمائية، تغافل عنها معظم نقاد الفيلم، وهي باعتقادي النقطة المحورية في هذا الشريط السينمائي المميز، لأن مسار الأحداث كله كان سيأخذ منحى آخر لو قام الحارس الليلي بالوشاية وقول الحقيقة (كما يتوقع المشاهد)، حتى انه لم يخبر الشرطة عندما شاهدها (من خلال المرآة)وهي تدس المفاتيح وعينة من المجوهرات تحت الوسادة في أريكة منزله، وذلك امعانا في توجيه تهمة السرقة له! في الخلاصة فالتركيز والانصات يقودنا هنا لاكتشاف تيمة الفيلم الحقيقية، التي تركز على عنصر "الاخلاص"، فأيلا البائعة المتجولة مخلصة في حبها الاحادي لكويستينين، وهذا الأخير بدوره مخلص في حبه الاحادي ايضا للماكرة الشقراء ميرجا (بالرغم من كشفه لها)، وهو كذلك والفتى الافريقي البائس مخلصان في تعاطفهما مع الكلب المشرد (مغزى وجود الكلب كحيوان معروف باخلاصه الشديد لصاحبه!)، وقد لاقى كويستينين الضرب والسجن لسنتين اخلاصا لحبه وسمو اخلاقه، لقد برع بالحق كيروسماكي بكتابة واخراج وتصوير هذا الشريط المميز، وكاد ان يتماهى مع عبقرية المخرج البريطاني الشهير الراحل ألفريد هيتشكوك، الذي برع بهذا النوع من السرد: عندما يدان البريء المخلص وينجو الفاعل، بل تجاوزه برسمه لأجواء الوحدة والعزلة والتهميش والاقصاء التي عانى منها الحارس الليلي، ومع ذلك فقد شدنا بالتصوير الآخاذ والموسيقى والأغاني الرومانسية الحزينة لكي ندخل في حياته ونتعاطف مع رغباته وكفاحه وحبه للحياة بالرغم من معاكسة القدر له وسؤ طالعه!

"الاخلاص و الانصات " في السياسة

هكذا نعود لموضوع الانصات الملازم دوما للتركيز، فهو الذي يقودنا بالتأكيد لفهم خفايا الامور في كافة مناحي حياتنا، ولقد صدق المثل العامي عندما وصف النقاش العاصف الحاد (كما نلاحظ في برنامج الاتجاه المعاكس بمحطة الجزيرة) ب"حوار الطرشان"، حيث لا مجال لأن ينصت طرف لما يقوله الطرف الآخر، وانما استعراض احادي عصبي لوجهات النظر مدعوما بأدلة محضرة مسبقا، ولا ارى حقيقة ما المغزى الواقعي من برنامج كهذا، سوى اثارة الهيجان والتعصب، وربما بغرض توجيه المشاهدين خفية لتقبل وتبني وجهة نظر محددة بغض النظر عن صحتها!

يستخدم في التعبير (الانجليزي –الأمريكي) اصطلاح بدلالة لافتة وهو (Bottom-Line ) ويعني التقاط " المغزى الأساسي" من اي طرح، ويتطلب هذا تركيزا كبيرا وانصاتا لاستخراج المغزى، وأظن ان معظم النخبة العربية لا تميل كثيرا للتركيز على هذا المفهوم، من هنا نلاحظ ان معظم حواراتنا ومناظراتنا "طافحة " بالاحتقان والتشنج واحادية الطرح مثل " حوار الطرشان "! كما أنها تنسجم لحد ما مع الثقافة الدارجة التي تحتكر الصواب وتحتقر الرأي الآخر!
وما احوجنا في اجواء ما يسمى "الربيع العربي" الصاخبة لتعلم كيفية تطبيق ما اسميه اصطلاحا " متلازمة الاخلاص والانصات "، فالاخلاص يقودنا للصدق والالتزام والنزاهة وتكريس الطاقات والجهود لبناء نظم الحكم الجديدة بديلا عن الدكتاتورية والفساد والمحسوبية، كما أن الانصات هو الفن الرفيع الذي سيخلصنا من الفوضى والتخبط والعشوائية، حيث يسمح لكافة الأطراف المعنية مع اختلاف توجهاتها، لسماع كافة وجهات النظر بهدؤ وروية وتأمل، ربما للعمل معا للخروج بحلول توافقية-منطقية –عملية ترضي جميع الأطراف، وتعطي الفرصة للحاق بركب التطور والحضارة الانسانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى