الأحد ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
جماليات المكان

في رواية «خلود» لسمير الجندي

عبد المجيد جابر

العنوان مكون من كلمة واحدة، هي «خلود» وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره «حبي لفلسطين خلود»، والمعنى الدلالي أن حب الشاعر لوطنه خلود ومخلّد وخالد، والمتلقي المتسرِّع يظن أن الشاعر يعشق فتاة اسمها "خلود" بسبب افتتاحية الرواية بالحب والعشق، وتردد اسم "خلود" في ثنايا الرواية في أكثر من ثلاثة مواضع وشغلها لصفحات غير قليلة في الرواية، ومما يجعلنا نحسن التأويل ما جاء في افتتاحية الرواية بالتغني بمحبوبة الشاعر التي اقترن التغني بها بنكسة عام 1967، واحتلال بقية فلسطين، والحب لا يقترن بنكسات ولا بخيبات ولا بضياع وطن، ولنستمع لافتتاحية الرواية والتي تتحدث في ظاهرها عن عشق الراوي لفتاة يوم هزيمة العرب والخطاب موجه لأم متجذِّرة في وطنها تعشق كل ذرة تراب فيه:
(ها هي حبيبتي التي حدثتك عنها ذات صفوة، ها هي من بحثت عنها أنا وأحلامي المتهالكة، ها هي يا أمي... ألم أقل لك بأنني لن أفقد الأمل بلقائها؟

ألم أقل لك يا أمي بأنها تنتظرني مثل ما أنتظرها في مكان ما في هذا الكون؟

ألم أحدثك عن جمالها وحسنها وحنانها؟ أنا لم أصفها لك كما يجب فأنا لا أحسن وصفها، ومفرداتي عاجزة عن الوفاء لحسنها... ها هي يا أمي موجودة أمامي بلحمها ودمها، وسحر عيونها السوداء الآسرة...لم أفض بمشاعري لأي إنسان غير أمي، هي تفهمني وتقدر ما أقول، لم تلمني أبداً ولم تضجر من سماعي، كانت بئر أسراري، كنت أُحدثها عن مكنونات صدري وأصف لها مشاعري، وآخذ رأيها في منعطفات حياتي، كانت تُبدي لي النصيحة التي غالباً ما آخذ بها، لقد كانت سديدة في رأيها... لم تستعجل الأمور، متأنية، صادقة مع نفسها ومع من حولها، لم أنس قرارها المصيري بعدم ترك المدينة مع من تركوها في حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، حين أراد والدي النزوح إلى عمان، قالت له:
 لن نترك هذه المدينة أنا وأبنائي، هنا ولدنا وهنا نموت... (خلود 14،15)

الحبية هنا هي المدينة، هي القدس، هي أرض فلسطين، فلقد نجح الروائي سمير الجندي رغم اتكائه على مرحلة تاريخية من مراحل نضال الشعب الفلسطيني وتقديم الأبعاد النفسية والاجتماعية للبيئة المكانية بعيداً عن أسلوب التاريخ، حيث لا تعني الرواية بتقديم التاريخ المجرد للقارئ. "لأن وثائق التاريخ كفيلة بهذه المهمة، وإنما تكمن قيمتها في براعة الكاتب في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطاراً ينطلق فيه لمعالجة قضية حية من قضايا مجتمعه الراهن ".(1)

افتتاحية الرواية:

تُقاس افتتاحيّة الرواية استناداً إلى وظيفتها، وهي إدخال القارئ عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج بعدُ(2)
وهذا يعني أن الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة من وحدات الرواية، تُمهِّد لما سيأتي بعدها وتفعل فعلها فيه، فضلاً عن أنها تُقدِّم للقارئ المسوغات التخييليّة للحوادث اللاحقة في المجتمع الروائي. وتشير الروايات ذات البناء المتماسك إلى أن الاكتفاء بفقرة صغيرة في عدد قليل من الأسطر لا يستطيع تجسيد وظيفة الافتتاحيّة، ما يعني أن الافتتاحيّة تحتاج إلى شيء من التفصيل يتيح للروائي فرصة بناء نص ذي وحدة وظيفيّة أساسيّة.(3)

و كلمة "وظيفيّة" تشير هنا إلى وظيفة هذه الوحدات على نحو مباشر في إطار بناء العمل)، دون أن يكون القصد من التحليل الانتهاء إلى أن لكل عمل أدبي وحداته المستقلّة عن الأعمال الأدبيـة الأخرى، بل القصد هو الوصول إلى وحدات وظيفية أساسية يمكن استخدامها في تحليل الأعمال الأدبية قديمها وحديثها على السواء. وقد اجتهد البنيويون في هذا الاتجاه، وانتهوا إلى أن العمل القصصي يضمُّ أربع وحدات وظيفيّة، هي: الخروج والعقد والاختبار والانفصال عن المجتمع والاتصال به. ويهمني القـول هنا إن وحدة الخروج تبرز بجلاء في افتتاحية الرواية الجيِّدة، وتغيم أو تتلاشى في الروايات الضعيفة.(4)
ففي رواية (خلود) نرى أن الشخصيات الرئيسة كالراوي ووالده وأمه وأصدقائه، تبرز كلها في الافتتاحيّة راغبة في الخروج من أسر المرحلة السابقة إلى رحاب مرحلة جديدة. يريدون الخرج من هول النكسة والاحتلال والعودة للقدس الوطن والوقوف بثبات وشموخ، ويريدون الخروج من الفقر والعوز إلى الغنى وتحمّل شظف العيش، والخروج من الجهل إلى العلم، حتى "خلود" تريد أن تخرج من بيت زوج يمتهن كرامتها ولا يراعي مشاعرها إلى رحاب أوسع تُحترم فيها الإنسانية والمشاعر.

( توافر الوحدة الوظيفيّة دليل على جودة افتتاحيّة الرواية وتماسكها، وأن بناء هذه الوحدة يحتاج إلى عدد وافر من الصفحات الروائية. وليس شكل الوحدة مهمّاً بعد ذلك، سواء أكان رحلة روائية أم كان انتقالاً من موقع إلى آخر. ذلك لأن الوحدة الوظيفيّة، مهما يكن شكلها، قادرة على تحديد مسار الرواية، وطبيعة السرد فيها، فضلاً عن إثارتها شغف القارئ وحفزه إلى القراءة، والتمهيد لبناء الشخصيات واختراق الأمكنة الروائيّة.(5)

بناء الفضاء الرّوائيّ

الفضاء الروائي والمكان الروائي مصطلحان بينهما صلة وثيقة وإنْ كان مفهومهما مختلفاً. فالمكان الروائي حين يُطلَق من أيّ قيد يدلُّ على المكان داخل الرواية، سواء أكان مكاناً واحداً أم أمكنة عدّة. ولكننا حين نضع مصطلح المكان في مقابل مصطلح الفضاء بغية التمييز بين مفهوميهما فإنـنا نقصد بالمكان المكانَ الروائيَّ المفردَ ليس غير، ونقصد بالفضاء الروائي أمكنةَ الرواية جميعها. بيد أن دلالة مفهوم الفضاء لا تقتصر على مجموع الأمكنة في الرواية، بل تتسع لتشمل الإيقاع المُنظِّم للحوادث التي تقع في هـذه الأمكنة، ولوجهات نظر الشخصيات فيها. ومن ثَمَّ يـبدو مصطلح الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من مصطلح المكان.(6)

ويطلق عليه عادة الفضاء الجغرافي، وهذا الفضاء ليس منقطعاً عن دلالاته الحضارية والاجتماعية، أي أنه ليس مجرد مكان، بل حيويته تتجلى من خلال حركة الشخصيات والعلاقة المرتبطة بزمن معين .
تحتوي كل رواية على مسرح تقع فيه الأحداث وتتصارع في ميدانه الواسع الأفكار والشخصيات, أصطلح عليه النقاد بـ(الفضاء) – أو المكان, ويؤلف المكان إطارا ً محتويا ً ومتفاعلا ً مع بقية العناصر البنائية الأخرى, ويقوم المكان بأداء وظائف عدة في النصوص السردية, لعل أبرزها في نظر النقاد هي قابليته لاستيعاب الزمن مكثفا ً فيه(7) , فوظيفة المكان تتمثل (في احتواء الزمن مكثفا ً في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها" (8)

ومن الأمكنة التي تظهر في الرواية وأغلبها حارات القدس وأزقتها وشوارعها ومبانيها التاريخية ومقدساتها وفلسطين، ويتسع الفضاء المكاني وينتشر ليبلغ أغلب أماكن العالم وأقاصيه، فظهر في رواية خلود الأماكن التالية:
" المدينة "القدس"، الملجأ النتن، الساحات، حوش الغزلان، وحوش الشاي، فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل الست أُميلا، والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، يافا، باب السلسلة، سوق العطّارين، مقهى باب السلسلة، الحرم، خان السلطان، ساحة الخان، وغرفه الصغيرة، مخبز درجة الطابونة، مفترق حارة الشرف وسوق الباشورة وسوق الخواجات، محل "أبو أيوب" ومدخل الحي، سوق خان الزيت، الحوانيت المغلقة، طريق عقبة التكية، عقبة المفتي، بيت المفتي، دير ياسين، طريق الآلام، السيد المسيح، الحاج الجليل، غرفة النزوح وتتكون من غرفتين يصل إليها المرء خلال سلم حجري ودهليز مظلم، عمان، نهر الأردن، حافلة الرحيل، العيزرية، أريحا، باب العامود، باب الأسباط، المقبرة اليوسفية، السور، باب الساهرة، مسجد الشوربجي، باتجاه شارع الواد، المدرسة، سوق خان الزيت، المدرسة العمرية، المدير، غرفة المدير، أحد المعلمين، المعلمون، المسجد الأقصى، منزل بحارة السعدية، قبة الصخرة، منزل الراوي بحارة السعدية، بيت صفافا، مكتبة العمرية، الجار علي العازف، إحدى الدول الأوربية، والمساجد والمدارس، مدرسة القادسية، إيطاليا، جامعات ميلانو، مطار عمان الدولي، الأردن، الجامعة الأردنية، فنادق المدينة، صالة الفندق، نيويورك، أمريكا، بيت حنينا، فنادق منطقة الشميساني، وجبل عمان، المدرسة الثانوية في نيويورك، مطعم هاشم في عمّان،"الكوفي شوب" الموجود في بهو الفندق، الغرفة ستة عشر في فندق الوردة الحمراء، الأزقة العتيقة، الراهبة،، مدن وقرى ومخيمات فلسطين، ملعب الروضة، شارع الزهرة، شارع صلاح الدين، شارع السلطان سليمان، مدرسة الرشيدية، سوق الجمعة، البلدة القديمة، المدرسة البكرية، باب الملك فيصل، باب الغوانمة، زقاق الزاوية النقشبندية، بيت أم سعيد،مستشفى الهوسبيس، عقبة الخالدية، عقبة السرايا، القيرمي، السجن، المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا وسويسرا وايطاليا، والدول الإسكندنافية ودول أمريكا الجنوبية، برلين وجدارها الذي صار أطلالاً، الباسك في اسبانيا، أمريكيا الجنوبية: فنزويلا وجواتيمالا، وهندوراس، ونيكارجوا... ، المشفى، ساحات المدرسة العمرية، كنيسة الفرنسيسكان المجاورة للمدرسة، الكنيسة الأرمنية، كنيسة صغيرة جهة شارع الواد، كنيسة تسمى فيرونيكا وهي المرأة التي مسحت وجه سيدنا عيسى عندما وقع على الأرض ووجهه مضرجا بالدماء، عقبة المفتي، وهذه المحطة وكنيستها الصغيرة لا تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة في أثناء "الدورة"، دير يوناني على اليسار في أول عقبة الخانقة ويدعى دير "خرلمبوس"، عقبة الخانقاقو، حارة النصارى، كنيسة القيامة. إحدى مدارس القدس الابتدائية، ساحات للرياضة والنشاطات، مكتب مدير التربية، شارع نابلس، بيت لحم، رام الله، الخليل، مدينة البيرة، غزة، الوطن العربي، فلسطين، تايلند، بانكوك، ميناء جزيرة "كو ساميت" السفينة، الحدود، مدينة "بتايا"، نادٍ للرماية، والشاطئ الذهبي، باكستان، حانوت عبد الله ميناس وبيته، الميناء، السوق، مستشفى رام الله، حاجز الرام العسكري، المركز الصحي، غرفة مكتب دكتور العائلة، مستشفى هداسا، عين كارم".

وبما أن وظيفة المكان تتمثل في احتواء الزمن مكثفا ً، فلزام علينا أن نوضِّح عنصر الزمان. "فللمكان الروائي أهمية كبيرة لا تقل كثيرا ً عن أهمية الزمان, وإذا كانت الرواية في المقام الأول فنا ً زمانيا ً يضاهي الموسيقى في بعض تكويناته, ويخضع لمقاييس مثل الإيقاع ودرجة السرعة, فإنها من جانب آخر تشبه الفنون التشكيلية من رسم ونحت في تشكيلها للمكان.(9)

ويظهر الزمان جليا في رواية خلود ليشمل:

"حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، والهجرة القصرية عام ثمانية وأربعين، ومعركة سكة الحديد في يافا في العام تسعة وثلاثين وتسع مائة، وأيام الخميس، وليالي الشتاء الباردة، والساعة الثالثة والسابعة مساءً، والقرن السادس عشر، ويوم الأربعاء، والاعتقال ومدته المتوقعة سنة أو سنتان، والساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار العام ستة وسبعين، ويوم ويومين وأسبوع وشهر وسنة، خمسة عشر دقيقة، وخمسة عشر عاما، وبداية الانتفاضة الأولى، وحب الراوي لخلود مدة عشرين سنة، واستغراق العملية الجراحية لمصطفى غضون أربع ساعات، ويوم المعلم، ويوم الأم، ويوم العامل، ويوم الأرض؛ ويوم الشهيد، والأسير، والشجرة؛ وحزيران، وآب، وأيلول".

وقد استخدم الراوي تقنية الحذف، أما تقنية الحذف فقد لجأ الراوي إليها ليسقط مرحلة كاملة من زمن القصة، وبهذا الإسقاط سرَّع الراوي من حركة السرد، فحذف الراوي الكثير من الأحداث التي مرت معه أثناء دراسته في عمان، فلم يذكر شيئا عن دراسته أو جامعته إلا صفحات معدودة حول لقائه بخلود وحديثه مع ليلى تمهيدا لعودته إلى الوطن القدس. ولا شكَّ في أن اختزال الزمن في الخلاصة وإسقاطه في الحذف يلبيان حاجة الروايـة إلى الامتداد الزمني من غير أن يضطر الراوي إلى ذكر ما حدث ساعة فساعة، وسنة بعد أخرى. والواضح أن الراوي لجأ كثيراً إلى الحذف، ولكنه لم يُخْفِ في الغالب الأعم المدة الزمنيّة التي حذفها، سواء أكانت يوماً أم شهراً أم سنة أم سنوات.

ومن مواطن الحذف في الرواية، قوله:

"مرت سنة، وأنا على هذا الحال؛ بيع وشراء، ودموع وحزن(خلود ص 42)، فلم يذكر الراوي شيئا عن سجنه خلال السنة التي قضاها هناك.

والراوي يذكر نكبة عام 1948 ويختصر الحديث عنها بلجوئه لتقنية الحذف والتلخيص:

"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر والطير والماء والسماء والأرض؛ كانت نقمة على كل شيء إلا على أبي زهير فقد كانت نعمة ورخاء، تعرّف على أبناء أسرته الذين احتضنوه وقدموا له جزءاً من أرض والده الذي غادرها في سنوات النكبة الأولى عام ثمانية وأربعين، كان أبو زهير أيامها في عز الشباب ولكن والده توفي بعد عام واحد من مغادرته القرية آنذاك... وعندما غادرنا أبو زهير إلى بيته الجديد في بيت صفافا، ترك لنا مذياعه مفتوحاً على نشرة أخبار صوت العرب..." (خلود47،46)

فلم يسهب الراوي كثيرا في الحديث عن الفترة الزمنية من عمر أبي زهير بعد عام 1948.

ويلحظ الحذف بوضوح، فالراوي يعمل أول مرة كمعلم ص 124، وفي الصفحات التي تلي ذلك يظهر فجأة وله دكان يلتقي فيه فجأة بمن أحبها وعانقها وهي خلود في فندق الوردة الحمراء قبل 15 عاما، ولجأ لتقنية الحذف والتلخيص أثناء عمله كمدرس، ولم يتحدّث كثيرا عن متجره وتجارته.
ولجأ لتقنية الحذف في وصف رحلته لتايلند فلم يصف أو يذكر شيئا عن رحلة السفر والطريق ذهابا وإيابا.
التلخيص
إن الخلاصة (أو: التلخيص) تقنية روائية عريقة في الرواية الأجنبيّة والعربيّة على حدّ سواء. والمعروف أن هذه التقنية تختزل الزمن وتُسرِّع حركة السرد، ولكنَّ اختزال الزمن ليس هدفاً للروائي سمير الجندي ولا لغيره من الروائيين، بل هو وسيلة تُحقِّق بعضاً من الأغراض الجماليّـة، وهذا الهدف الجماليّ لا يحتاج إلى تفصيلات حياة الشخصيـة، ولهذا السبب اقترنت تقنيـة الخلاصة عند سمير الجندي بتقنية أخرى هي (الحذف) كما أوضحناه سابقا؛ أي حذف زمنٍ لا تخدم الحوادث التي وقعت فيه الهدف الجماليّ. ومن ثَمَّ كان الحذف قفزاً فوق مدة روائية طويلة أو قصيرة من غير إشارة إلى ما جرى فيها من حوادث ووقائع. وقد استعمل الروائي عبارات تدلُّ على الحذف أو القفز، من نحو : (مرت سنة....) ومثاله قول الراوي:
"ولكنني اليوم أبكي قهراً وألماً، كلما مرّ أمام ناظري شريط الأيام الطويلة التي عملت فيها بظروف قاسية لدرجة القهر)، ليدلَّ على أنه غير راغب في تقديم الحوادث التي وقعت خلال هذه المدة. وهو، كما تدلُّ عبارات القفز المذكورة، يؤثر تحديد مدّة القفز أو مداه، بغية إعلام قارئه بأن ما جرى في هذه المدة المحذوفة لا أهميّة له لأنه لا يختلف في شيء عمّا يُلخِّصه .(10)

ويلجأ القاص سمير الجندي إلى تقنية التلخيص، فقد صور أحداث النكبة وما تلاها حتى عام 1976 بخمسة وسبعين صفحة، لكنه لخص فترة قضائه السجن مدة عام كامل بصفحة واحدة فقط. (خلود 90)

يشكل الزمن عنصراً بارزا في رواية "خلود"، فقد تنقلت بنا الرواية عبر أزمان مختلفة من عمر القضية الفلسطينية، ومن الجدير بالذكر أن عنصر الزمن له خصوصية وهيمنة في هذه القصة، بل يكاد يتربع على عرش السرد فيها ويبشر بغايته المكنونة منذ العنوان، وهو يسير في ثنائية غير متوازنة، يطغى فيها الماضي على المستقبل، ويتلون الحاضر بأصباغ الماضي وأطيافه. للماضي فيها بعدان: أحدهما بعد النكبة، وثانيهما قبل النكسة".(11)

11. ينظر تقانات السرد القصصي في زمن الغياب، نبيل أبو علي، ص219، غزة ،2004
الاسترجاع:

ويظهر الاسترجاع؛ أي العودة للماضي خلال الحوار الذي جرى بين الراوي والأستاذ محمود بحديث الأول عن زيارته لتايلند وقد استغرق ثلاث عشرة صفحة، يصور فيها الراوي فترة سابقة خلال رحلة له يظهر فيها جمال تايلند ومأكل أهلها ونظافتها وإباحيتهم، وانتشار المخدرات فيها، ولعب القمار، والسياحة فيها، وجزرها:
"- اسمح لي بأن أحدثك عن زيارتي إلى تايلند، ربما فيما أقول العبرة والدرس... والإجابة القاطعة عن كل الأسئلة."(خلود ص 109).

ومن صفحة72 وحتى ص 79 يحدث السارد ليلى في عمان عن مواجهة للشبان الفلسطينيين واستشهاد بعضهم عام 1976.
وتظهر تقنية الاسترجاع في قول خلود للراوي:

ألم تكن أول رجل يقتحم حياتي؟ "

ألم أسلمك في تلك الليلة زمام قلبي؟" (خلود 128)

ومنه كما جاء على لسان ليلى:"- ألم تقل لي بأنهم سيعتقلونك على الحدود لو رجعت؟" (خلود 72)

ومن مواطن الاسترجاع قول الراوي عندما ذهب لمنجرة السكناجي لاستلام أجرة عمله المرهق ووجده مغلقا ويظهر الاسترجاع للماضي جليا:

"... لم أبك عندما هدموا بيتي في حارة الشرف... لم أبك عندما ضاع أخي يوم طردنا من بيتنا، يومها ضاع ولم نعثر عليه طيلة أسبوع، حسبناه عند الله، حزنّا كثيراً، وفقدنا الأمل في العثور عليه... إلا إننا وجدناه عند جيران لنا ، كانوا قد وجدوه في جلبة الناس يوم طُردنا من بيتنا وحينا، كانوا قد توجهوا آنذاك للإقامة في المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، التي كانت ما تزال تحت الإنشاء، بقي عندهم لمدة أسبوع وعندما مروا عليهم للإحصاء سجلوا أخي معهم في بطاقتهم العائلية كفرد من أفراد العائلة، وكنا قد سجلناه أيضا بنفس الوقت في بطاقة عائلتنا، فبقي أخي مسجلاً لدى العائلتين لمدة طويلة، وبذلك صار له بطاقتين وعائلتين ووالدتين ووالدين ودزينة ونصف من الأخوة والأخوات..." (خلود 9- 91)

وتظهر تقنية الاسترجاع من خلال مواجهة الراوي لجنود الاحتلال والحديث مع أم سعيد عن مواجهة سابقة حصلت بين مجموعة من الشبان وبين جنود الاحتلال:

"دعينا لا نتنكر لمن ذهبوا، ولمن صاروا أوتادا في عمق ترابه،عبد الله، وسعيد، ومحمود الذي كان بطلا بكل معنى الكلمة، أذكر تماما عندما رأينا صورة لينا النابلسي على الصفحة الأولى لجريدة القدس، كانت جميلة جدا لم تنه الصف العاشر بعد، كانت ما تزال بزيها المدرسي المخطط باللونين الأبيض والأخضر، وها هي تُلف بالأربعة ألوان بعد أن قتلها جندي صهيوني أمام مدرستها بدم بارد، غلت الدماء في وجوهنا وعقولنا واشتعلنا غضبا وحزنا، استطعنا تجميع عدد من الشباب والبنات وصنعنا لافتات عليها شعارات تندد بجرائم الاحتلال الصهيوني، تعبيراً عن استيائنا ورفضنا لكل أشكال القمع اليومي للاحتلال، خرجنا من الحرم الشريف قرابة الساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار العام ستة وسبعين، مررنا عبر سوق القطانين صعودا إلى سوق خان الزيت عبر عقبة الخالدية ومن ثم عقبة السرايا فالقيرمي، وعندما وصلنا إلى مفترق سوق العطارين وخان الزيت والدباغة؛ فوجئنا بمجموعة من جنود العدو، لا تزيد عن أربعة جنود، أخذوا بإطلاق الرصاص علينا دون سابق إنذار، فشاهدت صديقي محموداً قد سقط على الأرض، لم أدرك في البداية أنه تلقى رصاصة قاتلة في جبينه من الجهة اليسرى، حاولت مساعدته أنا ومن كان بجانبي وعندما وضعت يدي تحت رأسه كان دمه ساخناً وينزف بشدة، أُحضر باب خشبي، وضعنا الجريح فوقه وطرنا به إلى مستشفى "الهوسبيس" في شارع الواد، كل ذلك ولم تصل الساعة العاشرة، أُعطي الجريح الدم اللازم، حاول الأطباء إنقاذه بكل السبل، خمس ساعات وهو بين الحياة والموت، إلى أن فارق الحياة في الساعة الواحدة ظهراً، فبكته كل العيون، وبكته السماء بأمطار غير معهودة بمثل هذا الوقت من شهر أيار، وبكته الأشجار، وبكته الأقدار وبكته حجارة المدينة، وسورها، وترابها، طيورها.." (خلود 78،77)
ومن الاسترجاع في رواية خلود، ويتحدث فيه الراوي عما قالته له أمه عن نكبة عام 1948 واللجوء:
(لم نعرف وجهتنا، لم تتفوه أمي بكلمة، لازمت الصمت ... لكنها عندما خرجنا من الحارة قالت:
 ها هي قصتنا تتكرر يا بني، أخذت تعيد شريط ذكرياتها، رجعت إلى طفولتها عندما تركت بيتها مع من بقي على قيد الحياة من أبناء أسرتها في قرية زكريا، وبعد أن جاءهم خبر استشهاد والدها في معركة سكة الحديد في يافا في العام تسعة وثلاثين وتسع مائة وألف على يد الإنجليزي المحتل، أخذت تقلب الأمور وتزنها بميزانها الخاص، تُرى أيكون مصيركم مثل مصيري؟ (خلود ص23)

الاسترجاع القبلي: وهو العودة للزمن الماضي قبل أحداث القصة، ومنه في الرواية:

تمنيت في هذا اليوم لو أن والدتي حاضرة لأقول لها: ها أنا يا والدتي قد التقيت بها...
ها هي حبيبتي التي حدثتك عنها ذات صفوة، ها هي من بحثت عنها أنا وأحلامي المتهالكة، ها هي يا أمي... ألم أقل لك بأنني لن أفقد الأمل بلقائها؟

ألم أقل لك يا أمي بأنها تنتظرني مثل ما أنتظرها في مكان ما في هذا الكون؟

ألم أحدثك عن جمالها وحسنها وحنانها؟ أنا لم أصفها لك كما يجب فأنا لا أحسن وصفها، ومفرداتي عاجزة عن الوفاء لحسنها... ها هي يا أمي موجودة أمامي بلحمها ودمها، وسحر عيونها السوداء الآسرة... (ص 14)

ويجمع المحللون والنقاد على أن وعي الإنسان الفلسطيني المبكر لواقعه ولقضيته هو الذي أبرز عنصر الزمن في الأعمال الأدبية الفلسطينية. وقد سبق وعي الفلسطينيين بقية الوطن العربي لواقع قضيتهم، وهذا الوعي العميق تجسد بأشكال متفاوتة ووجد لنفسه مسارات متعدد مع مسيرة التجربة الفلسطينية.(12) .

الزمان والمكان في الرواية الفلسطينية، علي عودة، ص16، ط2، فلسطين، 1997.
الاستباق:

ويتمثل في استعمال الاستباق الزمني في أثناء تحديد هذه الشخصيات. فالروائي سمير الجندي يذكر– على سبيل التمثيل لا الحصر – أن أم خلود تستبق الحوادث الروائية وتعرف ما سيقوله:

يقول الراوي خلال اجتماعه بأم خلود:

"نظرت(أم خلود) نحوي نظرة آمرة تحثّني فيها على الكلام، هي تعرف ما سأقول" (خلود ص 165)
"كان علي مشاورة دلال قبل حضوري، كنت أرغب بمفاجأتها بهذه الزيارة، أن أسعدها، بأنني صرت قريبا من أسرتها، بأنني تقدمت بطلب يدها...هي مفاجأة فعلا، ولكنها مفاجأة سيئة على ما أظن، سوف تعتبرها دلال خطوة تدميرية لعلاقتنا مع أسرتها، سد عال أمام تلك العلاقة، عقبة يصعب تذليلها..." (خلود 166)

"هو(أخو خلود) من سيجد شريكة حياته، وسوف يأتي يوم ويقابل المرأة التي تخطف بصره وقلبه في آن معا، وعندها يتحقق فقط حلم والدتي بتزويجه..." (خلود 173)

"أنا أعرف كم أنت خائفة، وأنا أيضاً خائف، ولكننا لن نهرب من خوفنا، علينا مواجهة هذا الخوف، لأن ما يخيفني أكثر هو ضبابية الحياة هنا في عمان ، بل إن حلمي بدأ يضمحل شيئاً فشيئاً، أنا لا أجد نفسي هنا، أشعر كأن حدود حلمي تنتهي قبل أن تبدأ، لا سماء ولا هواء ولا شجر، المدينة هنا لا تعرفني، ولا أنا أعرفها، لم تسمح لي مشاعري بالتعرف على غير القدس مدينة أعيش فيها، كما تعيش هي في، ولا يمكن لمن عشق القدس أن يعشق غيرها" (خلود ص 79).
"ولا بد من أن تتحرك الشخصيات في مكان لصنع الأحداث و"يصبح المكان وسطا ً حيويا ً تتجسم من خلاله حركة الشخصيات التي تأخذ في مسارها خطا ً مزدوجا ً متناقضا , إذ تبدو أحيانا ً متداخلة ومتشابكة, إلا أنها في أحيان أخرى تبدو متنافرة ومتباعدة فتظهر في شكل وحدات درامية منفصلة:( توحي بمدى ما تتميز به كل شخصية من استقلال واكتفاء, ومن ثم فهي رهينة عالمها الخاص وتجربتها الإنسانية الفريدة" (13)

الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة، سعد عبد العزيز, ص 79 ، مكتبة الانجلو المصرية, المطبعة الفنية ,1970.
وللمكان بعد نفسي داخل النص, إلى جانب وظائفه الفنية وأبعاده الاجتماعية والتاريخية والأيدلوجية التي ترتبط بالمكان ولا تفارقه, فالتركيز على المكان من الاستراتيجيات النصية المهمة التي تلجأ إليها الكتابات الجديدة، فمدينة القدس في روابة خلود. لم يعد المكان ممثلا ً للإطار الذي تجري فيه الأحداث وتتصارع فيه الشخصيات, بل إنه قد يكتسب سمات الشخصية الحية, إذ يتم تحديد أدوار الشخصيات الروائية وفق عمق ارتباطها بالمكان, مما يدفع الكاتب إلى إضفاء صفات خيالية على خصائص المكان الفعلية, وبناء المكان في النص .. يتم على أساس التخيل المحض, إلا أنه لا يمكن أن يكتسب ملامحه وأهميته بل وديمومته إذا لم يتماثل بطريقة أو بأخرى مع العالم الحقيقي خارج النص, فهو يوصل الإحساس بمغزى الحياة ويضاعف التأكيد على تواصلها وامتداداتها.(14)

ينظر: البناء الفني في رواية الحرب- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة، عبد الله إبراهيم، ص 12، دار الشؤون الثقافية- بغداد

الشخصيات

ويعد المكان من العناصر المهمة في بناء الشخصيّة الروائية فلا يمكن أن توجد شخصيّة بدون مكان. فالمكان فضاؤها وحيّزُها الذي تتحرك فيه، فهوَ لا يقلُّ أهمية عن دور الزمان في بناء الشخصيّة، فكلاهما يشكلان دوراً ذا أهمية كبيرة في بناء الشخصيّة وهما متصلان ومتلازمان "فلا يمكن تناول المكان بمعزل عن تضمين الزمان كما يستحيل تناول الزمان، في دراسة تنصب على عمل سرديّ، دون أن لا ينشأُ عن ذلك مفهوم المكان، في أيّ مظهر من مظاهره"(15
...

عبد المجيد جابر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى