الأربعاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

مــــن رحلتــــي النقديــــة

عندما دخلت القوات الإسرائيلية قريتي (21/5/1949) تركنا معلمونا - الذين وفدو إلينا من نابلس وضواحيها، وصرنا أضيع من الأيتام.....، وليس بيننا وبين العربية إلا إذاعات لا تكاد تبين، وكتب نادرة تمزقت لكثرة ما استعيرت.

كان والدي قارئًا، كنت أرقبه وهو يجلس إلى آلة الخياطة يتصفح صحيفة أو يقرأ كتابًا دينيًا. وكان يسافر إلى يافا للاتجار بالبضائع القديمة، وكثيرًا ما كان يحضر معه بعض الكتب التي كنت أتصفحها.... فهذا مثلا كتاب "العمدة" لابن رشيق - عليه اسم صاحبه – موسى عبد المجيد سمور (دير ياسين).

ولكن، أين موسى اليوم؟؟!!

كنت قد قرأت بدءًا من الصف الثامن عشرات الكتب الأدبية- أولها تاريخ الأدب العربي للزيات، حيث قرأت هذا الكتاب من غلاف إلى غلاف، وأكثرت من قراءة القران وحفظه، لأنه المفتاح الأول لمعرفة اللغة. وكثيرًا ما كنت أسأل والدي بلهجة ناقدة عن معني هذه الآية أو تلك، وكنت أشعر أنني أضايقه، فهو يعتبر أن في سؤالي كفرًا وتجديفًا. لذا فقد حرص على أن أبتعد عن كتابات خالد محمد خالد - "هذا هو الطوفان" "من هنا نبدأ" - الأمر الذي حفزني على قراءتها سرًا، وعلّمني أن اتخذ موقفا مستقلاً.

ولا زلت أذكر أنني كنت أبدي رأيي بقصائد "المحفوظات"، فأبدي إعجابي بهذه القصيدة، وأحفظ قصيدة أخرى لا تروق لي مرغمًا، وأنا ألعن الشاعر والمعلم معًا.
ولجت عالم الأدب وفي طبعي نقد للظواهر الاجتماعية والسياسية المختلفة، وهكذا مضيت في تلخيص الكتاب الذي أقرأه، وفي التعليق عليه؛ وكم من كتاب أعود إليه هذه الأيام - لأجد في الحواشي ملاحظاتي التي قد أستغربها، أو أعجب بها.

تعرفت إلى مجلة "الآداب" البيروتية في مكتبة جبعات حبيبة أولاً، ثم في جامعة بار إيلان، فراق لي خطها الوطني، راقت لي تجربة الشعر الجديد فيها. وكنت أتابع "قرأت العدد الماضي من الآداب" التي أخذت تصقل من حاستي النقدية، فتعرفت إلى أسماء لامعة في الأدب العربي الحديث، وأفضيت إلى عالم ممتع جميل.

أما مقالي النقدي الأول فقد كان موازنة بين كتابين (صحيفة "اليوم"18/9/1960) وهو مقال تربوي، ثم نشرت مقالة بعنوان "مناقشة لفيلم الوسادة الخيالية" (اليوم17/2/1961) وهي مقالة فنية.

غير أن مقالات النقد الأدبي بدأتها في صحيفة "المرصاد" بدراسة عن ديوان "موعد مع المطر" لفوزي عبد الله ( العدد 9 /1961) حيث جر علي هذا المقال شتائم حذفها الرقيب من مقالة فتحي قاسم بعنوان- نقاد بلادي.

ثم كتبت "لقاء مع تسعة شعراء" وناقشت تسع قصائد لشعراء محليين. فلم يرض الشاعر جورج فرح على ما قلته عن قصيدته، وأثنى سعود الأسدي على ما كتبته عنه.

إذن هناك من يرضى، وهناك من يغضب – وهذا هو الدرس الأول.

ثم نشرت في مجلة "الجديد" في حزيران 1967 مقالاً بعنوان "شوائب ومغالطات في محاضرات الدكتور شموش" (وكان المقال قد صدر قبل ذلك في كتاب "مشاعل في طريق الأدب" - عكا- 1967). فكان هذا مقالي الأول في مجلة مهمة وجادة كنت قد عكفت على قراءتها وأنا يافع.

ثم كتبت زاوية في صحيفة "الأنباء" وهي "قصيدة وشاعر"، وكانت الحلقات التي تربو على العشرين مطعّمة بنفَس مارون عبود الذي قرأته وأعجبت به - وفيها أستاذية وتناص كثير من المقروء، وخاصة من التراث. ولا زلت أذكر قولا للأستاذ سوميخ قاله لي: "أنت تكسب لقاء كل مقالة كذا مبلغًا وتخسر صديقًا".... وأعترف أن مقالاتي كثيرًا ما تثير زوابع وردودًا قاسية أكثر مما يجب، حتى أن بعضهم يرى أن الحركة الأدبية لا تنشط إلا إذا ألقيت في بئرها حجرًا، وقد يصدق صاحبنا إذا علمنا بالمعارك التي أثيرت بعد كتابات "أحمد منير" وقبلها عند تأسيس رابطة الكتاب. وبعدها عند إعداد مناهج الأدب العربي للمدارس الثانوية أو عند جوائز التفرغ أو...

*

في دراستي الأكاديمية في بار إيلان التقيت أساتذتي س.سوميخ، د.صيمح، ش.موريه (وهم من يهود العراق)، فقدمت لهم الأبحاث والدراسات التي نشرت بعضها في الصحف. وكانت رسالة الماجستير عن " لغة الشعر عند بدر شاكر السياب وصلتها بلغة المصادر القديمة "بإشراف الأستاذ سوميخ (صدرت الدراسة سنة 1993، وقد أثنى عليها الشاعر عبد الوهاب البياتي على الرغم من علاقته الخاصة بالسياب - بما يدعوني إلى الاعتزاز بشهادته).

وكنت قد نشرت دراستي عن "صلاح عبد الصبور شاعرا مجددًا" جامعة حيفا 1979، وقد تنسى لي أن أهدي الكتاب للشاعر نفسه - في زيارتي له في الهيئة المصرية العامة للكتاب... ومع أنه تناول الكتاب متعجلاً، إلا أنه أفسح لي مجلسًا في ندوة أصدقاء كانت في المكتب، وكان فيها مجاهد عبد المنعم وفوزي العنتيل وكمال نشأت وعبد المعطي أبو النجا، وكنت أدلي بدلوي في مواضيعهم، وأشعر بأنهم يقدرون متابعتي لحركة النشر والثقافة. وقد أهداني عبد الصبور كتابه "مأساة الحلاج" مدونًا:

"الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير1980/8/ 19...."

أما أطروحة الدكتوراة " أشعار الديوانيــين – العقاد والمازني وشكري" – بإشراف الأستاذ م. بيلد فقد قدمتها في جامعة تل أبيب، ولاقيت فيها "الأمرّات"....ولها حكاية طويلة...

وبالطبع فإن الدراسة الأكاديمية جعلتني أطالع مئات المصادر، وجعلتني جادًا ودقيقًًا ما استطعت. واعترف أن المسابقات التي اشتركت فيها أواسط الستينيات عن المتنبي والخنساء والمعلقات والأدب المهجري والقرآن الكريم وفوزي فيها، بالإضافة إلى متابعة حركة النشر جعلتني أمتلك الثقة بالنفس،فأنصب نفسي حكمًا.... ولأني معلم فقد كنت أتوجه بأستاذية ما- هي مبررة حينًا وغير مبررة أحيانًا.

لكني أقول اليوم – بصدق – إنني لم أكن مغترًّا أبدًا، فكم شعرت بالنقص والتعطش للمعرفة.... وكم تعلمت من طلابي ومن زملائي "يدفعني إلى ذلك اقتناعي بأنه ما من أمر مبتوت فيه نهائيا، وأن الحقيقة نسبية لا مطلقة".

صدر كتابي النقدي الأول –"عرض ونقد في الشعر المحلي" (1967) وهو أول كتاب نقدي يصدر في بلادنا – أعني في الداخل ، وقد جمعت فيه المقالات التي كنت قد كتبتها عن شعرائنا المحليين، وزعمت لنفسي في تصدير الكتاب أنني أنتهج" المنهج الوسطي" فقلت:

"ولا بد من الإشارة إلى أن منهجي يأخذ من الأكاديمي الدقة في الاستشهاد والحذر في الأحكام، ويأخذ من الذوقي ذاتيــة جمالية أستشفها من خلال التجربة..."
ثم كان أن أقمت "الورشة الأدبية" التي نشطت في الثمانينيات – خلية نحل يشتار طلابها من المتأدبين ما يستصفون من جنى، فكانت الورشة تستضيف كل مرة أديبًا من أدبائنا الذين رسخت أقدامهم وعُرفت أقلامهم، فيصغي الضيف لقراءات الشبان ونقاشاتهم، ثم ما يلبث أن يسوق رأيه، فأخذت الورشة تتعرف إلى مصطلحات "التأويلية" "التفكيكية" "البنوية" الخ. وكنت حيويًا فعالاً في تنشيط الحركة الأدبية، ولا شك أن لقاءاتنا مع الجمهور في المدارس وفي النوادي هنا وهناك كانت تحفزنا على مواجهة مسائل نقدية يستفتي فيها الجمهور.... وكان من الطبيعي أن يكون لي رأي في القضايا وفي إشكالات مطروحة أمام المتلقين.

ثم صدر لي "الرؤيا والإشعاع" (1984) وفيه مقالات أخرى عن الأدب الفلسطيني، وكان قد صدر بعضها في مجلة "الجديد" أخص منها زاوية نقدية هي "مونولوج نقدي".

وهذه التجربة بحاجة إلى معاينتها من جديد، لأنها لون مستجد، ولم اقرأ على غراره من قبل ومن بعد (وهذا بالطبع لا يعني أنها موفقة).

ثم أصدرت كتابي:"الجنى في الشعر الحديث" و"الجنى في النثر الحديث"، وأسميت الكتاب على اسم ابنتي جنى، فيسرت الأدب الحديث لطلابه وقرائه، ففي الشعر أقمت معيارًا أو منطقًا يندرج في:

أ- إجمال المضمون

ب-الوسائل الفنية وخصائص النص

ج- توظيف اللغة والألفاظ ، وكيف تُوظف اللغة في خدمة المعنى

د- إثبات بعض الإشارات الثقافية للدلالة على مَعين الشاعر الذي استقى منه، حتى يتجلي لنا تداخل التناص.

ولكي أثري الحوار حول النص أبقيت أسئلة للنقاش، وفي تقديري أن هذه الأسئلة هي من أصعب ما في الكتاب.... فالسؤال -كما نعرف- يستلزم صياغة فنية ومعرفة عميقة.
وما زال الكتابان ماكثين في أيدي الطلاب لنفعهما،ويضيئان للمعلمين قبل الطلاب معالم جديرة بالاهتمام. ويظل الحكم فيهما للقراء.

*

أما في البحوث حيث الدراسة الأكاديمية المحايدة التي تحلل وتعلل من غير تدخل فإنني أمتحن نفسي بما يلي:

1- هل قرأت أغلب ما نشر سابقًا عن الموضوع المدروس؟
وهل أنا أمين في ذكر ذلك للقارئ؟

2- هل أورد فكرة جديدة من اجتهادي وتصوري أم أنني سأنسخ أو أترجم؟

3- هل تكون الاقتباسات دقيقة أم عشوائية؟ وهل هي ضرورية وموظفة أصلاً؟

إن الأبحاث التي كتبتها لا تقتصر على الأدب فقط، بل تجدها تتناول مسائل لغوية، أما النقد فغالبًا ما يدور في فلك الشعر، وقليل منه في بعض الروايات والقصص. وقد جمعت بعضًا من هذه الدراسات في كتابي "دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث" (1992) و"هدي النجمة (2001).

لجأت في كتابتي بين الفنية والأخرى إلى التوقيع باسم مستعار،فكان أن نشرت بعض المقالات بتوقيع "لؤي جعفر" للدفاع عن نفسي بعد أن هوجمت، وكان صعبًا علي أن أحاور المبتدئين في الأدب ممن يتطاولون بدون رصيد أو معرفة، فآثرت أن أناقشهم من وراء قناع.

أما تجربة "أحمد منير" فكانت مثيرة حقًًا:

كُتبت في أواخر عام 1991 وحتى أواسط العام التالي زاوية في صحيفة "الاتحاد" تحت عنوان "مداعبة/ معاتبة" وقد كتبت ست عشر حلقة حول أدباء محليين، وبدأتها بمناقشة الربذي (اسم مستعار لسميح قاسم). ورغم كون المقالات قصيرة إلا أنها كانت مكثفة، واخذ القراء يتساءلون: من هو أحمد منير؟

والطريف أنني نقدت فاروق مواسي، في الحلقة التالية، بشكل فيه بعض القسوة الجارحة، وذلك حتى أبعد الشك عني، ثم إني في بعض الحلقات أقسمت ثلاثـًا أن (أحمد منير)هو اسمي الحقيقي- الأمر الذي أثار تساؤلاً أكثر (وما دروا أن قسمي صحيح،ذلك لأن اسمي في شهادة ميلادي هو أحمد منير- كما سجله جدي في مكتب الداخلية في طولكرم).

كنت أرقب الكاتب منا يفتح الصفحة الأدبية ليقرأ أول ما يقرا زاوية أحمد منير. وكنت أستمع إلى المحاورات الكثيرة حوله، وأعرف أن أعضاء كنيست من الجبهة وشخصيات أخرى كانوا يتحرون عن حقيقة هذا الكاتب، فأسعد بهذا التكتم الذي ساعدني فيه محرر "الاتحاد"- سالم جبران.

وظل الأمر محتملاً وسرًا، حتى نشرت الحلقة الأخيرة "جرد حساب الأدباء" .... وأظن أنني أخطأت فيها الخطأ الجسيم، وذلك بسبب التعميم. عندها قامت القيامة، وأصيب أحدهم بنوبة قلبية خفيفة، وقد اشترط صاحبنا على سالم جبران قبيل زيارته له في المشفى - أن يفصح له من هذا الكاتب الذي "تطاول عليه".

وهناك كاتب آخر غضب،لأنه لم يُذكر إطلاقا في المقال، حتى في باب المآخذ. وخرجت الشتائم القلمية واللسانية والقصائد الهجائية،فيتلقاها أحمد منير، كما كنت أتلقى أنا - مباشرة - بعضها ممن كانوا يسربون اسمي في مقالاتهم الهجومية، والعجيب أن صحيفة "الاتحاد" كانت تبقي على اسمي الصريح، وكأنها توافق الكاتب على ذلك، أو كأنها تعتذر للكتاب على "التجني"الذي مسهم.

ولا زلت أحفظ في "ملف أحمد منير" لا أقل من عشرين مقالاً وقصيدة صدرت في كتاب جمع مقالاته محمود مرعي تحت عنوان "مداعبـــة/ معاتبـــة" - باقة الغربية، إصدار خاص – 2001..

وظلت تجربة أحمد منير تثير أصداء، فثمة كاتب آخر أخذ ينشر في صحيفة "الصنارة" بتوقيع "أحمد منير" دون أن أعرف حتى الآن من هو؟ وهناك صحف ألحت علي أن أعيد الكرّة، وأكتب باسم مستعار، فجربت ذلك مرة واحدة حفاظًا على ود صديق (بتوقيع صادق شامي).

والحق أن تجربة الاسم المستعار مجدية- إذا ظل السر مكتومًا، وإذا حافظت عليه هيئة التحرير – وذلك للأسباب التالية:

1- لأن عنصر المجاملة و "أخذ الخاطر" يقل، فالنصَّ النص قبل العلاقة.

2- لأن النقاش القاسي الجارح الذي يندفع به بعضنا سيكون موجهًا للاسم المستعار،والقراء- بأغلبهم- لا يعرفون من هو، فلا يكون الهمز واللمز مباشرة.

3- لإغناء الحركة الأدبية في مناقشات من شأنها أن تزيد اطلاع الأدباء ومتابعتهم الثقافية.

كان غرضي شريفـًا، ولكن سبل الهجوم المر والسخرية والمتجنية وطريقة الخطاب أوحت لي أن ضيق الأفق في الساحة الأدبية نابع من كون أدبائنا – معظمهم- يعتبرون أنفسهم في مستوى لا يصح أبدًا أن تعالجه معاتبة أو حتى مداعبة، ولم تُجدِ لازمة الزاوية التي كنت أختم بها كل مرة "وتحية حب رغم كل ذلك".

أما كتابي "قصيدة شاعر"- الجزء الأول فقد اخترت فيه ست عشرة قصيدة لشعرائنا المحليين (صدر سنة 1996) - قصائد أحببتها، فكتبت عنها. فيها تنويع في الأداء والمضمون، وفيها تلوين يعكس حركة شعرنا الفلسطيني في الجليل والمثلث، فهنا ذوقي في الاختيار، وذوقي في القراءة، ومعرفتي في التحليل وصولاً إلى المتلقي، وكان في نيتي أن أصدر جزأين آخرين أتناول فيهما الشعر في الضفة الغربية وفي قطاع غزة ثم في المنفى، ولكني آثرت سبيلاً آخر لأسباب شخصية محضة.

وصدرت دراستي عن "القدس في الشعر الفلسطيني الحديث" 1996، بينت فيها أن "قصيدة القدس" – موضوعًا متكاملاً متضافرًا، هي قصيدة مستجدة بعد النكسة 1967 م، فكان أن ناقشها الكثيرون بحدة لا لسبب، إلا لأنني لم أورد اقتباسًا من أشعارهم التي مر فيها ذكر القدس عرَضـًا. ترى الواحد منهم يؤكد أنه كتب " قصيدة القدس " وذلك لأنه استعمل اسم المدينة في بيت من الشعر، وقد نسي هؤلاء أن الدراسة انتقاء، تأخذ ما يسعفها في طرحها، فالموضع هو الذي حتم الضرورة، ثم ليس كل من كتب عن القدس أهلاً لأن تأخذه مأخذ الاستشهاد. ويومها عرفت كم هي مهمة كلماتي في نظرهم....وإلا فلماذا يغضبون؟!

أما الكتاب الذي أصدرته وعبرت فيه عن مواقفي النقدية فهو "أدبيات" (1991)، فقد عالجت مسائل وقضايا تتردد في الأوساط الأدبية نحو الذوق والمعرفة، العلمية في الأدب، سر النص الأدبي، إشكالية المصطلح، السرقة في الأدب، هل الترجمة خيانة... الخ. وأنا أعتز كثيرًا بهذا الكتاب الذي ضم خمسة وأربعين مقالاً نشر أكثرها في " الاتحاد " وبعضها في مجلة " الناقد " التي صدرت في لندن.

إن هذا الكتاب خلاصة تجربة.... كلما عدت إلى قراءته وجدتني مذهولاً به على غير عادتي – فالغالب أن المقال الذي أعود إليه أتمنى فيه إضافات أو حذفًا.

إذن هي كتب أصدرتها تصل إلى أربعة عشر عنوانًا (بما في ذلك طباعة أطروحة الدكتوراه 1995).

إن هموم النقد لديّ كثيرة، وأدعو القارئ إلى أن يقرأ ما كتبت في مجلة " مواقف " عدد أيار 1993 م (ص24) فهناك يجد أنني أتنزّى ألمًا بسبب موقف الصحافة، حيث تفسح المجال أحيانـًا للشتيمة، فتُؤثر (أوثر) السلامة أحيانًا. ويقارع أحيانًا أخرى.

مما أتميز به أنني تابعت وأتابع كل ما يصدر لدينا، أشجع الأقلام التي أتوسم في أصحابها خيرًا، لا أحجم عن رفض ما لا يستحق، ولا أخاف لومة لائم أو لائمة، وحبذا جرأتي لو أني لم أُخلق حساسًا جدًا ومنفعلاً، فهذه آفتي.

لقد حاولت أن أضع مصطلحات نقدية كألفاظ "الواقنسية" "التأدنُس" "الشعر الأفيوني" وغيرها فلم تجد لها سوقًا..... كما أغلقت "الورشة الأدبية" أبوابها، وتوقفت النشاطات سواء من "رابطة الكتاب" أو غيرهما، وقلت المحاورات بين الأدباء في لقاءاتنا بسبب ما تؤدي إلى اللجاجة والخلف وليس إلى البحث والتنقيب.

لقد علمني ابن قتيبة في مقدمة "الشعر والشعراء" درسًا في الموضوعية ظل أثره قائمًا في نفسي. وقد رسخه ما قرأته للناقد ريتشاردز في كتابه "The practical criticism.

فقد عمد إلى قصائد مختلفة، وقدمها غفلاً لطلابه، فعالجها الطلاب بحيادية ودون تأثير مسبق، وكانت محصلة هذا البحث تقديم دليل لصياغة الذوق في الأدب وفق رؤى موضوعية وإشعاعات تفرضها لغة النص.

قلت: ما أحوجنا إلى نتخلص من بريق الأسماء وقدسيتها، وقد قمت بتجربة مماثلة ذكرتها في كتابي "أدبيات".

قدمت قصيدة " الإبرة " لسعدي يوسف لكثير من النقاد والأدباء ليبدوا رأيهم فيها. ويشهد الله أنهم خسفوها أرضًا واتخذوها هزوا (إلا واحدًا منهم حاول أن يذكر السلب والإيجاب فيها).

ترى لو قدمتها ممهورة باسم صاحبها مباشرة فهل سيكون رد الفعل مماثلاً؟!

في صيف سنة 1997 دعيت إلى مؤتمر النقد الأدبي السابع في جامعة اليرموك، وهذه هي الدعوة الأولى (بمبادرة من البروفيسور بسام قطوس) التي توجهها جامعة عربية لي (ولماذا لا أقول " لنا " نحن العرب في الداخل). كانت ورقتي " إشارات الصدق في لقصيدة الوجدانية كما يستشفها المتلقي".

تعرفت إلى عشرات النقاد والباحثين، وبرزت مداخلاتي وملاحظاتي، وقد كلفتني إدارة المؤتمر أن أرأس إحدى الجلسات، فكان ذلك مبعث اعتزاز لي، وقلت لنفسي " تعبك يا.... لم يذهب هدرًا " وتلتها دعوة لحضور مؤتمر عن الحداثة وما بعد الحداثة في جامعة فيلادلفيا في نهاية العام 1999 م، فمشاركة أخرى في الجامعة الأردنية (أيار 2001)، وتوالت الدعوات.

قد يرى البعض أنني أدّعي هنا وهناك، وحتى أظل صادقًا فإنني أعترف بقصوري إذ لم أصل إلى القارئ الأجنبي، ولم أنشر (حتى اليوم) دراساتي باللغات التي تصل إلى العالم وظللت أراوح مكاني (مكانك عد).

إنني أطمح إلى أن أشارك في مؤتمرات أدبية ونقدية كثيرة، وأنا على يقين أن ذلك سـيتحقق لي ما دامت عافيتي بخير.

سأعود إلى ذكر الإيجاب:-

عند انتهائي من هذا الفصل رن الهاتف، فإذا بباحث من غزة يستفتيني في ما يخص دراسته الأكاديمية.

هل هذه إشارة إلى أنني أقدم خدمتي، ومكتبتي لطلاب المعرفة. هذا جزء من قدري أن أعطي وأعطي.

إن النقد أصلاً – هو اتخاذ موقف فيه عنصرا التقويم والتوجيه، وحتى لو كان وصفيًا مجردًا فإن ذلك كله يصب في نهر العطاء وخدمة هذا المجتمع الذي نعيش بين ظهرانَيـــه.

فهل يعتبرني الدارسون ناقدًا حقًـًا؟ هذا هو السؤال.

لعل ما يشفع لي إن عشرات الكتب المهداة لي يقدمها لي أصحابها: "إلى الشاعر الناقد..."، ومعظمها من أعلام بارزين يشار لهم ببنان الحب والتقدير.

شكرًا للأستاذ هاشم ياغي الذي ذكرني في كتابه "حركة النقد الأدبي الحديث في فلسطين"، - 1973، ص 322، وهناك ذكرني بإشارة عابرة."الناقد الحصيف". صفة تبعث على الاعتزاز، ولكن هل أنا كذلك حقا؟! -بالطبع يمكن للبعض نفي ذلك- من يدري؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى