الثلاثاء ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
بقلم مادونا عسكر

كمال الحرّية شرطاً لكمال الحبّ وكمال الإنسان

قراءة في قصيدة (بكامل حريتي- جيهان الببلاوي- مصر)

 النّص:

بكامل حرّيتي... أحببتك
بكامل حرّيتي... اخترتك
وبكامل حرّيتي... ابتعدت ...
مثل حصان جامح لم يعد محتاجاً إلى سيّده
تمرّدت...
مثل البحر الهائج فى أوج الشّتاء
أو عواصف الرّمال فى الصّحراء الجرداء
نسيتك...
أو تناسيتك...
تماماً مثل بطرس وأنت تنظر فى عينيه
أهنتك...عيّرتك... حتّى إنّى قد صلبتك...
ومثل بطرس وبكامل حرّيتي... ندمت
ارتميت فى حضنك...
بكامل حرّيتي...صرخت... اغفر لي
بكامل حرّيتي... غمرتني... سامحتني
بكامل حرّيتي... أريدك أن تسبيني بحبك
بكامل حرّيتي...أريد أن أكون حبيسة حبك
بكامل حرّيتي...أنت سيدي وأنا أمتك
بكامل حرّيتي... أنا سجينة محبّتك
بكامل حرّيتي... تفك أسري... تطلق قيودي
بكامل حرّيتي... أنت حرّيتي...

 القراءة:

1) بكامل حرّيتي...
هذا العنوان واللّازمة المتواترة هو المكوّن الدّلاليّ والإيقاعيّ المحوريّ لهذا النّص الابتهاليّ. وهو، أي العنوان، محدّد للموضوع، مدار التّجربة والإرادة والبحث، الّذي في سبيله جعلت المتكلّمة حياتها، تاريخها، مختزلاً في هذه الحركة، أي حركة السّعي إلى بلوغ المرام بالتّماهي بينها وبين المخاطب الإلهيّ. لذلك نجد أنّ الحرّيّة هي القيمة المركزيّة في هذا الخطاب، وهي الغاية والصّنو المثاليّ والأمثل للرّبّ، وهي التّحقّق المفهوميّ له في العالم (أنت حرّيتي..).
وهي أيضاً الحال الّتي لا بدّ منها ليكون المرء قادراً على بلوغ هذه الرّتبة، والشّرط الأوّلي والمبدئيّ للانخراط والخروج في مسيرة طويلة شاقة تفضي، أو لا تفضي، إلى التماهي مع المحبوب الإلهيّ.
لذلك تقترن هذه القيمة مقوليّاً (ثنائيّاً) بسلسلة من القيم والمعاني الأخرى، منها ما هو عرضيّ ومنها ما هو جوهريّ. من ذلك:
• مقولة الحرّية والعبوديّة ( وهي أمّ المقولات والثنائيّات المنتجة للدلّالة في الخطاب..)
• مقولة الحرّية والحبّ ( انطلاقاً من مبدإ كن حرّا لتحبّ..)
• مقولة الحرّية والاختيار ( تجربة الحبّ الإلهي تجربة ذاتية لا تجربة ثقافيّة أخلاقيّة تربويّة..)
• مقولة الحرّية والتّمرّد ( تجربة المعصية والإثم شرط للتّطهّر والتّهيّؤ للّقاء العظيم..)
• مقولة الحرّية والكفر ( النسيان للوعي بالحضور شرطاَ للوجود الحقّ..)
• مقولة الحرّية والنّدم (تجربة الألم تحرّراً من الكبرياء والصّلف..)
• تجربة الحرّية والسّجن ( من سجن العالم إلى سجن الرّب الحبّ..)
• مقولة الحريّة والحرّيّة ( التّحرر من الضّدّيّة والتفكير الثّنائيّ في كنف التماهي بالقيمة المطلقة أو قيمة القيم: الله الحبّ.).

2)الحرية، بين نظام قيم الذّات وقيم العالم.
ينبني الخطاب على وجهة نظر قلبيّة إيمانيّة قيميّة فريدة متميّزة في ذاتيّتها وخصوصيّتها
وهي وجهة نظر مؤلّفة بين جملة من القيم الّتي تبدو متباعدة ومقتطفة من مجالات وجود
منفصلة، إلاّ أنّ رؤية المتكلّمة جمعت بينها وصهرتها في سياق فكريّ روحي متجانس المكوّنات.
لذلك يبدو في الخطاب صوت للحريّة مقابل صوت للعبوديّة، يحاوره وينازله وينفيه ليكون بدلاً عنه، في تشكيل صورة الإنسان كما ينبغي أن تكون ويكون..
والكينونة الإنسانيّة بهذا المعنى تتحدّد حرّيّة من حيث شرط الوجود والفعل. وتطلب المتكلّمة في ذلك مطلق الحرّيّة وكمالها. وهذا وجه من وجوه الحوار والتّفاعل من أجل تنزيل وجهة نظر الذات المتكلّمة منزلتها من العالم. فإن كانت الحرّيّة هي أن يكون الإنسان علّة مطلقة لأعماله، نافية لما عداها من العلل والسلطات الخارجيّة، فإنّ هذه العلّيّة الذّاتيّة مطلوبة باعتبارها مبدأ مطلقاً كاملاً بلا نقص ولا نسبيّة، أي نفياً كاملاً لنقيضها، وهو العبوديّة، باعتبارها خضوعاً لإكراهات وقوى خارجيّة قاهرة محدّدة للسّلوك والمصير، كما حدّدت الوجود والنّشأة والكينونة.
بهذا المعنى تقابل المتكلّمة بين الحرّيّة والعبوديّة، لتخرج من تلك الثنائيّة الكلاسيكيّة الّتي تحكم العالم بمنطق النسبيّة والمعقوليّة، لأنّها تأبى الحرّيّة حين تكون وجهاً مقنّعاً للعبوديّة (الحرّيّة المحدودة مقابل العبوديّة المقبولة ثمناً لذلك.) وتخرج من سياق العبوديّة حين تكون انتفاء للحرّيّة وتكريساً لسلطة الآخر كائناً من كان، حين تكون تلك السلطة القاهرة وضعاً جبريّاً بأسماء توهم بالحرّيّة ( الحرية الفردية والمدنيّة، حرية الوعي والتعبير والعمل في نطاق "احترام" القوانين.).. وحين تغادر الذّات المتكلّمة المنطق الثنائيّ التّقابليّ، تكون في دائرة الحرّيّة في كمالها وذروة تجلّيها، بالانتفاء المطلق لما ينزل بها ولو درجة واحدة عن ذروة المطلق، حيث لا حرية تقابل العبوديّة، بل حيث الحرّيّة فقط، حين تعانق الحبيب الإلهيّ، المعبّر عنه استعاريّاً في العالم بعبارة "الحرّيّة" :

أنت حريتي .
بهذا التّوجّه تجعل المتكلّمة قولها خطاباً تأسيسيّا فيه إعادة تحديد للمفاهيم وللإنسان حاملاً لتلك المفاهيم ومتحدّداً بها.

3) الذّات المتكلّمة، حرّيّة الحبّ، حبّ الحرّيّة، حبّ الله.
جعلت المتكلّمة من خطابها قصّة. قصّة حبّ كونيّة، وخاصّة بينها وبين المخاطب الإلهيّ الحبيب المتعالي والحاضر حضور الخطاب، وحضوره ضميراً محوريّاً، منه وله كلّ المعاني والقيم والعواطف. وبذلك أرادت لصوتها أن يكون صوتها الفرديّ في خصوصيّته وإنّيّته وسياق وجوده المستقلّ، كما أرادته صوتاً للإنسان وللإنسانيّة في تاريخيّة العلاقة بينها وبينه، وبين الله، حبيباً لكلّ محبّ..
وإجلاء لهذه الخصوصيّة وهذه التّاريخيّة، برز في الخطاب (وهو خطابات) خطاب سرديّ اختزل العلاقة منذ نشأتها، وفي مختلف تقلّباتها وتحوّلاتها، انتهاء إلى مآلها واستقرارها. وجاءت، القصّة محكيّة بضمير المتكلّم، محوّلة الحدث حالاً وقيمة وفكرة وموقفاً كونيّاً:
أحببتك
اخترتك
ابتعدت
تمردت
نسيت/تناسيت
أهنت/عيّرت/صلبتك
ندمت
ارتميت
صرخت
غمرتني
سامحتني...

وليس خفيّاً ما تتّسم به هذه السّرديّة الاعترافيّة من تاريخيّة ونفحة يسوعيّة، قائمة على مبدئي الاتّصال والانفصال، والقرب والبعد، والإثم والغفران، والنّدم والتّطهّر. ولعلّ الأهمّ من كلّ ذلك هو ردّ هذه القصّة الكونيّة، أي قصّة الحبّ بين الإنسان والله، إلى مبدإ وحيد، هو مبدأ الحرّيّة، مهما كان الفعل، وإن كان إثماً. إذ الإثم هو السبيل إلى مطلق الطّهر، ومن لم يأثم لم يطهر، ولم يندم، ولم يبك ولم يألم، ولم يدع ولم يصلّ، ولم يحظ بصدر الحبيب يغمره ويغفر له، ويعلم أنّه عائد إليه بعد إباق وتمرّد ومروق، ليكون له وفيه ومنه أبدا، مثلما كان أزلاً..

4) قصيدة حبّ. قصيدة إيمان.
هكذا تكون المتكلّمة قد كتبت قصيدة في الحبّ المطلق تختاره بمطلق الحرّيّة، لأنّه متعلّق بالمطلق الإلهيّ المتعالي عن النّاقص والنّسبيّ، فلا يجدر به إلا أكمل الحبّ.
وكان لها في ذلك تمجيد للحبيب الإلهيّ، وللإنسان عاشقاً بالغاً في عشقه كمال رتبته في الكون، مستعيداً أصل كينونته العلويّة الجوهريّة. وبذلك تعلّم الشّاعرة الإنسانيّة أن لا سبيل إلى استعادة تلك المنزلة السنيّة إلا بالحبّ. بكامل الحرّيّة...

قراءة في قصيدة (بكامل حريتي- جيهان الببلاوي- مصر)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى