الثلاثاء ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٥
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

نكوص الرجال

يومها، وعلى مقعدها الذي وصفته لزوجها بـ" مقعد أسطوري" يوم شرائه من بائع أثاث غريب متجوّل، جلستْ تنوح أمام نسوة المدينة نواحًا مريرًا، محمّلاً بقطعٍ من أحزان سوداء تنبعث منه اهتزازاتٌ لهاث متقطّعٍ: "لو فُقئتْ عيني خير لي من فقدان زوجي.. لو فقدتُ مالي خير لي من فقدان شريك حياتي. لو ... لو... سأنتحر من بعدك يا "فؤادي".. لا تتركني وترحل!! انتظرني سآتي معك!! ثمّ انتابتها ثلاث حالات إغماء.

أضحت امرأةً أرملةً. وفي الحقِّ أنها كانت تتمنّى لو أنها لم تفقد زوجها الذي أحبته أكثر من نفسها، لكن قدرها أربك كيانها واختطفه من بين يديها. تركها وحيدة تكابد مع طفلين صغيرين ليالي الغربة. كانت وما زالت مشاعر الخوف من مجاهيل الحاضر والمستقبل، تنتابها، وفي بعض الأحايين تحسّ أن روحها تحاول أن تخرج من جسدها والمعذّب، وتحسّ بعدها باختناق شديد فتسارع في الخروج إلى الشرفة لتتنفس شيئًا من الهواء..

لم تنتحر الأرملة يومًا؛ لأن الانتحار حرام.. وملفّ العدّة أُغلق ولم يعد أحد يتحدث عنه ومن الممكن الاحتفاظ به الآن في متحف الذكريات.. نسي الناس والأقارب والجيران حادثة الغرق، وطيفه أخذ يتلاشى من خيالها شيئًا فشيئًا، والحياة عادت تدبّ في البيت، ولو بصورة أخرى، من جديد.

أحسَّـت أنها صارت غريبة في وطنها.. نصفها المفقود لم يعد يحتلّ مكانها في وجودها.. الحضن والقبلة عند الغدو والرواح باتت محرمة عليها إلى الأبد. والناس.. نعم والناسُ، فيهم من ينظر إليها، نظرة مشبّعةً بالشفقة والرأفة، وينظر البعض الآخر منهم أنها صارت فريسة يسهل اصطيادها. الثعالب والضباع والذئاب ما كانت لتتكالب عليها لولا هذا القدر الذي قُدّر لها. تنظر خلفها إليهم نظرة استهجانٍ وتقول في نفسها: "صحيح أنني الآن صرت أرملةً في مجتمعٍ شرقيٍّ يهوى العنف ويعشق الغيبة ويحبّ الفوضى، وأعترف أنَّ الصَّدمة التي أُصبتُ بها لم تكن بتلك السهولة التي يتوقعها البعض، ولكنني، لست أنا التي تقع في شباكهم. ولست أنا من تكون هدفًا لرغباتهم"..

تقف أمام المرآة وتتذكَّر كيف شعرت بفرحة عارمة حين سماعها لقائد الطائرة أثناء مرافقتها لزوجها المرحوم في رحلة استجمامٍ وهو يردّد عبارات فَهمت بعضًا منها: "أهلا بكم في باريس، الساعة الآن هي العاشرة صباحًا والطقس غائم ودرجة الحرارة بلغت الخامسة عشرة مئوية"، أحست وقتها أنها في بلاد الغرب وقد انتقلت من عالم الدّنيا إلى عالم الآخرة.. من عالم مليء بالصراعات حيث البغضاء والقتل والنفاق إلى عالم الحبّ والتضحية والحياة. لا تدري حينها لماذا تذكرتْ أنّات تلك الفتاة التي تقطعت بها السبل فمزقت جسدها خناجر غدر قريبة، ثمَّ دُفنتْ جثتها تحت ركام في كرم زيتون قرب المسجد. لا بدّ أن المسكينة قد صرخت يومها بأعلى صوتها: "أماه انقذيني.. أين أنت يا أماه".. أيحدث مثل هذا في باريس؟ وراح خيالها يسير بها في طرقات ماضٍ كأنه لم يكن.

تتقاذف نفسيتها أفكار جديدةٌ مبهمةٌ أمام مرآة صمّاء لا تزيّف شيئًا من الحقيقة فتهمس لها بجرأةٍ:
 "كم أنتِ جميلةٌ وصغيرة يا "إيثار"! ألا يحقّ لك أن تعيشي حياتك كباقي نساء الأرض؟ هذا القدّ الميّاس وهاتان العينان الفاتنتان والوجه البهيّ، إلى متى ستعيشين في غربة.

 لا.. لا.. والناس؟ ماذا سيقول الناس عنّي؟ يقولون تخلّت عن طفليها وتزوجت! لن أتخلّى عن أطفالي مهما طال بي الزمن..

صفحة موقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" لا تزال متوشّحة بالسّواد. صحيح أن الأصدقاء فيها قليلون، وجلّهم من الأقارب وبعض المعارف وقليلات من صديقات الطفولة، إلا أنّها اعتادت أن تتكاتب فقط مع ابنة خالتها صديقة العمر "رزان".. كتبت لها ذات يوم في خانة الدردشة من على صفحتها:

"إلى متى ستظلّين هكذا يا "إيثار"؟ لماذا لا تفكّرين بالزواج؟

الزواج؟ هل جننتِ؟ وولديَّ؟؟!...

هذه حياتك وأنت حرّة فيها..

ذات مساء، نشرت وهي متمددةٌ في سريرها، عبر هاتفها الذكيّ على صفحتها: "الحياة كلّها ملل في ملل".. ما إن سارعت الإعجابات بالمنشور في الظهور.. وذيّلته تعقيبات مختلفة راحت تشجّعها على الصبر والصمود، حتى تسلّلتْ نحوها رسالةٌ عبر خانة الدردشة الالكترونيّةٌ تقول:

 الملل! ماذا يعني لك الملل؟ نحن نصنعه بأيدينا، ومن الممكن أن نحاربه بشتى الوسائل التي أتيحت لنا.
الصفحة الشخصية لصاحب الرسالة لا تخفى عليها. تأملتها جيّدًا.. نبضات قلب متسارعة، وحيرة متذبذبة انتابتها.. أَتُعجِّل في الردّ عليه أم تؤجّل ذلك حتى الصباح؟ هذا "غالب" معروف باستقامته، وهي تَعرف أنه سائق تاكسي أمين لا يمكن أن يعاكس الصبايا. لا تفهم السبب الذي دفعه لأن يبذل كل ما في وسعه ليكتب لها هذه الرسالة. صرير الباب أيقظها من حيرتها.. قطَّع حبل أفكارها الممتدّ بين أحداث الماضي وآفاق المستقبل.. الصبيّ المستيقظ للتوّ من نومه، يقول لها وهو يفرك عينه اليمنى: "عطشان، وأريد أن أشرب". قفزت من سريرها بلا وعيٍ، واتجهت بسرعةِ البرق نحو المطبخ. ولم تدرِك أناولته كوب الماء وأرجعته إلى غرفته أم عاد لوحده.

لأوّل مرّة تتحدّث مع شابٍّ من خارج دائرتها.. يعرّف لها نفسه بأنه يشفق عليها وهو على استعدادٍ تامٍّ لتقديم يد العون لأنّ معاشها الذي تتلقاه من التأمين الوطنيّ لا يكفي لسدّ جزء من حاجات البيت. هذا التأمين يقتصّ من رواتب الناس طوال حياتهم، ويتباخل عليهم وقت الحاجة. ونحن العرب دوافعي الضرائب لا نحصل إلا على جزء قليل مما تقدّمه الدولة لمواطنيها في جميع المجالات. أين هي ميزانيات التطوير؟ أين نحن العرب من الأموال التي تمنح للأوساط الأخرى؟
المسألة لها قيمتها. ولكن طرح مسألة كهذا لا تعنيها كثيرًا.. كل إنسان متخصص في مجاله. ومسايرته في مثل هذه الحالات خير من أن تظهر كمن لا تعرف شيئًا فيها.

ذات صباحٍ بعد فراغها من إيصال أطفالها إلى المدرسة بعث إليها نصًّا وفيه يقول:

سأكتب أحبكِ بكل الألوان.. عندما يعزف لنا الكمان، ويدق القلب بأعذب الألحان.. سأكتب أحبك بين اللؤلؤ والمرجان.. سأكتب أحبك كما تحب وتعشق الغزلان.. سأكتب أحبك برائحة العطر ورائحة الريحان.. سأكتب أحبك وأنثرها في غابات السنديان.. سأكتب أحبك بالصفاء والأرجوان.. سأكتب أحبك من أعماق قلبي الولهان.. سأكتب أحبك في كل مكان.. سأكتب أحبك وأنتِ لي عنوان.. أنتِ لي عنوان..

تُرى ماذا يحدث له؟ ماذا يحدث لو علم أحدهم أنني أحادثه وأراسله؟ لن يكون أمامي خيار سوى الانتحار.. لما كلّ هذا الانجراف؟ يا ويلك يا "إيثار"! أنسيتِ أنّك تعيشين في مجتمع مزيّفٍ، يصدّق الكاذب ويكذّب الصادق؟ أنسيتِ أن فيهم رجالاً يتقمّصون الدّين، والدّين منهم براء؟ هل تذكرين ذلك الشيخ الذي زيّف شيكًا بنكيًّا بجرة قلم صغيرة؟ أنسيتِ أنّه تحدث فيه كلّ يومٍ أفلام أحداثها تتجدّد ثمّ تتكرر. فتاة هربت مع عشيقها، وأخرى أحبَّت أعزّ صديق من أصدقاء زوجها، وتلك انتهى بها المطاف وراء القضبان.

تململت طويلاً وفكّرت مليّا، وأخيرًا كتبت له:

اسمع يا هذا! مجتمعكم هذا أكرهه. أنا أعرف نيتك وغايتك من كلّ كتاباتك. إن لم تتوقف عن محاولاتك هذه، فلسوف أفضح أمرك وتكون مسرحيّةً يشاهدها جميع الناس.
نكص الرجل وعاد من حيثما أتى...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى