الجمعة ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٤
قراءة في

رواية «طوق الحمام» لرجاء عالم

عبد المطلب عبد الهادي

" من يجرؤ على كتابة زقاق كأبو الرووس غيري أنا، أبو الرووس نفسه، برؤوسه المتعددة. أنا الزقاق الصغير ... " (ص : 7 )

بعد القراءة ..
رواية " طوق الحمام " رغم عدد صفحاتها التي تجاوزت 560 صفحة، ورغم التعب والإرهاق والتيه الذي خلفته قراءة هذه الصفحات .. إلا أنها وضعت الأصبع على حالة هي تيمة الرواية، تمر علينا نعتبرها تغييرا أو توسيعا أو إضفاء جمال على مكان، وهي في حقيقتها زجُّ إلى النهاية والمحو..

" طوق الحمام " علامة تجرأت لتقف فوق أرض بدأ يزحف إلى فضاءاتها الهدم والتيه والنسيان، وهي التي عرفت خطوات من القداسة ما يجعلها محجا ومزارا..

" طوق الحمام " أتعبتني وأنا أجوب فضاءاتها وأتتبع سيرها وأفك أسرارها وعلامة إكس الحمراء لا تفارق خطوي، بل تجعل السؤال وخزا يعيدني إلى حقيقة الحكي: الهدم والنسيان والمحو..
العلامة ..

علامة إكس حمراء، بداية لمحو فضاء تهدده كاسحات وألات ضخمة تجوب عوالمه لتحيله عدم .. هباء.. في حين يسعى آخرون في الجهة الأخرى من البحر المتوسط حيث ينام الفردوس المفقود هادئا مطمئنا يحكي تاريخا يجر أسرارا وأحلاما، إلى إحياء فضاءات ـ لا تحمل ذواتهم حين يضعون علامات غير التي تُغرق أجواء مكة،ليضفوا عليها ـ من الجمال كما يزعمون ـما يطمس عبقها العربي والإسلامي لتُصبح فردوسا آخر غير الذي كان..

علامة إكس حمراء، نهاية لتاريخ كان بالأمس حاملا لعلامات تشع نورا وإيمانا حين كان الحجيج يأتون تدفعهماللهفة إلى احتضان فضاءات تحمل من الإيمان ما يقربهم إلى الله..ومن الحب ما يدفعهم إلى التبرك حد التمسح بالدور والأبواب والستائر.. وتجعلهم ينظرون بقلوبهم إلى أرض تحمل من الأثر ما يدفعهم إلى الاعتقاد والإيمان ..

علامة إكس حمراء، بداية لنهاية تاريخ بالأمس كان يحمل أكثر من معنى وأكثر من علامة داخل نفس الإنسان الذي ينشد النور يُضيئ بين جوانحه طلبا للراحة والتقرب واللقاء، ومدى يمتدُّ بلا انتهاء تسرح فيه الروح صاعدة إلى الملكوت الأعلى وتعود وقد لفها العشق والسكون، لكنها الآن حين تجوب دروب مكة وأزقتها تصدمها علامات إكس الحمراء التي توالدت كالفطر المسموم لتقف بها إجباريا، متحسِّرة على ماض اتكأ على علامة تحمل في طياتها خرابا ودمارا وتشويها ...
حين يُصبح الفضاء بطلا ..

الفضاء في " طوق الحمام " ينسلخ من جموده، من أزقته، من شوارعه ودُوره.. ليُصبح واحدا من شخوص الرواية، بل أهم شخوصها فيتأنسن وتزرع فيه الروح فيحيا، يحب ويكره.. يبكي ويفرح .. يحاور ويهمس.. " أنا ابو الرووس أتبرأ من كل هذا .. "(ص ـ8)..

تكثر علاماته "الإكس" الحمراء لون الدم، إيذانا بموته، فيثور ويغضب ضد عدم الصلاحية " شد على الكيس بيده وصعد، عينه تذهب للقطات لأبواب بيوت معلَّمة ب (X) حمراء، علامة عدم الصلاحية للسكنى.." (ص 414 و 415).
الفضاء يحاول أن يتشبث بالحياة حين طاف على حوافيه وبداخله طائف الهدم والاجتثاث تحت طائلة التوسيع والتحديث وهو الفضاء الذي لا يبحث من التحديث إلا ما يُزهر قلب المؤمنين الزائرين، في حين هناك، بعيدا، فضاءٌ آخر ميت يسعى إلى النهوض من الرماد وبعث الروح في أركانه وفي الخطوات التي عبرته قديما واسمةً جوانبه بمسوح مسيحية تصل حد العداء ضد على الثقافة العربية والإسلامية بدعوى النهوض بالسياحة..

تستشعر الموت وأنت تجوب فضاءات الرواية وعوالم الحكي، موت بصيغة الجمع،" الأرض تتشبع بالموت " (ص ـ 439 ).. " الموت في مكة وصول ونهاية " (ص ـ 439)..

الموت عباءات سود تُخفي معالم الجمال وتوقف نبض الحياة المتعطش للبياض والنور والانطلاق..
الموت علامة إكس حمراء.. وقفٌ لحياة وتشويهٌ لخطى لا زالت تبحث عن موقع قدم تؤكد صلاحية المكان.. بل نورانيته وقدسيته..

الموت أوراق تحبل بالأسرار، ودفائن مكنونة في غياهب الذات، ونوافذ مشرعة من جريدة " أم القرى " تحكي أسرارا رقاقا تختزن تاريخا قديما يبوح ببعض السر ويخفي الكثير، بل تختفي الرقاق ومعها الحقيقة..

الموت مرض عضال، سرطان يجوب جسد "خليل" يأكله من الداخل ويسير به وئيدا نحو النهاية رغم إعلان الحرب عليه..

الموت انتحار، وقف للحياة عبر الارتماء من عل ساحبا معه السر، تاركا المحقق "ناصر" وآخرون يبحثون عنه بين النوافذ والرسائل والرقاق والأسئلة، بين الاتهام والنفي.. بين الرسوم والوصايا..

بهذا المعنى الكبير والعميق، يسير الموت فاردا جناحية من بداية الحكي إلى منتهاه، من علامة إكس الحمراء إلى حدود المحو والتشويه الذي يستعر معه لهيب النار فتحصد الأوراق والذكريات وينهمر الدمع غزيرا يُنبئُ بالنهاية..
أليست النهاية موتا ؟

"طوق الحمام" حكي يتلو أسراره من نوافذ وأوراق وأبواب بلا مفاتيح مشرعة على الآتي الذي يحمل الموت علامات كما يحمل الدمار تشويها لمعالم وفضاءات وسمت وتسم الزائرين والعاشقين باليقين الذي ينفتح له المدى ليعم النور أو ما تبقى منه..

كيف للأبواب أن تنفتح والمفاتيح تسافر قاطعة المسافات رسما وتجسيدا وحكايات ؟

كيف للنوافذ أن تُطل على الحقيقة والكلمات المُلغزة تطمس ضوء الحروف تغلفها العتمة والتيه ؟

كيف للرسائل أن تبوح بأسرارها وهي تستعصي لحد رفض تسليم عوالمها إلا لمن ملك السر ؟

كيف يملك السر من تهدده علامة (X) حمراء ؟

كيف لمدينة أن تصمد أمام العلامات الحمراء المؤذنة بالخراب والدمار والتشويه وعدم الصلاحية ؟

تلك أسئلة اخترقتها الكاتبة بقوة لتعري حالة/حالات تحتلها علامات الموت، وتهددها بالمسخ حين يسعى الآخر إلى بعث الروح في فضاءات كانت علامة على تواجد قديم عامر بالعشق والحب..

"طوق الحمام" علامة بارزة، قوية تنذر قبل وقوع الكارثة، صوت ـ عبر الحكي ـ يسير مشعا ليفضح الظلام والعتمة التي تزحف ببطء لتغيير فضاءات تحارب التيه والمحو بالإيمان والبحث والصراع والسؤال.. ولذيذ الحكي..

عبد المطلب عبد الهادي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى