الأحد ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

الغزال الأبيض ...

ترتسم أمام ناظريَّ في أحيان كثيرة مشاهد موغلة في قدمها، كأنما تنبعث من أغوار سحيقة في بئر الذاكرة العميق، فتعود بي إلى أيام طفولتي الأولى، و أنا صبي دون سن السادسة، يخب وراء جده في البراري النائية عن القرية. فيرى نفسه آنا يتبع جده و هو يسوق بقرتيه ذهابا و إيابا من بداية كل ثلم و حتى نهايته في أيام الحراثة، أو ملتصقا بظهر جده متشبثا بطرف قمبازه، و هو يردفه خلفه على ظهر حماره في رحلة ذهابه و إيابه اليومية إلى الحقول. فيتذكر كيف كان جده يلفت نظره، ليلاحظ قطعانا من الغزلان كانت تسرح و تمرح و تتقافز في سفوح الجبال المقابلة، ثم تختفي في مثل لمح البصر. كان ذلك قبل ما يزيد على ستين عاما. و يتذكر بأسف كيف انقرضت بعد ذلك و لم يعد يلمح طيفها بتاتا، عندا انقض الناس عليها و التهموها بعدما عضهم الجوع، و غشيهم البؤس و الشقاء بعد نكبة فلسطين، و هجرة معظم أهلها، فلم يجدوا ما يطعمونه إلا طيور و حيوانات البراري، التي أفنوها فلم يظهر لها أثر بعد ذلك.

من بين ثنايا غبش الذاكرة البعيد، تتبدى دائما في مخيلتي صورة الغزال الأبيض بلونه المميز، و قامته الفارعة المديدة، التي تعلو به عن سائر القطيع، و صدارته الدائمة للقطيع في كل إطلالة يطل بها عن بعد. حتى اعتدنا على ذلك المشهد البديع الذي كان ينبري أمامنا فجأة، فيسر ناظرنا و يؤنس وحدتنا في تلك البرية المنقطعة. إلى أن كان يوم أشار فيه جدي إلى السفح المقابل مُنبها إياي، لأُمَلِّي ناظري من مشهد قطيع الظباء المنطلق على رسله، فما كان مني إلا أن صرخت من دهشتي:

جدي أين الغزال الأبيض الذي كان يتصدر القطيع في كل مرة؟

لست أدري، لا أرى له أثرا. لعل أحدا قد اصطاده.

و لم يعجبه أن يصطاد إلا رئيس القطيع! لعنة الله عليه.

أسفت كثيرا لحظتها على غيابه، و غالبت دموعي التي كادت أن تنهمر حزنا على فراقه، لولا أنني لمحته بعد طول تأمل و تمعن، و قد انفرد وحيدا يسير متئدا خلف القطيع على غير عادته. فصرخت من لهفتي و حبوري:

جدي، جدي، ذاك هو الغزال الأبيض، إنه يسير على مهله وحيدا خلف القطيع.

فما كان من جدي إلا أن عقب على ملاحظتي قائلا:

الله يعينه، إنه في أيامه الأخيرة.

ماذا قلت يا جدي؟ أيامه الأخيرة؟ هل سيموت الغزال الأبيض؟ و ما أدراك بذلك؟ أليست الحياة و الموت بيد الله وحده؟
نعم يا ولدي، لكن لكل شيء علامات و دلائل.

و من طبع الغزلان إذا شعر أحدها بدنو أجله، أن ينفرد عن القطيع ليجابه مصيره منفردا. كأنما يأنف أن يطلع أحد على لحظات ضعفه.

حتى أولاده و زوجته؟ أليس له زوجة و أولاد و أقارب، أقصد مثل البشر؟

بلى. له أبناء و أهل و أقارب. لكنه يأبى أن يظهر أمامهم ضعيفا، و هم الذين ما عهدوه إلا صلبا قويا.

و هل يتركونه و شأنه؟ ألا يتوقف أحدهم لمواساته و رعايته؟

إنهم يعرفون طبعه الذي هو طبع الغزلان جميعا، التي تأبى إلا أن تجابه المشهد الأخير من حياتها منفردة. لذلك فإنهم يتركونه و شأنه، و يمضون لشؤونهم.

و لمحته بعد ذلك مرة أو مرتين في أيام تالية على نفس هيئته تلك، وحيدا متأخرا مسافة بعيدة عن القطيع، فتيقنت مما قاله جدي، وازددت أسفا و حزنا على حاله. حتى كانت المرة الأخيرة التي مر فيها القطيع من أمامنا، و أمعنت النظر طويلا في المسافة التي تعقب مسير القطيع، لعلي ألمح الغزال الأبيض وحيدا في سيره كعادته في الأيام الأخيرة. لكن بصري ارتد إليَّ خائبا دون أن يظفر بأثره.

و ما أثار عجبي سوى رؤية قطيع الغزلان تتجمع ملتفة حول بعضها تحت شجرة زيتون عتيقة عملاقة في سفح الجبل المقابل، فتطيل مكوثها في المكان على غير عادتها، فقلت لجدي:

جدي، انظر إلى قطيع الغزلان كيف يتجمع اليوم في مكان واحد تحت تلك الشجرة الكبيرة.
فما كان جواب جدي إلا أن قال :
لقد مات الغزال الأبيض، و لاشك أنه يرقد تحت تلك الشجرة، و هذه الغزلان تلتف حوله لتودعه.
مات؟

صحت من فوري.

سأذهب لأرى

أين تذهب؟ أنها مسافة بعيدة و لو بدت لك قريبة من هنا. ستهبط هذا السفح كله حتى الوادي، ثم تصعد السفح المقابل. و ما ذا سترى؟ ستجد غزالا ميتا.

ما استمعت لكلمات جدي، و هرولت مسرعا لا ألوي على شيء.

هبطت السفح منحدرا متعثرا بالشجيرات البرية و الأعشاب و الحجارة، و ثنايا الأرض الصاعدة و الهابطة، ثم تسلقت السفح المقابل لاهثا متقطع الأنفاس حتى أدركت غايتي. و ما أن اقتربت من الشجرة حتى انفض قطيع الظباء و واصل سيره، بينما ألقيت نظرة على جثة الغزال الأبيض، التي تنام في ظلال الزيتونة و عيناه مفتوحتان على سعتهما.
مددت يدي و لكزته ممنيا نفسي أن يفيق من غفوته، و ينهض ليلحق برفاقه، لكنه لم يحرك ساكنا.

بينما عدت أدراجي إلى حيث كان جدي في انتظاري، و قد غلبتني الدموع التي انهمرت على وجنتي، و قلت مخاطبا جدي:

جدي، لماذا لا ندفنه، حتى لا تأكله الوحوش، أو تنبعث رائحته؟

ندفنه؟ لو أردنا أن ندفن كل ميت في الطبيعة لما كفانا وقتنا دفنا، يكفي أننا ندفن بعضنا بعضا يا بني.

ستون عاما أو يزيد انقضت على ذلك اليوم الذي ودعت فيه الغزال الأبيض، لكن طيفه لا يزال يزورني في يقظتي و منامي حتى يومي هذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى