الأحد ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم جمال الجزيري

ربما وكأن

حركات وئيدة تكاد تموت على المدقات بين الغيطان. إذا ما رفعت رأسك قليلا، ستجد أقداما انفتحت بها بعض الشقوق. ارفع عينيك قليلا، ستجد الأرجل نحيلة و"ممصوصة". السراويل البيضاء فقدت لونها وأصبحت سوداء ربما، رمادية ربما، بنية ربما. لكنك لن تعرف لها لونا محددا. سترى الصديري ملتف حول صدور نافرة دون امتلاء، ولو دققت النظر لاستطعت أن تعد العظام. وإذا طال بصرك أو كان عندك بعض من فراسة المغربي، ستبصر القلب ينبض بشدة وكأنه يتمرد على شيء ما أو كأنه لا يحتمل شيئا ما أو كأنه حمل بما لا يطيق. وها هو يرتجف، يهتز، يتمرد، ولا يملك إلا أن يعود إلى مكانه غير راض.

إذا رفعت عيناك إلى الوجه، ستصدمك التجاعيد التي دبت فيه وترعرت وكسته بسمرة رمادية قد تستشف منها أن هذا الوجه عاش مائة عام. لكن بعض العيون – بالرغم من طبقات الحزن أو الشرود التي تكسوها – ستقول لك أن هذا الوجه لم يبلغ من العمر أي شيء، وستخبرك أن دفقة حياة متجمدة في العيون – ربما في طور سكون، ربما تكفن نفسها، ربما يئست من كل شيء، وربما تحاول الإفلات من قبضات السكون والتوقف. لكن محاولاتها لا تلبث أن تحاصر بالرغم من الثقوب التي ملأت الطاقية والبلى الذي تسرب إلى الشاش الملفوف حولها.

بعض الأغنام عائدة إلى حظائرها يسوقها صوت الناي الذي ينفطر من روح الراعي الذي يسير بخطوات متوانية بطيئة، كأنه لا يود الرجوع، ولا يقدر أن يرى هزال الأغنام. لكن عليه أن يرجع. فأشعة الشمس البرتقالية – التي لا تحمل برتقالا ولا ليمونا ولا رمانا – تطالبه بالعودة، خاصة وأن حمرتها طغت على اللون البرتقالي، وكأنها تصيح فيه مهددة منذرة، وكأنها تسوق خطاه إلى الحظيرة أو البيت الذي ربما كان عمنا حسن فتحي يحلم به لكنه مات قبل أن تظهر بوادر حلمه.

ها هو يعود وها هي القرية تستقبله بفتور – وربما بلامبالاة، وربما بلا رغبة في أي شيء، فلقد تساوت عندها الأمور، وربما من السأم والملل من أي شيء وكل شيء. أول ما يصادفه شجرة الصفصاف على أعتاب القرية، وقد سقطت كل أوراقها وأصبحت أغصانها جافة شمطاء تضن بأي شيء. ربما وربما وربما… يقولون كلاما كثيرا، قد يختلف في تفاصيله، لكن تبقى دلالته الكلية محفورة في قلوب الأهل التي اهتزت من جراء الحفر. ففكروا في مقاومة الحفر بالحفر… لكنه الآن يرى أن الأرض تبخل عليه حتى بما أخذته.

ستدخل القرية. لن تجد بيوتا طينية أو أعشاشا أو أكواخا. سترى بيوتا "مسلحة"، طوبها أحمر، اصطفت على يد بناء ربما كان يحلم أن يجعلها قصورا أو بيوتا جميلة، ربما كان يحلم أن يرى فيها أثاثا بسيطا أنيقا يستر من برد الشتاء وعيون الضيوف التي قد تتلصص أحيانا لتستكشف الحال. ربما كان يحلم أن تدب راحة البال ويسار الحال بين جدرانها. ربما كان يحلم أن تمتلئ الحظائر التي بناها في مؤخرة البيوت بالمواشي والأغنام. ربما كان يحلم أن… لكنه أكمل الصبة (السقف الخرساني) للدور الأول فقط دون أن يستطيع أن يصب الدور الثاني. فبقيت حظيرة واسعة خالية من أي شيء إلا غنمة أو غنمتين هزيلتين، ومنضرة واسعة بها بعض الدكك التي تكسوها (فراشيات) دون أي مراتب ينام عليها الأولاد والشباب بدلا من الضيوف، وإن جاء ضيف يشاركهم النوم عليها. وحجرة داخلية مفروشة بالحصر التي تنام عليها البنات. وإذا صعدت إلى الدور الثاني، ستجده أجرد من أي شيء إلا (حراما) مفروشا على الأرض لينام عليه الحاج والحاجة وبجانبهم صندوق خشبي به بعض الأشياء القديمة التي جلبتها العروسة/ الحاجة معها ليلة دخلتها. فتلاشى معظمها مع الزمن وبقيت بعض الأشياء التي تقاوم البلى أو الكسر أو عبث الأطفال أو عيون الحاسدين الذين كانوا يجدون في زمن ولى أشياء يحسدونها. فخزنت في هذا الصندوق لتعود إليها الذكرى من آن لآخر. كانت هذه الذكرى كثيرة الحضور فيما مضى. أما الآن فما عادت النفوس إلى ذكراها، وما عادت تحتمل التذكر. ففي الذكرى حياة وعندما تشتد المقارنة يركن في النفوس اليأس وربما التمرد على ما صار. في جانب الحجرة سرير بعمدان حديدية: تلاشت الملاءة التي تكسوه أعلى العمدان وضاعت بعض الألواح الخشبية التي كانت تفرش أرضيته، ربما حزنا على المرتبة التي عبث بها الزمن كما شاء، فبقيت بعض الألواح شاهدة على سرير كان يهتز يوما ما من نبضة حياة بين قلبين متآلفين أو من دفقة حياة في عروق شابين وربما رجل وامرأة صغيرين. ولم تعد هذه الألواح تنفع في أي شيء إلا أن توضع عليها ملابس الرجل وزوجته بعد أن كبرا قليلا وشاخ قلباهما من الهم أو ضيق الحال أو رؤية أولادهما عاجزين عن الشعور بنبضة الحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى