الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٤
قراءة في ديوان
بقلم البشير البقالي

تأتي بقبض الجمر

لأحمد بنميمون

إن ديوان «تأتي بقبض الجمر» أفرغ علينا ثلاثاً وأربعين قصيدة أشبه بالطلقات، كل طلقة بوقع جمرة، تحترق فينا دون أن تشتعل، جوهر هذه الطلقات بسيط في نبعه ورؤياه، لكنه عميق أيما عمق في لفحه وحفره، يحفر فينا، وفي الزمن والتاريخ والوجود. ومضمون هذه الرؤيا أن الشاعر يناجي القصيدة في زمن عز فيه القصيدُ، وقامت الكلمة حائرة ومترددة ومسائلة للهوية. هكذا ينفتح الديوان على سياق إنساني أرحب يمتد ليلامس الوجود. فكيف عرَّت القصيدة مجاهل هذا الوجود؟
***
أولا: أزمة قصيدة أم أزمة وجود؟

يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة "أغنية النهار الآتي" وهي قصيدة فيها كثير من حس التواطؤ، يستدرج القارئ إلى دلالة مفارقة، على اعتبار أن استشراف النهار الآتي فيه تلميح إلى الليل القائم، كما أن الأغنية ليست دائما مُطربة ومُفرحة، إنما قد تكون مُشجنة ومحزنة، وتظهر هذه المفارقة في ثنايا القصيدة، فالليل داء ومنفى ولا يهجس عن فجر بومض، وهو أيضاً ظلام وخوف واغتراب وفجيعة، فيما النهار مبتغى ورغبة واختيار وشرارات، نقرأ في القصيدة:

الحاضِرُ لا يهجس عن فجر بومض،
والضياء ارتدَّ عن دربي، يا هذا حجابي عارضٌ
يسَّر لي غيثَ إله
لستُ بالطامع في استدرار ما تسدي يداه
أذهب الآن وحيداً خوف طيش السهم أن يهوي إلى
أعماق رُوعي في انثيال").(ص7)

لكن جموح الرغبة في النهار الآتي يصطدم بجدارات من الصدمات، وألوان من الاغتراب والهزيمة والضعف، أولى هذه الصدمات جسدتها قصيدة "لغة ضائعة"، إذ توميء إلى افتقاد زاد النهار، حيث الماء غاض والنهر ذكرى، ولا سطوة إلا للنار والظلماء، ليعلن الشاعر اندحاره أمام الأكف الرملية حيث يندحر الموج. نقرأ في القصيدة:

أضواءُ تكمن بين أوراق فقدتُ لغاتها،
شُلّتْ شفاهٌ ضيّعتْ لغةً تضيءُ،
فتلك كفُّ الموت تدعو الموجَ
يحملُ قارَباً في الليل في تيار أهوال اندحاري). (ص9)

هكذا يستمر الليل ويستمر الإبحار في الفجيعة والغربة والهزيمة أمام اللغة التي جاءت كناية عن القصيدة. وتبدو المعادلة واضحة الآن؛ فمثلما تطمع الذات في النهار فإنها بشكل محايث تطمع في ضوء اللغة ونور القصيدة، هكذا يقترن وعد النهار الضائع بوعد القصيدة الضائعة. غير أن الشاعر يقترح لنفسه بديلاً في قصيدة "البديل" حيث نقرأ:

تراتيلي إذنْ للأرض، يا كف انبعاثي
إنني معكم جماعة من أحبُّ
وثورتي وحدي، ووحدي
هل أزيحُ الموت عن كفني،
وأهلٍ أثخنوا شيعاً؟ شرائعهم كمائن في ضمير الليل،
إن قاموا يخفَّفْ من بلائي). (ص10)

وقد اختار الشاعر السير وحيداً بسبب أن القصيدة في هذا الليل أعلنتْ حيادها، والأنجم صارت لا تضيء، وأوفيليا القصيدة خانت القصيد، نقرأ:

وتخادع الملحون أوفيليا القصيدة
فهْيَ تشعلُ كذبة لفراشة،
ولها اصطلاء حيادها
ـ إمَّا تضل نداء حشرجةٍ ينوء بصدقها جُوفُ الرجال ـ
بموْت أزهار كِفاءَ خديعة
أوحى بها كيْدٌ
تماهَى في هُويتها وسيفُ حيادها في القلب). (ص12)

هكذا يتبين أن حياد القصيدة جزء من ظلام الليل القابع في الوجود وفي النفس، وجدار آخر من الصدمات التي تعاكس النهار الوعد والقصيدة الوعد.

إن حياد القصيدة واكبها، جدليا، حياد من نوع آخر يدينه الشاعر، بدءاً من الذات التي تتفاعل بسلبية وحياد مع الظلم والظلماء، وتكتفي بمجرد الآه، وها هو ذا الشاعر يدعوها إلى الفعل:

والآه لا تكفي،، فيا كفي استجيري بالزناد: النار ناران،
فإما طلقة تسطو،
وإما جولة للنور في نفي سوادٍ
علَّ من عاث فسادا في بلادٍ يتهاوى في بلادي. (21)

وفي قصيدة "شعاع" امتداد لهذا المعنى، إذ يأمل الشاعر أن ينفجر شعاعاً، وأن تخضرَّ الأرض والحلمُ ويعمَّ السنا، غير أن حلم السنا يتكسر أمام "كف حمراء" تسفك أو تحرق دون أن يحرك الشاعرُ ساكناً، فيدين نفسه على صبرها أمام جرائم هذه الكف الحمراء. يقول:

وتمرّ فأغضي، وبعين مغمضة سأقضِّي
الباقي من عمري قسراً،
منتظراً من عبق استشهادي،
دعوة جنات تؤويني
وتحررني من رعب متاهٍ. (23)

ولا يكتفي الشاعر بالإدانة فقط، وإنما يُضَمِّنها سخرية مريرة تستفز الوجدان وتستحثُّ كوامنه. وسرعان ما تتحول الإدانة من الذات إلى التاريخ؛ تاريخ ملوّث بالهزيمة، من خلال قصيدة "بين مساء وصباح" التي ترسم حنيناً مريراً إلى الأندلس وجرحاً غائراً تجاه غرناطة التي أغلقت الأبواب.

وأمام فظاعة الواقع وسوداوية الهزيمة وعقم التاريخ، يُضطر الشاعر إلى "استسقاء"، وهو عنوان قصيدة، استسقاء تصلي فيه الفراشات طلباً للغيثِ وخصوبةِ الفرح. غير أن الاستسقاء لا يستجاب، لأن آلهة الشاعر تمعن في إقصائه، فيستسلم إلى استعطاف القصيدة أن تنضبط وألا تحمله أجنحة النسور كي ترضى عليه الآلهة، لكنه يرتجّ ويتساءل في حسرة عمن أطعم السفح ثمار الخوف، بدل أن يطعمه ثمرات ممتعة يخضرُّ بها القلب، وتطير الأقدام. وهكذا يواصل الشاعر رحلته الموحشة في طريقه الليلية التي تزداد طولاً وامتداداً، من خلال قصيدة "عبر الأرض البوار"، حيث صوّر أرضنا وقد جف فيها البهاء، والسفح مرتع واترين، على حد تعبير الشاعر:

لا يسمعون أجيج غيظ أو صدى
وأنا اندفاع فراشة نحو الشرارة
في اصطراع رد أوهامي هُدىً
أعلنتُ منطلقي انهماري في المدى
لأبرعم الثورات أرفع عيون اليأس تعتيماُ، بزخات الجلاءْ...
وأرود أزمنة التحوُّل مشعلاً بدمي
جنون الحلم أمضي شاهداً
لأزيح وهم الغِرِّ منذ البدء من ذل الولاءْ
فمتى أسدِّدُ طلقتي؟
حلمي يفجرني وصمتي ارتدَّ في شفتِي نداءْ
من صيحتي ينشق حلْمُ نبوءة التحرير
يلهم جيليَ الأملَ المضاءْ. (34ـ35)

إن الإدانة الموجهة إلى جماعة القوم على استكانتهم جعلت الذات تعيد النظر في علاقتها بالقوم والتاريخ والواقع والقيود وطوفان العقم، في حوار درامي مع الأب، حيث نقرأ في قصيدة "حصاد العقم والبهاء":

بعدنا الطوفانُ
أشهد أن طوفان القيود وراءنا
وأمامنا سكرات صحو..
لا السكارى يذهلون ونحن نُشدهُ إذ نشاهدُ في المرايا
واعظ الترهيب يعوي...
يا أبي..
ـ أسكت ودعني واذهبنْ
وافتح بقولي مذهباً
ـ لا يا أبي...
إني أرى أني سأبدأ بانسحابك مذهباً
ليضيء وجه الأرض يزهو أيَّ زهوٍ.(46ـ47)

وهو حوار فيه تداخل بين صوت الأب وصوت الإبن؛ حوار تتفجر فيه المرارة بأن يقتل الإبن أباه. لكن الشاعر يمضي في طريقه باحثا عن قصيدته الفاتنة، إذ يقول:

سويداء فؤادي لن تطلع حتى تحيا
في سيدة الحركات
لغة الإعجاز القادرة السحر
الواهبة الأمنية
فيما سوف تخط يداها
سترِفّ بكل بهاء
إبداعاتي في لغة الآتي. (ص49)

في هذا المقطع يتجلى أن الذي يمنع القصيدة الوعد هو الواقع المظلم المرير، ولن تكشف القصيدة عن نبضها ونورها إلا بزوال الظلام والركون والقناعة. كما تُشاطر اللغةُ النهارَ في صفة "الآتي"، ليتأكد أن القصيدة المنتظرة نهارٌ، وأن النهار المنتظر قصيدة، فهما توأمان سياميان.

غير أن دائرة الظلام تتسع أكثر في قصيدة "مشاهد من سنة الحجارة الأولى"، فرغم أنها كانت أول الغيث، حيث الطفولة تنحِتُ من الصخر رؤى الآتي، وكف الطفل تأتي ببشرى، إلا أن العدو دق آخر مسمار في نعش الأسطورة، وأضاف ستائر أخرى من ظلام ليل يتسع مداه ويطفئ حلم القصيدة.

نقطتا ضوء في الديوان: الأولى قصيدة "بيسان" التي سطعت كنجم في سماء الشاعر، أضاء فأسعفه في تحديد مكانه في الأرض واتجاهه. وهي قصيدة قصيرة تركت بياضاً شاسعاً في الصفحة دلالة على النور. لكنه نور أضاء الفجيعة الإنسانية وحرك مشاعر الأب لرؤية المجاعة في السمراء، كناية عن إفريقيا. ليقحمنا الشاعر في ظلام أبعد مدى من خلال إدانته للإنسان في خوائه. ففي قصيدة "صور الموت الجديد" تسقط الآمال وتخبو شرارات النور. وتنتهي بلوعة العار الإنساني الكبير؛ يقول الشاعر:

كيف يا سمراءُ جُرِّعْتِ سنا المغدور
حتى شقيَتْ أمٌّ وقد فاجأها الصحو بعارٍ
(عارنا نحن جميعا)
في يديها كبدٌ حرقها الجدب بنار
ثم لن يجري في ثدييها ما يُنجد من ريٍّ لإسعاف الصغار. (ص67)

نقطة الضوء الثانية هي: قصيدة "نوبة استهلال عشاق الربيع من مقام حرية كبرى"، حيث لأول مرة نتلمس موسيقى في الديوان؛ هي ربما استهلال أغنية النهار الآتي، ولربما رأى الشاعر في الربيع العربي تباشير اللغة المفقودة الضائعة التي يبحث عنها وينتظرها، يقول:

منذ أريق ما أريق من نجيع عزةٍ، وديس شرفٌ مضيمْ
حتى سقوط البغي ـ عن قمات خزيٍ ـ
تحت قوس نضرْ
إلى قرارة الجحيمْ
من أثر إشراق أرض ـ قد صحَتْ بنور جمرْ
من توهُّج كرامةٍ تضوعْ
أصواتها بأفغم الأنداءِ
أيها الربيع ذو البهاءِ
أيها البديعْ
يا أيها الخالق أجمل الرؤى
دفاقة بما تريده الجموعْ
يا واهب الأفراح.... (ص 72ـ 73)

على هذه الأنغام تتجلى ملامح الفرح والإشراق والاشتعال والتغريد والإصباح، وكل ملامح اللغة الضائعة. لكن فجأة يحصل النكوص في رجة عنيفة في الذات، فيُغرق الشاعر الأشياء كلها في مستنقع الظلام والعار من خلال قصيدة "دم ودمع ودمار"، وهو كما يبدو عنوان فيه كثير من التلميح الاختزالي (اختزال دم = عار)؛ عار شامل يلامس كل العالم، إذ يقول الشاعر:

للعالم صراخه المكتوم
المكتوي بالموت....(ص 75)

هكذا يتكسر حلم النهار الآتي، وتتكسر الذات في لعبة يومية تتكرر، ليأتي الشاعر بالخبر اليقين، أن لا شيء سوى سراب. يقول في قصيدة "حدائق السراب"، وهي آخر قصيدة في الفصل المعنون بنفس العنوان:

لا ماء يعطي صخرها بل الحميم
لا صبحها يأتي بشمس لا مساؤها يهل بالنجوم
فلا نشيد في روابيها ولا عبير
لا ظل في أغوارها بل الحرور
لا النور يهمي في أعاليها بل الظلامْ... (ص 78)

وتستمرُّ القصيدة على هذه التقاسيم التي تتراقص كلهيب السراب في جوف الظمأ، لتنهي حلما بالقصيدة وأغنية للنهار الآتي. ولكن نتساءل: هل هذه الحدائق حدائق القصيدة أم حدائق الوجود؟

إننا إذا تأملنا حركية هذه القصائد وديناميتها نجد أن الذات كانت بؤرة وحلقة بين القصيدة الوعد وبين الوجود، بما هو ليلٌ قائمٌ، وكان ضوء القصيدة يظهر ويغيب، لكن أمواجاً من الظلام كانت تحجبه، ظلام متنام من الذات والأهل والتاريخ والماضي، إلى العدو وإلى الإنسان والواقع الإنساني في مطلقيته. هكذا كانت سدول الظلام تزداد كثافة وانتشاراً، وفي الآن نفسه كان ضوء القصيدة يزداد انحساراً وتضاؤلاً من خلال حركة معاكسة لحركة الظلام، تجلت في العبارات الآتية: قاب قوسين ــ > بين ليل ونهار ــ > بين مساء وصباح ــ > بين نارين، وهذه الحركة المعاكسة يمكن تمثيلها بالجمر وهو يحترق؛ يزداد غشاء الرماد، وفي الآن نفسه يتضاءل لهيب الجمر.

إن القصيدة الضائعة، ما هي إلا مرآة للوجود الفارغ المظلم، وقد ظهرت اللغة الضائعة في بداية الديوان بمعناها القريب الذي هو لغة الكلام، ولغة القصيدة الفاتنة، ومع تنامي السياق والقصائد انخرطت هذه العبارة (لغة ضائعة) في بلاغة التورية لتدل على لغة الوجود بوصفها معنى بعيداً، أي لغة الكرامة والعزة ورد الفعل والثورة ضد الظلم والعيش في الإشراق والمحبة والعمق الإنساني، بدل الصبر على الظلم والاستكانة والرضى بالذل والقناعة وتناسي الجروح والقسوة الإنسانية، وغير ذلك من مظاهر النهار التي صورها الشاعر في الديوان.

نأتي الآن لنؤكد أن هذا الديوان يرصد أزمة قصيدة وأزمة وجود في الآن نفسه، فضياع لغة الوجود أضاع لغة القصيدة. وانطفاء نور القصيدة هو احتجاج على انطفاء نور الوجود.

ثانيا: لهاث القصيدة أم لهاث الذات؟

إن القارئ للديوان يستشعر في إيقاعه عنفاً واندفاعاً وجرجرةً للنَّفَس، كأننا أمام محركٍ ينتج الجمل الشعرية، فتأتي متدفقة، وكأن جملة تدفع جملة، وهي حركة إيقاعية مواكبة لفعل البحث والترقب والإلحاح في الطلب، كما أنها مواكبة لانسدال ستائر الظلام المتسارعة والمتراكمة، حتى ليشعر القارئ بلهاث محايث مبثوث في ثنايا ما يقرأ، فهل هذا اللهاث هو للقصيدة أم للذات؟

لقد أنهكتْ القصيدة الشاعر، حاول أن يغنيها فاصطدم بضياع اللغة، فتّشَ عنها في الذات ولم يجدها، واتسع ببحثه في القوم وفي التاريخ وفي الماضي وفي المستقبل ولم يجدها، وطاردها في العدو وفي الربيع العربي ولم يجدها، ونقّبَ عنها في شعر ما بعد الحداثة فوجدها أوفيليا حارقة للفراشات وخائنة للقصيد ونابتة في الفجيعة فتبرَّم منها، واختار خوض المعركة وحيداً، وفتش عنها في الإنسان والكون فكان الظلام أحلك من أن يشرق نور جمرتها، وانتهى عند الانطفاء المرير لوَهَج جمرة اشتعلت في الذات حلماً ورغبةً ثمّ خبت في سكون، وكان الاحتراق عميقاً وغائراً، لم يجد ما يرويه سوى سراب متراقص لا يطفئ غُلّة، ولا يثمر غير حقيقة حارقة: أنْ لا قصيدة ممكنة، فشعاعها تحطم على مذبح الواقع والوجود. ونبعها غاض في الظلام والموت والنار والدمار. وهل بوسع الوردة أن تزهر في الدمار؟

ولقد أنهك الشاعر بدوره القصيدة، حيث طبخها على أثافي متنوعة ومفارقة، كتبها على مقام النشيد في عدة قصائد، والخطابة في قصيدة الربيع العربي، وطبخها على الأدب العجائبي في قصيدة كليلة ودمنة، وقلّبها على الحوار الدرامي في قصيدة "حصاد العقم والبهاء"، وصاغها في قالب السرد في قصيدة "عبر الأرض البوار" وغيرها، وألبسها لباس الحكاية الشعبية على نسق؛ كان ياما كان، في قصيدة "جثةٌ أو طلقةٌ"، وزاوج فيها بين الوزن والنثر في قصيدة "حيث تطير الأقدام"، وسايرها في شكلها الحداثي، وخرق بها الأسطورة من خلال أسطورة إيزيس وأوزيريس، وعذبها، كواها بنار بلاغة السخرية والتهكم، وتغزل بيمناها في قصيدة "البهاء الآتي"، وأبكاها وأحرقها واطفأها، وأقحمها في مجاهل البحر والبر.. وطوفها الدنيا، وأبت أن تبوح بضوء أو شعاع، أو أن تجود برؤى الورد والإصباح، وكانت الحقيقة مُرة كذلك: أن أعلنت القصيدة إفلاسها ولم تُثمِر غير السراب...

هكذا كانت سادية اللهاث متبادلة بين الشاعر والقصيدة اللذين ظهرا كعاشقين تائهين في الظلام والدمار والأنوار الزائفة والاحتراق والإحساس بالخواء. وانتهى اللهاث بانكسار القصيدة وانطفائها في وجدان وضمير الشاعر، وارتمى جمرها في نبضه، هي ذاتها القصيدة التي أرادها الشاعر أغنية للنهار الآتي، والبهاء الآتي. ورغم انكسار القصيدة وتمنعها أمام جمر الحقيقة، فإن الشاعر لا ينهزم ويقرر خوض شوط آخر من طريقه الليلية، إذ يقول في قصيدة "حدائق السراب":

تتركني الحياة إن عميتُ لا يسعفني الإلهامُ
أنا الذي انغرست في التراب وشببتُ فيهِ
لستُ أرفض المسير نحو مطلع الشروق
مني الذي فيه فلن تضيق
بيَ الطريقُ إذ أصنعها، الصديقُ
فيها عضدي، والصحو في اندلاع فرحتي
بما أُبدعه الرفيقُ
(...)
تشتعل الزهور
يضاء غصْنٌ ما ارتوى، واخضلُتِ الجذور
ولن يدوم طغمةٌ هنا ولا ظلامُ
سيخصب الثرى وتُعشب الأيامُ
ينهلُّ من يديَّ ما خلقتُ،
قوس قزح وترتمي الشموس والبدورُ. (ص 80)

هكذا يستمر طلب القصيدة كشكل من أشكال طلب الحياة، لتبدأ رحلة الأسئلة في الجزء الثاني من الديوان، أسئلة حارقة جارحة، لكنها دروب لا بد منها لاقتفاء أثر الحقيقة والرؤيا والحياة والتعالي على السراب والفراغ، وإيقاظ جذوة القصيدة من جديد.

ثالثا: كتاب الأسئلة أم كتاب الحقيقة؟

إن ديوان "تأتي بقبض الجمر" هو كتاب أسئلة بامتياز، يسائل الذات والقصيدة والوجود وماهية الشعر ووظيفته، كما يسائل الحياةَ والموت، والماضي والحاضر والمستقبل، والعمى والبصر، والنار والغدير وغير ذلك.. أسئلة تتناسل عبر متاهات هذا الديوان، تعمّق وضعية الحيرة والتردد والمابين، وتحاور القوسين والمَحبِسين والنارين، أسئلة تظل آنيّاً بلا جواب، لكنها سياقياً تنفتح على وابل من شرارات الجواب. وقد بلغت ذروة الأسئلة ألقها وجوهر كشفها في قصيدة "قبض الحقيقة"، يقول فيها الشاعر:

ماذا صنعت؟
سقطت حقا؟
أم تخلفت؟
انتهى حلمي الكبير هباء.
من أين أعرف في اضطرابي وجهة،
في الليل أضرب أم أخوض ضياء؟
أم كيف فاجأني انهياري؟
(...)
أم تلك قوقعتي الزجاج تكسرت؟
فأنا أواجه مفردا شعواء؟
قد كنت أخطر في وشاء كرامة
واليوم جرحي أرتديه وَشاء
ها قد نهضت إلى عيون لا ترى
وحدي أكابد طعنة وعَراء.
ماذا صنعتُ؟ قطعت شوطا أم تخلفت؟
انتهى... قبض الحقيقة داء؟. (ص76-77)

الداء هنا هو داء السؤال، سؤال تلو سؤال، وكل سؤال يأتي بقبض الجمر، وجاء الجزء الثاني من الديوان مسرحا لأسئلة ثقيلة؛ وَرَدت عناوين لقصائد هذا الجزء: - سؤال الجمر ـ سؤال الرماد ـ سؤال الغضب ـ سؤال السراب ـ سؤال الانتماء.
فسؤال الجمر هو سؤال الكينونة، سؤال الاحتراق وسؤال الجذوة التي تقتل نفسها دون أن تشعل أو تلهب بنور، وهو أيضاً سؤال الاشتعال والشرارة والضوء... وسؤال الرماد سؤال الموت والانطفاء، وهو في الآن نفسه سؤال التجدد والبعث وانبعاث الفينيق.. وسؤال الغضب هو سؤال الريح الكابية، سؤال السكون والاستكانة التي صنعت تاريخاً أخرق، وفي الآن نفسه هو سؤال النبض والريح العاتية التي قد تعيد للجمر توقده وتعطي للاحتراق والموت معنى... وسؤال السراب هو سؤال الوهم والظمإ والحر، وفي نفس الوقت هو سؤال التلألؤ والبحث عن النبع والغدير طمعاً في الماء وإرواء الظمإ... وسؤال الانتماء هو سؤال القلق الوجودي، يوحي بالغربة والضياع والظلام والتيه، كما يوحي بالضوء والمحبة والتوازن والإشراق والهوية.

هكذا تتفتق الأسئلة وتتلاقح مع أسئلة أخرى لشعراء حملوا نفس جمر البحث عن الحقيقة، وسلكوا طرقاً ليلية أخرى لتوليد نقطة النور التائهة في ظلام الوجود الإنساني.

وجاءت هذه الأسئلة في ثوب قصيدة النثر أو الشعر المنثور (شكلا)، معلنة قوساً آخر من أقواس الديوان وبؤرةً بينية أخرى، تنضاف إلى البينيات العديدة التي تنفس الديوان عبرها وتنامى في حضنها ومعتركه. وكانت الذات خط التماس بين القوسين والنارين، بين القصيدة والوجود، بين لهيب الجمر ورماده، هناك فقط تكمن الحقيقة، وهناك فقط تأتي الحقيقة بقبض الجمر.

نأتي لنقول: إن الزخم والتركيب اللذين ميّزا الديوان بين الذاتي والموضوعي، وبين القصيدة والوجود، وبين الشكل والمضمون، وبين الجمر والحقيقة، وغير ذلك من الثنائيات ولدا في النص ثلاث رسائل:

+ رسالة ذاتية شخصية: من الشاعر إلى مخاطبين يفترضهم أو يعرفهم، هم بين صديق لذوذ للقصيدة أو عدوّ حميم...

+ رسالة نقدية: تقول بأن القصيدة رسالة كشفٍ وحقيقة؛ ذاك جوهرها ودأبها، وتلك عادتها ولوعتها، ولا تهم الأشكال، فكل الأشكال تتحطم عند نسغ القصيدة ونورها الذي هو في النهاية ليس سوى حقيقة.

+ رسالة شعرية: تمثلت في هذا الإبداع الذي رسم به الشاعر معالم رؤيا حول قضايا وجودية وإنسانية، رؤيا تنتمي إلى تجربة الموت والحياة، لكن بخرق أسطوريتها. فجاءت على صيغة أخرى تجَّلت في جدلية الاحتضار/ التساؤل، وهي رسالة كثيفة الملامح الجمالية والإيقاعية والفنية اعتمدت تنويع الإيقاع بحسب المقام ودرجة اللهيب، وتوسلت ببلاغة التورية والكناية، بذلك تمكن الشاعر من النسج بين القريب والبعيد، بين الذاتي والموضوعي، بين الكائن والممكن، وبين الجمر والحقيقة.
ولقد انتصر الشاعر في النهاية، بل وانتصرت القصيدة على نفسها، ذلك أن أحمد بنميمون كتب قصائد رائعة وهو يبحث عن القصيدة، فمن ضياعها جاءت، وعلى ألق الحرف تربعت، بصور جميلة عميقة، ولغة تمتاح من كل الألوان والفصول بهاءها، وإيقاع موسوم بفحولة التمنُّع في القصيد، قصائد اخترقتنا بوداعة الجمر الأنيق؛ جمرٍ عزفَ القصيدة على أوتار نار هادئة.

(*) أحمد بنميمون، تأتي بقبض الجمر، شعر، ط1- 2012، المطبعة: إيمبريما مدري- تطوان.

( كل الإحالات المرافقة للمقاطع الشعرية، على هذه النسخة)

ملحوظة: هذه الورقة ألقيت في حفل توقيع الديوان نظمه فرع اتحاد كتاب المغرب بشفشاون يوم 25 يناير 2014، بقاعة محمد السادس للمحاضرات.

لأحمد بنميمون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى