الأحد ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠١٤
رُؤى ثقافيّة «116»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

العَدَمي! (2-2)

تدلّ ظاهرة بدأ الجمل بـ«إنّ»- التي نجدها على نحوٍ لافت في كتابات (عبدالله القصيمي)- على اعتقادٍ راسخٍ لدى القائل بما يقول، وجزمٍ لا يخامره ارتياب. وهذا يناقض ما يتقمّصه من شُكوكيَّة. هو بهذا إنما يقرِّر، ويُصدر الأوامر والأحكام، وينشر البيانات «الانقلابيّة»، ولا مجال لديه لأن يتأمّل، أو يُجاول الأفكار، ويبحث، ويناقش، ويتساءل، ويشكّ؛ فالنتائج لديه قد باتت معلومة محسومة، لا يُرينا فيها إلّا ما يرى، ولا يَهدينا إلّا سبيل الرشاد. ولذا تراه ما ينفكّ يتوخَّى غرس خلاصات ما توصّل إليه، ممّا يخاله حقائق مطلقة، في ذهن المتلقّي، مستخدمًا مسمار «إنّ»!
وهذا الخطاب الواثق جِدًّا- المتسلّح بـ«إنّ» دون أخواتها- يذكِّرنا بعيبٍ بلاغيٍّ أثاره قديمًا (خَلَف الأحمر) على «إنّ» (بشّار بن برد) الشِّعريَّة، حيث قال:

بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبلَ الهَجيرِ ** إِنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التَّبكيرِ

فقال له خَلَف:

 «لو قلتَ، يا أبا معاذ، مكان «إنّ ذاكَ النَّجاح»: «بَكِّرا فالنجاح» كان أحسن.»
فقال بشّار:

 «إنما بنيتها أعرابيَّةً وَحْشيَّةً، فقلت: «إنّ ذاكَ النَّجاح» كما يقول الأعراب البدويُّون، ولو قلتُ «بَكِّرا فالنجاح»، كان هذا من كلام المولّدين، ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة.»

أجل، هي أعرابيّة، وَحْشيّة، بدويّة، تقمّصت الفكر والتمرّد؛ فكان فكرها كذلك أعرابيًّا وتمرّدها وَحْشيًّا، وخطابها بدويًّا، أقرب إلى فتكات الصعاليك، وصيحات قُطّاع الطرق، منه إلى لفتات الفكر المتسائل والذهن النقدي الموضوعي.
ويمثِّل كتاب القصيمي «فرعون يكتب سِفر الخروج»، على سبيل النموذج، «ظاهرة صوتيّة»، لعلّها لم يسبق لها نظير. فالعَين عمياء إلّا عن تفاهات يراها المؤلِّف ويظلّ يُحدِّق فيها. ولا يُنكِر أن لعَينه وظيفة رؤيتها، التي يقترفها الإنسان، بظُلمه لنفسه، ثم يتنصَّل عنها، مُدَّعيًا البراءة، وأنه مغدور، مظلوم، مستهدَف؛ فإذا هو لا يكفّ عن العويل، والتشكِّي من هذا الكون، الذي لم يأت وَفق هواه ومقاسات أحلامه. مردِّدًا في هذا الكتاب وفي غيره الشكوى من الذُّباب، والتبرُّم بخَلق الحشرات، وبخاصَّة الصراصير! ولا ندري، على هذا، أين كان يعيش؟! غير أنه في كلّ ذلك يجأر ممعنًا في عَدَميَّةٍ فاجعةٍ، تُثير الشفقة حقًّا.

ما أعجب أن يقف العقل باسم العقل ضِدّ العقل، كما تمثَّل هذا في ذلك الكتاب! وهو- في مفارقةٍ ساخرة- إذ يُنكر كلَّ شيء، وينفي جَدْوَى كلّ شيء، ويرفض السببيَّةَ في أيّ شيء، والحكمةَ من كلّ شيء، لا يُنكر عقلَه هو، ولا ما يمليه عليه من أسئلة، انحدرت سنين ضوئيَّة عن أسئلة كتابه الأقدم «الصراع بين الإسلام والوثنيَّة»، أو كتابه الفكري المعمّق «هذه هي الأغلال»؛ لأنه قد غَلَّ نفسه هو بعد كتابه ذاك بأغلال لا تقيِّده فقط، بل تمحقه محقًا، وتمحو قيمته الفكريَّة محوًا! وإلّا فلو كان خطابه يحكمه منطق، لكان أوَّل إجراء يتَّخذه- وفق منطقه اللا منطقي- أن يُنكر عقلَه نفسه، ويصمت إلى الأبد؛ إذ لا معنى، لمؤمنٍ بالعبث المطلق، أن يظلّ يجأر بالويل والثبور والنقد لعبثيَّة الكون، ما دام يعتقد أن الأمور عبثٌ في عبث!
الإيمان بوجود العقل إيمانٌ تلقائيٌّ بوجود الله وحكمته، والكفر بأحدهما كفر بالآخَر.
والكفر بوجود الله، أو السبب الأوّل، هو في الأساس كفر- بَعْدَ العقل- بالعِلْم كلّه، القائم جوهريًّا على البحث عن السبب والمسبِّب.

أين هذيان القصيمي، إذن، من فكر فيلسوف جادٍّ كـ(إيمانويل كانت Immanuel Kant، 1724- 1804)، في كتابه «العقل المحض Kritik der reinen Vernunft»؟ أو حتى من (فولتير Voltaire، 1694- 1778)، قبل ذلك، الذاهب إلى أنه: «لو لم يكن الله موجودًا، لكان من الضروريّ اختراعه»؟! ذلك لأن الكفر بالله، بمعنى الإلحاد، هو كفر بالإنسان نفسه(1).

إنه فكر غير فكريّ، ولا عِلْمي، ولا عقلانيّ أصلًا. وهو- في الغالب- غير أخلاقيّ أيضًا. أمّا حين يكون- إلى ذلك كلّه- وريث تركةٍ من الخواء، والمحاكاة، والمماحكة، والتبعيَّة، والعُقَد النفسيَّة، والاجتماعيَّة، والحضاريَّة، فنارُه لا تورِّث حينئذٍ سوى الرماد، وعَدَميَّته لا تُعْدِم إلّا نفسَها وصاحبَها، بنفسها وصاحبها، كما حذَّر (الفيلسوف الألماني فردريش نيتشه، 1844- 1900) من ذلك المصير. ويُعدُّ نيتشه، ولا سيما في كتابة «إرادة القوّة»، مؤسِّسًا رئيسًا في تيّار العَدَميّة العالميّة. لكنه القائل: «لقد حصل التناقض بين العالَم الذي نبجِّله والعالَم الذي نعيشه، الذي نشكِّله نحن. ولا يبقى أمامنا سوى أمرين: إمّا القضاء على تبجيلنا، وإمّا القضاء على أنفسنا بأنفسنا. وهذه الحالة الأخيرة هي العَدَميَّة.»(2) ما يعني، إذن، الفرار من «العَدَميَّة»، لا إليها. أي الفرار من «العَدَميَّة»- المتمثِّلة في القضاء على أنفسنا بأنفسنا- بالقضاء على التبجيل لقِيَمٍ فارغة، لم تعُد صالحة للحياة، في مطمحٍ إلى قِيَم جديدة. وليس بمثل ما يسود الخطابَ العَدَمي العربي من اللغو اللفظي، والتهافت الفكري، والانتهازيَّة الإديولوجيَّة والسياسيَّة. حتى إذا أشرقت الأرض بنور ربّها، تكشّفت وجوهٌ، كانت تتقنّع بالثوريَّة الفكريَّة، عن أصوليَّةٍ جديدة، هي أَدْهَى وأَمَرّ.

(1) التفريق هنا بين مصطلحَي (الكُفر) و(الإلحاد) أمرٌ لازم في مثل هذا المقام، فلقد ينكِر إنسان النبوّة، مثلًا، فيصحّ وصفه بالكُفر بهذا النبيّ أو ذاك، لا بالإلحاد؛ لأن الإلحاد- بمعناه الذي ينصرف إليه الذهن غالبًا- هو نكران وجود الله، أو نفي صحَّة الإيمان بإله: Atheism. ومن الغريب أن يقع في مثل هذا الخلط (عبدالرحمن بدوي) في كتابه «من تاريخ الإلحاد في الإسلام»، فسلك فيه أسماء شَتَّى، من (ابن الراوندي)- الذي تقلَّب بين الاعتزال، فالتشيُّع، فالطعن في الأديان، في مراهقة فِكريَّة ومتاجرة طائفيّة، وقد توفي في شبابه، نحو 298هـ= 910م- إلى أسماء أخرى مؤمنة بالله، غير أنها تمجِّد العقل، أو تقول إن الله يُعرف بالعقل- كما هو تعبير الناس الدارج- أو حتى تناقش أمر النبوّة، كـ(أبي بكر محمَّد بن زكريّا الرازي، -313هـ= 925م)، وغيره. على أن كتاب الرازي «الطب الروحاني»، ينفي عنه إنكار النبوَّة. ولا ننس أن تلك التُّهَم كثيرًا ما كانت تُسكّ بين المتعاصرين لخصومات بينهم، أو تُصطنع لخلافات سياسيَّة، فيتلقّفها المتأخِّرون، بلا تثبُّت ولا تدليل مقنع. وهذا ما وقع بين الرازيَّين، أبي بكر وأبي حاتم. (انظر: مقدّمة التحقيق لكتاب الرازي، بقلم المحقِّق عبداللطيف العيد، (1978)، الطب الروحاني [و«الأقوال الذهبيَّة» للكرماني ومعها «المناظرات» لأبي حاتم الرازي]، (القاهرة: مكتبة النهضة المصريَّة)). والقرآن لا يتحدّث عن ملحدين (بذلك المعنى العقدي)، ولكن عن مشركين وكافرين، مشيرًا إلى أنهم جميعًا مؤمنون بوجود الله. حتى الدهريُّون، الذين قالوا: «ما هِيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، نَمُوتُ ونَحْيَا، وما يُهْلِكُنَا إِلّا الدَّهْرُ»، [الجاثية: 24]، من غير الثابت نفيُهم وجود الله بالكليّة. و(فرعون- موسى) حينما قال: «يا أَيُّهَا المَلأُ، ما عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فأَوْقِدْ لِي يا هَامَانُ على الطِّينِ، فاجْعَلْ لي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى، وإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ»، [القصص: 38]، لم ينف الأمر بالكليّة، بل أَخبرَ عن جهله، وظنِّه، وشكِّه، وتطلُّعه للبحث، والتأكّد من احتماليَّة صدق موسى. وحين يقول: «ما عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي»، فإن معنى «الإله» هاهنا- ولدى قدماء المصريِّين في نعت عظمائهم- ليس بـ«ـموجِد الكون»، وما كانوا بمجانين ليتصوّروا مثل هذا. وبدليل أنهم قد قدّسوا الشمس، واتّخذوا آلهة أخرى متعدّدة. وكأنما ظاهرة الإلحاد المطلق لم تكن قائمة في تلك العصور، وإنما جاءت نتيجةَ اغترار الإنسان بعُلومه وفلسفاته في العصور المتأخِّرة، مع عوامل اجتماعيّة وحضاريّة أخرى.

(2) (2011)، إرادة القوّة: محاولة لقلب كلّ القِيَم، ترجمة: محمّد الناجي (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق)، 11.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العَدَمي! (2-2)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 16 يوليو 2014، ص23].


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى