الأربعاء ٤ شباط (فبراير) ٢٠١٥

قراءة في رواية مديح لنساء العائلة

عبدالله دعيس

صدرت رواية"مديح لنساء العائلة" للأديب الكبير محمود شقير عن دار "الأهلية للنشر والتوزيع" في عمان، وتقع في 200 صفحة من الحجم المتوسط. وتعتبر هذه الرواية الجزء الثاني لرواية "فرس العائلة" التي صدرت في العام 2013.
"فهن في نهاية المطاف، نساء طيبات جديرات بالمدح لا بالذم، وما اشتغالهنّ باستغابة الناس سوى تعبير عن فراغهن وبؤس أحوالهن." ص 160

هكذا يمدح الكاتب المبدع محمود شقير نساء العائلة على لسان أحد شخصيات الرواية، لكنه يسرد كثيرا من الصفات السلبية التي كانت تلتبس كثيرات منهن، والبؤس والشقاء الذي كان يلازم غالبيتهن، في ظل مجتمع لم يجعل للمرأة قيمة تُذكر، ولم يقّدر عملها وتضحياتها، وضنّ عليها حتى بالثناء والمديح.

يكشف الكاتب، في هذه الرواية، اللثام عن حياة النساء في الحقبة الزمنية الممتدة من أربعينات القرن العشرين حتى عام 1982، مبينا بؤس النساء، وحكاياتهن ومكائدهن أحيانا، والتخلف والجهل الذي كانت كثيرات منهن تعاني منه. لكن هذه السلبيات كلها، كانت من صنع أيدي الرجال الذين نصّبوا أنفسهم سادة لذلك المجتمع، وكان دور النساء فيه خدمتهم دون شكر أو تقدير. فعنوَنَ الكاتب لروايته "مديح لنساء العائلة" رغم أن أبطال الرواية في كثير من الأحيان رجال، يديرون دفة ذلك المجتمع الذكوري، وتدور النساء في فلكهم راضيات بقدرهن.

يخلق الكاتب حيزا مكانيا يسمّيه "راس النبع" ويدمجه في المكان والزمان الواقعيين، ليكون خياله ابداعا واقعيا يصف مرحلة من حياة الفلسطينيين في بادية القدس، فيتعمق في نفوس أصحابها، ويقودنا داخل نفسيات مختلفة، تحكي لنا حكاياتها ومشاعرها بنفسها، فيسبر أعماقها، ويُخرج مكنونات نفوسها، راسما لوحة داخلية لمشاعرهم وهمومهم، ولوحة خارجية لتفاعلات المجتمع في مرحلة كانت تتغير فيها الأمور بسرعة، وترسم ملامح مجتمع جديد يخرج من حياة البادية إلى الاستقرار. فصراع هذا المجتمع وتردده بين الأصالة والتجديد، تزامن مع الاضرابات التي كانت تعصف في نفوس أبنائه فتنعكس على سلوكهم ومحيطهم.

يتعرض الكاتب إلى كثير من المشكلات الاجتماعية، في تلك الحقبة الزمنية، عن طريق أحداث الرواية وشخصياتها، منها:
 تعدد الزوجات وعدم العدل بينهن، بل كان الزوج يهجر إحداهن لصالح الأخرى. فنرى منّان يفضل زوجته وضحا، أما فليحان فيعيش مع زوجته الثانية رسمية، ويتلاشى بالتدريج ذكر الزوجة الأولى شيخة في الرواية حتى تنسى، ولا نرى من يذكّره بحقوقها رغم أن النساء كنّ يتدخلن بأدق تفصيلات حياة الزوجين.

 تزويج القاصرات دون موافقتهن، حتى لو كان الرجل لا يليق بهن.
 لوم المرأة على عدم الانجاب، ودفع زوجها للزواج من أخرى.
 هجرة الرجل وتركه لزوجته خلفه دون الالتفات لحاجاتها الإنسانية.
 الجهل الذي كانت تحياه العديد من النساء، حيث تعيش في عالم يحكمه الخوف من المجهول، تتقي الجن والسحر وتلجأ إلى المشعوذين.
 تفضيل الذكور على الإناث.

وليس أدلّ على التفريق في المعاملة بين الذكر والأنثى من موقف عائلة منّان، مختار عائلة العبد اللات الذي تزوج ستا من النساء، من فرار ابنته فلحة وزواجها ضد رغبة العائلة، حيث اعتُبِرت جالبة للعار للعشيرة، والموقف المختلف من أخيها فليحان، الذي حاول اغتصاب فتاة ترعى الأغنام، ثم عاشر فتاة أخرى وخطفها من خطيبها وتزوجها رغما عن أهلها، ثم اشتغل بتهريب الحشيش وبنى ثروة من ذلك، ولم تجلب تصرفاته تلك العار للعشيرة!

ويقدم الكاتب العديد من الشخصيات التي حاولت التمرد على تقاليد المجتمع، وحملت عصا التغيير، وكانت عنوانا لتلك الفترة التي بدأ فيها الانفلات من ربقة العادات المقيدة لحرية الشخص. فنجمة تخلع ثوبها وترتدي الفستان بعد مغادرتها لبلدتها، ورسمية ترافق زوجها فليحان إلى حفلات الطرب والغناء، وسناء تغادر بيتها لتعمل ثم ترتدي ملابس البحر الفاضحة ولا تخفي ذلك عن نساء العشيرة. ويتزوج محمد الأكبر من مريم التي تخالفه في الدين، أمّا محمد الأصغر وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، فيتزوج امرأة تكبره سنا، ويرفض الزواج من أخرى رغم أنها لا تنجب، ثم يستقيل من وظيفته في المحكمة الشرعية ليعمل لدى فرقة مسرحية.

قد تكون بعض هذه التغيرات سلبية، لا تصب في طريق النهوض بالمجتمع وإخراجه من براثن الجهل والظلم، لكنها رافقت فترة لم يستطع كثير من الناس فيها تحديد أهدافهم، ولم يستطيعوا ترجمة أحلامهم إلى واقع. عبّر الكاتب عن هذا عن طريق شخصية محمد الأصغر الذي كان يحلم أن يحترف الكتابة والتمثيل، لكنه كان يفشل في كل محاولة.

وقد رافق هذا، الاختلاف الشديد في توجّهات الناس الذين تفتحوا على أفكار وليدة أو دخيلة. فنرى عائلة منّان تتشظّى وتتنازعها تيارات مختلفة: فأحد الأخوة يكون في الحزب الشيوعي، والآخر ينجذب إلى التشبث بأحكام الدّين بعيدا عن الجهل، والثالث تدافعه أمواج القومية العربية، ورابع يختار الهجرة والابتعاد عن الوطن، وخامس ينغمس في حياة اللهو والمجون، وآخر يغلّب مصلحته الشخصية على كل فكر أو مبدأ. أمّا الأب المتسلط، الذي كان يقود العشيرة دون منازع فيما مضى، فإنه ينحني للعاصفة، ويقف حياديا حيال أبنائه الذين اختلفت بهم الطرق، ويرضخ للأمر الواقع، ويساير أبناء عشيرته، في تحول واضح عن القيم البدوية وتنازل عنها.

لم يغفل الكاتب في خضمّ ابحاره في الأحداث الاجتماعية التغيرات السياسية التي كانت تحدث في تلك الحقبة، فذكر النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني في المخيمات، ثم فترة الحكم الأردني وما صاحبها من قمع للحريات، وحرب 1967 والاحتلال الصهيوني لباقي فلسطين. ولم يفصل عائلة العبد اللات عن تلك الأحداث، فقد استشهد عدد من أبنائها، وقضى محمد الكبير سنوات طويلة داخل السجون، وتحول الولد الطائش أدهم، المنغمس في الشهوات، إلى ثائر يناهض العدو ويصبح أسيرا في سجونه، في لفتة جميلة إلى تشبث الفلسطيني بأرضه ودفاعه عنها مهما ابتعدت به الدروب عن جادّة الصواب.
لغة السرد في الرواية بسيطة ممتعة، تتراوح بين الفصحى والعامية؛ في المواضع التي تؤدي فيها العامية دورا في إبراز المعنى وتجلية الواقع. يتولى بطل الرواية محمد الأصغر رواية أحداثها. لكن الراوي يتغير باستمرار، وينتقل من شخص إلى آخر في التفاتات سريعة سلسة دون إحداث إرباك للقارئ، تماما مثلما تتغير المشاهد في فيلم سينمائي.

أعجبني تنوع اللغة بين الشخصيات المختلفة. فعندما يتكلم محمد الأصغر، الشخص المثقف، تكون لغته عالية، ولكن عندما ينتقل السرد إلى فليحان، راعي الأغنام الذي لم ينل قسطا كبيرا من التعليم، تتغير اللغة وتصبح أكثر بساطة، وعندما تروي وضحا الأحداث، تصبح اللغة بسيطة جدا وسطحية، فيشعر القارئ أنه يتقمّص تلك الشخصيات المختلفة. وأعجبني أيضا دمج رسائل عطوان من البرازيل ضمن أحداث الرواية، فينقلنا الكاتب إلى البرازيل دون أن نتخلى عن أماكننا في راس النبع والقدس، وهذا ابداع يحسب للكاتب. وكما أعجبني في الرسائل، كيف أن ذكر زوجة عطوان وولده منّان بدأ يقل في كل رسالة، حتى اختفى وكأنهما ليسا موجودين، في إشارة إلى نسيان عطوان لهما، وعدم انكار العائلة لذلك، بل وتقبلها لما يقوم به عطوان وزوجته البرازيلية رغم اختلافه جذريا مع العادات والتقاليد والقيم العربية.

الصورة على غلاف الرواية جميلة ومعبرة، خاصة إذا دققنا النظر في الطريقة التي تمسك بها النساء ثيابهن بأطراف أصابعهن، معتزات بزينة تفصح عن كمائن أنفسهن. لكن الصورة لنساء بثياب وزينة هندية، ولو كانت الصورة لنساء بلباس البادية الفلسطينية وزينتها لكانت أجمل وأكثر تعبيرا عن مضمون الرواية.
يعمد الكاتب إلى ذكر أسماء شخصياته باستخدام الاسم الأول دون كنية أو لقب، حتى شخصية منان الذي كان مختار العشيرة. وأتساءل هنا، هل هذا هو الحال في البادية أم أن الناس ينادون بكناهم؟ وهل قصد الكاتب هذا ليجرد الشخصيات من جميع الصفات الخارجية التي تحجبهم عنا؟

"مديح لنساء العائلة" عمل مميز جديد، لكاتبنا المبدع محمود شقير، وإضافة مهمّة إلى الرواية الفلسطينية، ولبنة جديدة في مسيرة العطاء الأدبي الفذّ التي بدأها الكاتب منذ عقود.

عبدالله دعيس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى