الخميس ٩ تموز (يوليو) ٢٠١٥

الحكم الرشيد واشكالية التنمية: مقاربة مؤسساتية

الاخضر عزي-محمد بوضياف المسيلة-

تصدير اطروحة الدكتوراة الموسومة: (الحكم الرشيد واشكالية التنمية: مقاربة مؤسساتية. (الاشارة الى حالة الجزائر) .
للباحث: غالم جلطي، جامعة ابي بكر بلقائد، تلمسان-الجزائر.

يوم الاثنين: 19 رمضان المعظم 1436ه ، الموافق ل: 06 جولية2015 م ، ناقش الباحث المتألق: غالم جلطي اطروحة دكتوراه في العلوم الاقتصادية، شعبة: التسيير، والتي حملت عنوان : (الحكم الرشيد واشكالية التنمية: مقاربة مؤسساتية ،مع الاشارة الى حالة الجزائر) .وقد تشكلت لجنة المناقشة من:ا.د/ محمد بن بوزيان رئيسا، ا.د/ عبد الرزاق بن حبيب مشرفا ومقررا، ا.د/ عبد القادر دربال من جامعة وهران ممتحنا، ا.د/الاخضر عزي من جامعة المسيلة ممتحنا، ا.د/ رشيد يوسفي من جامعة مستغانم ممتحنا، د./عبد الله بن منصور من جامعة تلمسان ممتحنا، ونظرا لأهمية الموضوع؛ نعرض موجزا عنه ؛ عله يقدم اضافة جادة الى ابحاث ذات صلة مثل: الحوكمة والاستراتيجيات الاستشرافية والمستقبلية للاقتصاديات المعرضة لازمات، مثل حالة الاقتصاد الجزائري.

اشار الباحث في بداية اطروحته الى: تبني الدول النامية- خلال ربع قرن من الزمن- لإصلاحات هيكلية من نوع لبرالي. هذا الاتجاه المبني على رد الاعتبار لدور السوق في النشاط الاقتصادي، أعاد للواجهة السؤال القديم الجديد المطروح في الاقتصاد السياسي والمتمثل بعمق في: من يتكفل بضمان مناخ تنافسي نزيه بين الأعوان الاقتصادية المنتجة ومن خلال ذلك ضبط النشاط الاقتصادي: "أهي الدولة أم السوق"؟.

أخذ النقاش حيزا واسعا وتصدر معظم الحوارات حول التنمية الاقتصادية، انطلاقا من بعض تجارب الإصلاح السابقة والتي لازالت متواصلة، في ظل تكرر الازمات،كما ساعد تطور العلوم الاجتماعية في إعادة النظر في الحلول البسيطة المتبعة، والتي كانت تارة لتدخل تطوعي للدولة وتارة أخرى لتبني ما نادى به أنصار منطق: "دعه يعمل" ،وهي العبارة التي استنار بها الاقتصاد الرأسمالي فكرا وتطبيقا على امتداد عقود طويلة من الزمن وإلى يومنا هذا.

إن فشل نماذج التنمية للعشريات السابقة وتراجعها- دون بلوغ تطلعات شعوب الدول النامية- جعل هذه الأخيرة تشهد- بالفعل-اختلالات وهزائما، سواء على مستوى السياسات التطوعية للتنمية المُعَدَة للمدى الطويل، أو على مستوى هدف تغيير المجتمعات المعنية بهذه السياسات. فالهزيمة اذن؛ا كانت مزدوجة: على مستوى سياسات التنمية الاقتصادية و على مستوى التغيير الاجتماعي.

بناء على ما ذكر، يمكن الاشارة الى أن علم الاقتصاد الحديث يوجد أمام مأزق التنمية ؛بسبب تردي الأوضاع في معظم الدول النامية التي طبقت ترسانة من النظريات والسياسات التنموية ووصلت إلى باب مسدود ؛ مما جعل الفكر الاقتصادي مطالبا بحوكمة نفسه "حوكمة الفكر الاقتصادي" وإجراء مفاحصة diagnostic تكشف نقاط اختلال هذا الفكر وأسباب عدم فاعليته في إخراج الدول المتخلفة من معضلاتها الاقتصادية والاجتماعية. ،بل يمكن إيعاز الفشل الذريع- الذي لحق بمختلف نماذج التنمية التي جربت في سائر بلدان العالم الثالث بشكل أساسي- إلى إهمال متعمد لنظريات التنمية بمختلف مشاربها اليسارية والرأسمالية من جانب مُدَارَسَة المشاكل السياسية بمختلف أبعادها من ديمقراطية تشاركية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والرأي وتعددية التداول على السلطة وتفعيل منظمات المجتمع المدني وتكريس المساءلة والشفافية...الخ في هذه البلدان. بل إن الانفتاح الأخير لعلم الاقتصاد الحديث على معارف أخرى كعلم الأخلاق وعلم البيئة والعلوم الاجتماعية وتكريس الأداة الرياضية في تقييس مختلف المجاميع الاقتصادية، جعله يبقى دائما يُمَارِس انفتاحا محتشما على العلوم السياسية تنظيرا وممارسة. ولعل هذا هو بيت القصيد الذي تسعى النظرة الاقتصادية الجديدة إلى تداركه والمتمثلة في إرساء مبادئ الحكم الرشيد وخلق مؤسسات الحوكمة، لقد منح التطور العقلاني للفكر السياسي والاداري (ان على المستوى الكلي او الجزئي) مكانة لتسيير المؤسسة والاقتصاد الوطني -برمته -بطرح واضفاء الحوكمة والتي مرت بمرحلتين اساسيتين: ففي الاولى، عودة الدولة الى قلب حرفتها ووظيفتها الجوهرية عن طريق اضفاء لا مركزية عناصر استراتيجية اخرى وفق منظور العولمة، وفي الثانية، وخاصة في حقبة التسعينيات من القرن العشرين،: فقد تم تعميم تفكير اكثر عمقا حول دور الدولة الضابطة ،وهذا ما يمكن استنباطه من الاعمال العلمية لكل من الباحثين في مجال تسيير الازمات بأبعاد الحوكمة والاستشراف مثل:

: Guy B.Petersو Donald j.Savoie و Pierre Calame، وغيرهم، وللدلالة على وجود شبه صراع فكري في ميدان الحوكمة، تجدر الاشارة الى وجود مقاربات علمية بأبعاد فكرية فلسفية ويمكن تفحص ذلك، من خلال قراءات متأنية في ما ورد في هذا المضمار،حيث اوضح الباحث (عمر صاغي) الى ان الحوكمة تمثل عملا عقلانيا وحكيما وابويا ؛لكن بقيت السياسة الطفولية غير اخلاقية احيانا، لهذا فان الشعوب الواعية تحبذ تطعيم اكثر منطقي للسياسة في الحوكمة، ولعل طرحه هذا يقترب من طرح الاقتصادي الجزائري مراد بن اشنهو(وزير لاعادة الهيكلة والمالية سابقا وخبير لدى البنك الدولي) القائل: ان الشعوب السعيدة هي تلك الشعوب التي ليس لها تاريخ. كما ان سياسات الابوية الطفولية جعلت الاقتصادي الشهير Milton Friedman، ينادي جهارا بحل كل من مؤسستي: الصندوق النقدي الدولي، والبنك الدولي، وتتزايد الابداعات الفكرية في مجال الحوكمة(الحكم الرشيد )، حيث يستشف ذلك من خلال: اراء كل من: بيار كالام الذي افصح بان الهدف الاول للحوكمة يكمن في تعلم العيش الجماعي والتسيير الفعال للبيت المشترك...... كما بين الامين العام السابق للامم المتحدة (السيد كوفي عنان)اهمية الحكم الرشيد والذي بمقتضاه يصبح لسائر الامم اعتقاد راسخ بانه السبيل الاكثر ضمانة للابتعاد التدريجي عن الفقر ودعم للتنمية المتكاملة، وقد صاغ اطروحته- باللغة الانجليزية - على النحو التالي:

Good governance is the single most important way to end poverty and support development.

وفي نفس السياق، تكلم الباحث البروفيسور(ايفون الار) في مقالة شهيرة له عن ذلك، ثم استدرك حدود مقارباته في بحث مشترك اخر رفقة زميله(فيرسيروتو) عام2003، تجدر الاشارة الى وجود نظامين للحوكمة على المستويين العمومي والخاص، حيث ان نظم الحوكمة العمومية تقوم على عدة مقاربها اهمها:
اولا: مقاربة البنك الدولي؛.

;.Système Onucienثانيا: النظام الاممي

ثالثا: مقاربة الاتحاد الاوروبي؛.

رابعا:الحوكمة الخماسية

اما نظم الحوكمة الخاصة، فتتمثل في: حوكمة المؤسسة، الحوكمة الاستراتيجية،الحوكمة المفضية الى خلق القيم،الحوكمة العائلية،،حوكمة الانترنيت،الحوكمة الجامعية،حوكمة نظم المعلومات..............الخ،

كما توضح الحوكمة المؤسسية الهياكل والعمليات اللازمة لتوجيه المؤسسات ومراقبتها مع الاهتمام بالعلاقة بين الادارة ومجلسها وكبار حملة الاسهم وكذا الصغار، وتعمل الحوكمة المؤسساتية على اضفاء ابعاد استراتيجية على التنمية المستدامة من خلال تعزيز اداء الشركات بغية الوصول الى استقطاب الرأسمال الخارجي المساهم في التنمية المستديمة الفعالة هذا ما يقودنا الى القول انه:بعد فشل كل برامج التنمية -رغم الإصلاحات الاقتصادية المتتالية- بما فيها برامج التكييف الهيكلي، التي قام بها عدد كبير من الدول النامية، وبعد التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق ازدادت أهمية تلك الإشكالية، وطرحت تساؤلات عديدة من خلال الدراسات التي قامت بها بعض الهيئات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حول أسلوب الحكم. حيث أن المنظومة العامة لإدارة الحكم المناسبة للتنمية الاقتصادية تتشكل من عوامل مؤسسية تختص بتوزيع وممارسة السلطة الاقتصادية، وتتعلق أيضا بجميع القواعد الحاكمة والضابطة لكل العلاقات الناشئة في المجتمع بما فيها السياسية باعتبارها المهيمنة على بقية العلاقات الأخرى .
.
ومن ثمّ، تميزت الأدبيات المعاصرة بجملة من المفاهيم الحديثة التي عكست في مجملها ما يشهده العالم من تغيرات بنيوية عميقة واسعة النطاق، تنوعت ملامحها وتبلورت آلياتها عبر العديد من التطورات، والتي شملت العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى العلمية. من بين هذه المفاهيم القديمة المستحدثة "الحكم الرشيد" و"مؤسسات الحوكمة".

إن عملية التنمية ليست اقتصادية بحتة بالرغم من أهمية العامل الاقتصادي، إلا أن هناك أبعادا اجتماعية وسياسية وثقافية ومؤسساتية- بامتياز -لا يمكن تهوينها أو إغفالها في إحداث تغيير تنموي معمر ومستديم. ؛لذلك تتطلب عملية التنمية إعادة تنظيم وتوجيه النظام الاقتصادي والاجتماعي باتجاه تحسين الإنتاجية ورفع مداخيل الأفراد وتعديلات جذرية في الهياكل المؤسساتية والاجتماعية والإدارة وربما حتى في العادات والقناعات، وكل ذلك يشكل تحديا كبيرا للدول النامية للانتقال إلى مرحلة تنموية أرقى. ينظر في ذلك: (ربيع نصر: قياس التحول الهيكلي، مجلة جسر التنمية العدد 74، المعهد العربي للتخطيط ن الكويت، يونيو 2008، ص 2.
من هنا برزت أطروحة الحكم الرشيد ومؤسسات الحوكمة، كونها آليات تستهدف تضافر جهود الجميع وتعبئة الإمكانات وتخصيص الموارد وتسخير الطاقات لاستعمال أمثل ،تساهم فيه جميع مكونات المجتمع دون امتياز أو مفاضلة أو إقصاء.
بقيت الجزائر- على غرار دول العالم الثالث -حبيسة هذه الدوامة، فرغم محاولات التنمية المتكررة والحشد الهائل للموارد الطبيعية وكذا الوفرة المالية التي تعرفها من حين لآخر ،عندما ترتفع أسعار برميل النفط، إلا أنها لم تستطع كسر هذا الطوق أو تحقيق الإقلاع التنموي كما حققته الدول الصاعدة les pays émergentsحديثا.

هناك نقاش ،بل جدال في الجزائر، في الدوائر الرسمية وغير الرسمية عن مشاكل الاقتصاد الجزائري وعن صعوبات التنمية الاقتصادية والمنصب على وجه الخصوص على التصدير خارج المحروقات والاستيراد المبالغ فيه وعن هشاشة الاقتصاد الوطني وضرورة تنمية القطاع الصناعي والفلاحي، إلا تحت ضغط الأزمات. هذه الأزمات المتمثلة فقط في انخفاض سعر المحروقات في السوق العالمية وبالتالي انخفاض مداخيل الجزائر بالعملة الصعبة من المورد الخارجي الوحيد. وتفضي هذه النقاشات في كثير من الأحيان إلى اتخاذ قرارات جد هامة وتصدر قوانين محكمة، إلا أنه سرعان ما تقل حدة النقاشات في الأوساط الرسمية -مع استمرارها طبعا في الأوساط الأكاديمية بحكم تخصصها- بعدما يعود سعر النفط للارتفاع في السوق العالمية، وبالتالي تَضيع الأفكار وتُنسى القرارات وتُعطل القوانين. لا حديث عن الحلول ذات البُعد الاستراتيجي بعد انتهاء الأزمة، وعليه يمكن القول أنه لم يتم الاستفادة من الأزمات النفطية السابقة...، فعلى سبيل المثال، الحديث عن الصادرات خارج المحروقات بدأ بشكل رسمي منذ 1983 تحت شعار "ما بعد البترول" واتخذت قرارات هامة سميت آنذاك بالقرارات الاستعجالية، إلا أن الوضع لم يتغير قيد أنملة وبقيت الأمور على ما كانت عليه إلى يومنا هذا، فما هي مواقع خلل التجربة الجزائرية؟

إشكالية البحث:

انطلاقا مما سلف ذكره ،يطرح التساؤل المركزي التالي الذي تتمحور حوله هذه الأطروحة:
في ظل المستجدات الحديثة على الساحة الدولية وبروز مفاهيم اقتصادية جديدة كالحكم الرشيد ومؤسسات الحوكمة، هل يستطيع الفكر التنموي التقليدي أن يستفيد من الفكر المؤسسيla pensée institutionnelle لكسر طَوْق مأزق التنمية الذي ترزح فيه الدول النامية، وما مدى إسهامات هذه الأطروحات الجديدة في إحداث انطلاقة حقيقية لهذه الدول؟ وما استفادة الاقتصاد الجزائري من هذا الواقع فكرا وتطبيقا؟

تستدعي الدراسة الأكاديمية المنهجية تفكيك هذه الإشكالية وفق الاسئلة الفرعية التالية:
أين تكمن مواطن الخلل وحدود نظريات التنمية؟
كيف يتم تصور التنمية وتحقيقها من منظور الحكم الرشيد؟
ما دور مؤسسات الحوكمة في إرساء قواعد الحكم الرشيد من أجل تحقيق التنمية؟
مؤسسات الحوكمة في الجزائر أية آفاق؟

فرضيات البحث:

ان دراسة وتحليل الموضوع المعالج بشكل منهجي ، يجعلنا ننطلق من اعتماد الفرضيتين الاتيتين:
1- التنمية سيرورة تغييرية شاملة تتجسد عن طريق مؤسسات متكاملة المنطلقات ومحددة الأبعاد والأهداف لتحقيق الرفاهية.
2- تلعب السلطة السياسية الحاكمة وشبكة العلاقات الاجتماعية القائمة دورا رياديا في خلق وسيرورة عمل المؤسسات الضابطة لجميع الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

أهمية البحث:

تأتي أهمية الدراسة ،لتحليل العلاقة الترابطية بين مفهوم الحكم الرشيد والإطار المؤسساتي le cadre institutionnelمن جهة، والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى، أي تحليل الأساس الارتكازي، من أجل إحداث النقلة النوعية المطلوبة لدفع مسار التنمية الاقتصادية. ومن هنا يصبح من الأهمية بمكان دراسة وتحليل التنمية الاقتصادية بمقاربة مؤسسية. وهل هذه الأخيرة تستطيع أن تضع تجربة التنمية في الجزائر في مسارها الصحيح؟.

أهداف البحث:

1- تبيان الدور الذي تلعبه المؤسسات في التنمية الاقتصادية، وأن غياب إطار مؤسسي مناسب هي الحلقة المفقودة في سيرورة التنمية في الدول النامية، حدث ذلك في ظل تجاهل النظرية الاقتصادية لأهمية المؤسسات في الحقل الاقتصادي. حيث اعتبرت النظرية النيوكلاسيكية "المؤسسات" على أنها متغير خارجيvariable exogène ليس لها تأثير في تخصيص الموارد، وأن هذا التخصيص مكفول لميكانيزم السوق وهو الميكانيزم الوحيد. انطلاقا من هذا الواقع الحاد،نجد أن إحلال النظرية النيوكلاسيكيةNéo-classique محل النظرية الكلاسيكية قد تسبب في حرمان علم الاقتصاد من أداة هامة من أدوات التحليل الاقتصادي المتمثلة في "المؤسسات"، و"الجهاز السياسي" le politique. ولعل الإفراط الكلي في الاعتماد على دور الدولة وحده ثم الإفراط الكلي في الاعتماد على آليات السوق وحدها أدى إلى ظهور طرفي نقيض ،لم يستطع كل منهما بمفرده أن يخرج الدول النامية من مأزق التخلف؛ مما أعاد الاعتبار إلى الفكر المؤسسي ليطفو على واقع الاقتصاد فكرا وممارسة ويحل معضلة التطرف الكل دولة أو الكل سوق.
2- فتحت هذه الوضعية المجال واسعا أمام العودة القوية للمؤسسات.؛ مما جعل الباحث يحاول إبراز هذا التطور في السيرورة النظرية للفكر الاقتصادي.
3- توضيح ما مدى استعداد الاقتصاد الجزائري وتأهله لإسقاط هذه المقاربة النظرية على محك واقعه المعيش.

أسباب اختيار الموضوع:

كان البحث عن أسباب فشل برامج التنمية الاقتصادية يتم من خلال البرامج نفسها، والإغفال التام للأسباب الحقيقية لهذا الفشل، وأن تسيير شؤون الدولة كان من المواضيع المرتبطة فقط بالعلوم السياسية وأن الاقتصاد مجاله واضح ومحدد. والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لم يتخطى حدود الحقل الاقتصادي منذ عدة عقود، في اقتراحاتهما تارة وفي فرضهما تارة أخرى لإصلاحات لا تتعدى الحدود الاقتصادية. فأصبحت الوقائع المعيشة من طرف الدول النامية تستدعي تجاوز النظرة الاقتصادانية لجميع الأمور، بل إن الأمر يتطلب استعمال كل المجالات التي تصب في تحقيق التنمية. من هنا تولدت رغبة وفضول علمي لدى الباحث للوقوف واستكشاف بعض المساهمات التي تفسر الأسباب الحقيقية في تعثر التنمية من جهة أولى، وتدعم الرؤى والأطروحات الجديدة السائرة في هذا المسار من جهة ثانية، وهذا تزامنا مع بروز لمفاهيم ومصطلحات ومواضيع جديدة عرفت طريقا للحقل المعرفي والتطبيقي على حد سواء، تدور في فلك الحكم الرشيد و مؤسسات الحوكمة -كما تم ذكره سلفا.

الدراسات السابقة:

اهتمت دراسات عديدة قيمة بموضوع الحكم الرشيد وبالمؤسسات ودورها في التنمية الاقتصادية، وعليه يمكن تقسيم هذه الدراسات كما يلي:

اولا:دراسات على مستوي الهيئات الوطنية والدولية: منها دراسات صندوق النقد الدولي:-
1- دراسة الكاتب Daron Acemoglu : causes profondes de la pauvreté : une perspective historique pour évaluer le rôle des institutions dans le développement, revue finance et développement, FMI, juin 2003, pp : 27-30.

حسب هذا الكاتب، العوامل التي يمكن تقديمها لتفسير عمق الفارق في الرفاهية بين الدول، تتمثل في عاملان أساسيان الجغرافية والمؤسسات. وأن غياب التدرج الطبيعي نحو مؤسسات جيدة سببه سلوك النخب.

2- دراسة الكاتب Jeffrey D. Sachs:

تحت عنوان « Les institutions n’expliquent pas tout le rôle de la géographie et des ressources naturelles dans le développement ne doit pas être sous-estimé » جوان 2003 ص ص: 38-41.

يُعزي هذا الكاتب، تفسير مستوى التنمية الاقتصادية لبلد ما في معظمه تقريبا للمؤسسات، وأن تضييع فرص التنمية ناتج عن خلل في المؤسسات، وليس في نقص الموارد. وأن المؤسسات الجيدة تؤدي للتنمية بينما المؤسسات السيئة تؤثر سلبا على التنمية حتى ولو كانت الظروف ملائمة، كما أن الإطار المادي غير الملائم يمكن كذلك أن يعرقل عملية التنمية.
3- دراسة الكاتبين Dani Rodrik et Arvint Subramanian
تحت عنوان la primauté des institutions : (ce que cela veut dire et ce que cela ne veut pas dire), revue financement et développement, FMI, juin 2003, p : 31-34.
يعتقد هذان الكاتبان أنه في ظل وجود مؤسسات جيدة وحماية جيدة لحقوق الملكية ،تزيد الاستثمارات وتحفز التطور التكنولوجي وبالنتيجة تزيد من الدخول. كما أن الوصول إلى مؤسسات جيدة ما هو إلا نتاج لتطور اقتصادي، لأن مطلب إرساء مؤسسات جيدة يزداد كلما زادت رفاهية المواطنين والبلد بشكل عام.

4- دراسة الكاتب Hali Edison
تحت عنوان Qualité des institutions et résultats économiques, un lien vraiment étroit, revue financement et développement, FMI, juin 2003, p : 35-37.
أظهرت نتائج الدراسة التجريبية أن للمؤسسات تأثيرا واضحا على عدم استقرار النمو (المقاس بالفارق النموذجي لمعدل نمو الناتج الداخلي الخام PIB/للفرد)، فكلما ارتفعت جودة المؤسسات كلما انخفض عدم استقرار النمو. أكثر من هذا فالتأثير باقي مستقر ومعتبر حتى تحييد تأثيرات فعل السلطات العمومية.

ثانيا:دراسات على مستوى الأشخاص(دراسات فكرية): يمكن ذكر ثلاث أطروحات دكتوراه:
1- Fahmi Ben abdelkader: Du droit de l’état à l’état de droit dans les pays arabes de la méditerranée, analyse économique des institutions et de leur évolution, Thèse doctorat Université Paris I – Panthéon Sorbonne, 2009.

تحت مفهوم " الأنظمة الوطنية للحوكمة" الذي تم اقتراحه من قبل الباحث تم الاعتماد في دراسته وتحليله للموضوع على عدة تيارات فكرية في الاقتصاد، مركزا على الاقتصاد الانتقالي économie de transition، ومستلهما بشكل كبير من مدرسة الاقتصاد المؤسساتي économie institutionnelle، وبالتركيز على عناصر التحليل للنظريات الاقتصادية، وضع في مركز الاهتمام دراسة سلوك المسؤولين الخواص

والعموميين، بتوظيفه لنظريات حوكمة الشركات ونظريات الاختيارات العمومية les théories des choix publics. مستخلصا الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسات في التنمية الاقتصادية والسياسية.
2- Samir Bellal: Essai sur la crise du régime rentier d’accumulation en Algérie, une approche en termes de régulation. Thèse doctorat, Université Lumière de Lyon 2, 2011.

قام بدراسة وتحليل الاقتصاد الجزائري، حيث بين أسباب الفشل في التنمية الاقتصادية باستعماله مقاربة مؤسسية اعتمد فيها على نظرية الضبط théorie de la régulation. وخلص إلى أن هناك انسداد ناجم عن هيكل الاقتصاد الجزائري المرتكز على قطاع المحروقات.

3-سايح بوزيد: دور الحكم الراشد في تحقيق التنمية المستدامة بالدول العربية، حالة الجزائر. أطروحة دكتوراه، كلية الاقتصاد جامعة تلمسان، 2012-2013.

تعرض الباحث إلى أبعاد التنمية المستدامة وأثر تطبيق مبادئ الحكم الراشد على التنمية المستدامة، كما درس إستراتيجية التنمية المستدامة من خلال تعزيز الحكم الراشد في الدول العربية، ثم قام بدراسة وتحليل كيفية تفعيل الحكم الراشد في دعم مسار التنمية المستدامة في الجزائر.

المنهج المتبع في البحث:

تم اعتماد المنهج الاستنباطي ،موظفين في ذلك جميع أدواته، حيث استخدمنا أداة التحليل في أجزاء معينة من الأطروحة تخللها السرد الوصفي عندما تستدعي الضرورة ذلك، دون إغفال أسلوب المقارنة باعتبار هذا الأخير يكشف مواطن التشابه والاختلاف فيفسح المجال لإجراء التصحيحات ويسهل عملية التعديل في المواطن اللازمة. الأسلوب الإحصائي بدوره لم يغب عن المنهجية المتبعة لما للغة الأرقام في توصيل المعنى بشكل مجزل. لم نغفل في المنهجية أيضا الأداة الرياضية رغم حضورها المحتشم في سياق البحث.

هيكل البحث:

اشتملت الدراسة على: مقدمة عامة و أربعة فصول، يحتوي كل فصل على ثلاث مباحث بالإضافة إلى خاتمة- وفق الخطة الاجمالية التالية.

مقدمة عامة

الفصل الأول: التطور التاريخي للفكر التنموي.
المبحث الأول: مبررات ظهور الفكر الاقتصادي التنموي.
المبحث الثاني: ظهور وتطور مفهوم التنمية.
المبحث الثالث: حدود النظريات التقليدية المفسرة للتنمية.
الفصل الثاني: المرجعيات الاصطلاحية والفكرية للحكم الرشيد.
المبحث الأول: ماهية ومفهوم الحكم.
المبحث الثاني: البنية الفكرية للحكم الرشيد.
المبحث الثالث: تصور وتطور الحكم الرشيد لدى الهيئات المانحة.
الفصل الثالث: المؤسسات في الفكر الاقتصادي التنموي .
المبحث الأول: مكانة المؤسسات في النظرية الاقتصادية.
المبحث الثاني: انفتاح علم الاقتصاد على المؤسساتية وسيرورة ظهور وتطور المؤسسات.
المبحث الثالث: التغيير المؤسسي وديناميكية العلاقات الاجتماعية.
الفصل الرابع: الاقتصاد الجزائري وإشكالية التغيير المؤسسي.
المبحث الأول: الاقتصاد الوطني بين أهداف التنمية والإصلاحات المعتمدة.
المبحث الثاني: واقع الاقتصاد الوطني انطلاقا من برامج التنمية.
المبحث الثالث: إشكالية التغيير المؤسسي في الجزائر.
خاتمة عامة
المراجع
الملاحق
الخاتمة العامة:

إن عنصر القطبle pivou -في البحث الذي قمنا بانجازه- يخلص إلى أن الحق في التنمية من المفاهيم الأساسية التي تسعى البشرية إلى تحقيقها ولا يخفى على أهل التخصص أن التأكيد عليها ورد أيضا في إعلان الألفية، وتعتبر الإدارة الرشيدة للحكم الضمان الأساسي لتحقيق هذا الهدف. إلا أنه لن يتأتى ذلك إلا بتوفير العناصر الأساسية الآتية: المشاركة والشفافية في عملية صنع القرار، والمساواة في كافة الحقوق، ومساءلة الأطراف الفاعلة أي خضوع المؤسسات العامة والخاصة والأطراف الفاعلة للمساءلة، وعدم التمييز بين بني البشر أي كانت معتقداتهم أو أصولهم وكل ذلك يعتبر من المكونات الرئيسية لتحقيق التنمية والحد من الفقر. كما أن توفير منهج قائم على الحريات والمبادرات، لا يقتصر على المطالبة بالحقوق وإنما أيضا بأداء الواجبات والوفاء بالالتزامات. ولعل حجر الزاوية في الأمر كله هو أن الحكم الرشيد جعل السلوك السياسي في قلب النظرية الاقتصادية.

يتمثل الهدف المتوخى من الحكم الرشيد في إصلاح الدولة إصلاحا عميقا من أجل أن يعمل السوق دون عوائق. والعبارة التالية تظهر وتؤكد أهمية دور الدولة : "إن سوء التنمية ما هو إلا نتاج لسوء الحوكمة" "le mal développement résulterait d’une mal gouvernance ". فالفشل المتكرر لتجارب عديدة للتنمية في الدول النامية، دفع بالهيئات المانحة إلى إعطاء اهتمام كبير للحوكمة من أجل التنمية. في هذا المجال، ألصقت التنمية بالإطار المبني على أساس قيمتين كونيتين: إشراك المجتمع والمسؤولية l’inclusion sociale et la responsabilité وهي التي تُكَون مع بعضها الأرضية الخصبة للحكم الرشيد والحاضنة للتنمية. فالفكرة التي تم الدفاع عنها تتمثل في أن جودة ضعيفة للحوكمة تؤثر تأثيرا سلبيا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية في الدول النامية وهو السبب الذي عمق من تخلف هذه الدول.
وعليه ،يمكن أن نستخلص، أن جذور القصور والعجز الحوكمي والمؤسسي في الدول النامية يرجع أساسا لوجود فجوة في الحوكمة أي فجوة المنظومة العامة لإدارة الحكم.

فبناء وتنمية القدرة المؤسسية لمختلف أطراف التنمية يستلزم إصلاح دور الدولة وأن يصاحب تمكين قوى السوق والقطاع الخاص جهود متوازية تمكن مؤسسات القطاع الخاص من إصلاح هياكل الحوكمة الخاصة بها، وأن يقترن بذلك جهود مكثفة للمجتمع المدني يلعب دورا فاعلا في التنمية والقيام ببناء وتنمية نظم حوكمة وقدرات مؤسسية خاصة بها ومستمدة من واقعها بمختلف مكوناته، تلعب فيه شبكة العلاقات الاجتماعية والسلطة السياسية دورا محددا في تكوين المؤسسات وفي عمل وسير الاقتصاد بشكل مضبوط.

إن المتتبع لسيرورة ومبررات ظهور الفكر الاقتصادي التنموي يدرك بسهولة أن هذا الأخير اصطدم بواقع عنيد ومعقد لم يستطع تغييره ولقيت نظريات التنمية المستمدة من الفكر اللبرالي مقاومة شديدة من طرف هذا الواقع بفعل قصورها وحدودها ومحاولاتها الإصلاحية غير الملائمة من عقد إلى آخر إلا أنها بقيت دون الأهداف المتوخات ولم تحقق ما كانت تصبوا إليه الدول المتخلفة من الآمال المعقودة على تطبيق هذه النظريات لفك أخطبوط التخلف.
في ظل هذه الظروف أصبح عجز وقصور الفكر التنموي واضحا وأصبحت المراهنة على إرساء قواعد حكم رشيد مستنبط من الموروث الثقافي والعقائدي لهذه الدول أمر لا مفر منه.

تم التطرق- بإسهاب -إلى المرجعيات الاصطلاحية والمفاهيمية التي تفسر ماهية ومفهوم الرشيد من خلال التعريف الشامل للحكم والدولة دون إغفال الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة المتمثلة في بسط السلطة والسيادة على فضاء مكاني معين في ظرف زماني معين أيضا وكذا التركيز على دور القيادة في إرساء قواعد حكم يضبط جميع وظائف الدولة دون هيمنة وظيفة على أخرى وبالخصوص تجنب هيمنة الوظيفة السياسية على الوظيفة الاقتصادية مما يجعل هذه الأخيرة عرضة للاختلالات وانتكاسات ومعضلات اقتصادية. لقد شكلت هذه النقطة أحد انشغالات البحث حيث تم توضيح أن تحقيق عملية التنمية مرهون باحترام السلطات الثلاث لبعضها البعض دون تعدي إحداهم على مجالات اختصاص الأخرى، ولن يتحقق ذلك إلا بإنزال الحكم الرشيد حيز التنفيذ وولوجه الحقل السياسي، مع فسح مجال أوسع وأكبر لمنظمات المجتمع المدني والهيئات الفاعلة في المجتمع والقطاع الخاص، كون هذه العناصر أساسية تضبط التزام السلطة الحاكمة خاصة تلك المتسلطة في الدول النامية على احترام البنى المجتمعية وإشراكها في خلق نسيج اجتماعي وسياسي واقتصادي متناغم تنشأ بواسطته شبكة علاقات اجتماعية منسجمة الأطراف، كل مكوناتها تؤدي وظائفها بشكل تلقائي وانسيابي بعيدة عن الضغوطات والإرغامات والتهميش أو إفراغ الهيئات الأساسية للمجتمع من محتواها وسلبها لوظائفها واختصاصها. ولعل هذه القضايا التي سلف ذكرها تتناغم مع المنظور الأكاديمي في هذا الشأن، الذي يضع نصب عينيه التركيز على الاقتصاد المؤسسي الجديد كون هذا الأخير يضمن التأطير الجيد للنشاط الاقتصادي.

تواصل الفصل الثالث مع سابقه من خلال تبيان أهمية انفتاح الفكر التنموي على الفكر المؤسسي وأصبح الاقتصاد السياسي للفكر التنموي يشكل حجر الزاوية في بحوث علم الاقتصاد الحديث كون المؤسساتية التي هُمشت بفعل مسايرة بحوث التنمية لأطروحات الفكر اللبرالي لفترة معتبرة من الزمن قد فرضت نفسها بقوة وعادت إلى الميدان بعد فترات من التهميش والتغييب.

خلص هذا الفصل إلى توضيح أن أسباب العودة القوية للفكر المؤسسي وتزايد الاهتمام به يكمن خاصة في فشل دول العالم النامي في إدارة التنمية، الذي يرجع بدوره سن ترسانة من اللوائح والقوانين والدساتير تضمن بقاء أهل السلطة في السلطة لأطول فترة ممكنة كإدخال تعديلات على الدساتير وزيادة عدد العهدات. وتكييف كل المؤسسات التي تتعارض مع الزمرة الحاكمة وفق مبتغاها وأهدافها الرامية إلى تكريس الحكم في أيديها دون الاكتراث إلى استحداث آليات وأساليب تمكن من الانطلاق.

بين البحث بشكل جلي أهمية انفتاح علم الاقتصاد على المؤسساتية من خلال إعطاء أولوية إلى المنظومة القانونية التي تفعل وتضبط الممارسة الاقتصادية بجميع أبعادها وتحميها من تجاوزات السلطة أو محاولات تحييدها عن مجرياتها الطبيعية كحماية حقوق الملكية واحترام العقود والمواثيق وقانون المنافسة النزيهة وتشكل الأسعار بفعل آليات العرض والطلب. يخلص هذا الفصل للتركيز على أهمية التغيير المؤسسي في خلق دينامية اجتماعية واقتصادية وسياسية إذا روعي فيه الموروث الثقافي والمعادلة الاجتماعية المميزة لتشكيل كل مجموعة بشرية لنموذج عيشها الخاص بها في إطار مجتمعها ودولتها، فالحوكمة السليمة ما هي إلا "الحالة التي تكون فيها الدولة منضبطة بقوة المجتمع ويكون فيها المجتمع منضبطا بقوة الدولة".

يركز هذا الفصل على إظهار مخاطر التصفيح المؤسسي الذي لا يزد الدول النامية إلا تعميقا للتخلف والتقهقر إلى الوراء وهو أحد مخاطر العولمة التي تسعى إلى تنميط البعد الثقافي والمجتمعي والاقتصادي وفق قالب موحد يجري سحبه على جميع الدول، ولعل هذا هو عين الخطأ في تصور الهيئات المانحة التي اعتبرت أن التنمية عملية عالمية بأبعاد معولمة، وفي الحقيقة ما هي إلا محاولات يائسة لزرع أعضاء في غير جسمها سرعان ما يلفظها ويرفضها هذا الجسم لعدم انسجامهما مع بعضهما البعض، لذلك لا يمكن ربط البعد السياسي للتنمية بهندسة معينة كما تقترحه تقارير البنك العالمي من خلال الدعوة المعاصرة لوضع حيز التنفيذ ل"مؤسسات جيدة" في الدول النامية، لتصبح التنمية جهود كل المجتمع ونتاج لصراعات محلية بناءة من نوع خاص. تبعث الثقة المتبادلة بين مختلف الأعوان الاقتصادية وتضمن تحقيق توزيع عادل للثروة دون إغفال البعد الأخلاقي في الحقل الاقتصادي لما له من مهمة بالغة في تهذيب السلوك وزرع التكافل الاجتماعي وتنامي روح المسؤولية الاجتماعية لدى الجميع.

أما في الفصل الأخير الذي أفردناه للاقتصاد الجزائري وإشكالية التغيير المؤسسي تم فيه تبيان سيرورة التنمية التي تم انتهاجها منذ الاستقلال إلى يومنا هذا من تجربة التسيير الاشتراكي للمؤسسات إلى محطات التصنيع الثقيل إلى استقلالية المؤسسات والتخلي التدريجي عن العملاقية الصناعية التي كانت تشكل مفخرة للاقتصاد الوطني مع تعاظم موجة حركات التحرر الوطنية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وتبنيها للنهج الاشتراكي متحيزة في ذلك مع الكتلة الشرقية والجزائر نفسها لعبت دورا محوريا في صناعة هذه الوقائع الاقتصادية والسياسية. غير أن هذه العملاقية الاقتصادية التي روج لها طويلا اصطدمت بواقع مرير أمام الصدمة النفطية الثانية لسنة 1986 التي فرضت واقعا جديدا أملى بدوره توجهات تنموية جديدة تكمن في محاولات التخلي عن الاعتماد الكلي على الريع النفطي كرافع للتنمية لكن دون جدوى. انشغل أيضا بتقديم حوصلة حول محاولة ولوج اقتصاد السوق الذي تحولت فترته الانتقالية إلى حالة دائمة. خلص الفصل إلى تشخيص مواطن الخلل لإعادة بعث الاقتصاد الوطني حتى من المنظور المؤسسي نظرا لاصطدام تطلعات هذا الأخير بركود واقع سياسي مكرس لتواصل هيمنة الاقتصاد الريعي. هذا الأخير هو الذي أفسد سلوك الأعوان الاقتصادية في الجزائر. حيث أن الاعتماد على الدولة (سياسة الاتكال. Assistanat) أصبحت العملة السائدة وما زاد في الطين بلة عندما أصبح الأمر لا يقتصر فقط على المواطن البسيط بل وصل ذلك إلى الأعوان الاقتصادية التي يُفترض فيها أنها هي المحرك الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسند القوي للدولة التي أصبحت تحتاج دائما إلى مساعدة بعبارة أخرى أصبحت تتحين الفرص للحصول على حصتها من الريع دون عناء أي دون بذل المجهودات المطلوبة في حقل نشاطها، أي أن مطالبها تجاوزت بكثير نتائجها.

وعليه فقد ظهرت على المدى البعيد سلبيات جراء هذه الممارسات، أصابت الريع الخارجي بالعقم من خلال إعاقة أي ديناميكية إنتاجية داخلية، وكون أن هذه الديناميكية هي الديناميكية الوحيدة للتنمية الاقتصادية تعثرها أدى إلى هشاشة في الاقتصاد الوطني بل إلى اختلالات هيكلية مُشِلَة للاقتصاد الوطني وخانقة لكل مبادرات طموحة. مما جعل الاقتصاد الجزائري يتميز بعدم النجاعة وبضعف التنافسية، فبالرغم من النفقات الضخمة التي تم تجنيدها وصرفها على الاقتصاد الوطني منذ الاستقلال، يبقى الإنتاج الوطني خارج المحروقات ضعيف ويتميز بتبعية كبيرة للمحروقات. كما بقي استهلاك المجتمع مرهون بشكل كبير للاستيراد، في الوقت الذي بقي نمو الاقتصاد الوطني يخضع لتقلبات الأسواق الدولية.
وبناء عليه يمكن القول أنه في ظل غياب نجاعة اقتصادية يبقى الاقتصاد الوطني ضعيف التنافسية حيث يعطي مؤشرا شاملا للتنافسية أقل من عدد كبير من الدول التي يتقارب الناتج الداخلي الخام فيها مع الناتج الداخلي الخام للجزائر، بالرغم من وجود نسيج اقتصادي نسبيا كبير وقاعدة اقتصادية لو استغلت استغلالا جيدا لسمحت له بالتموقع الجيد في الأسواق العالمية.

استنادا إلى كل ما تقدم فمن القوة بمكان إدراك، أن الإطار المؤسسي، الذي يعتبر العامل الهام والضروري للتنمية، هو الحلقة المفقودة في كل ذلك مما يتطلب تغييره تغييرا نوعيا، بنفس الدرجة وككل العوامل المحتملة للنجاعة الاقتصادية، فهو يستدعي تجنيدا كبيرا من أجل إخراج الاقتصاد الوطني من مستنقع المرحلة الانتقالية اللصيقة به، والتبعية المطلقة للريع النفطي.

في حقيقة الأمر أصبح السلوك الريعي نتاج لمحيط مؤسسي كما أن هذا السلوك بدوره قد اكتسب الطابع المؤسسية.
في الأخير يمكن أن نخلص للقول أن: للتغيير المؤسساتي أهمية بالغة لضبط سلوك الأفراد في المجتمع وسلوك النخبة الحاكمة في ظل مواكبة التغير الاجتماعي، كما له أهمية بالغة في ضبط سلوك الأعوان الاقتصادية من خلال رسم المسار الذي عليها أن تسلكه والذي يستند بدوره على نظرية الحوافز.
الف مبروك للباحث المتألق غالم جلطي على هذا الانجاز الذي سيشكل لا محالة لبنة اساسية للبحوث ذات الصلة والله من وراء القصد.

الاخضر عزي-محمد بوضياف المسيلة-

مشاركة منتدى

  • الدكتور غالم جلطي من مسلك ودرب العلماء الكبار،كان استاذا لنا بجامعة تلمسان، لقننا العلم النافع والمصداقية العلمية والمثابرة. كون اجيالا من الدكاترة قبل نيله الدكتوراه. دكاترة تفتخر بهم الجامعة الجزائرية اينما حلوا يبدعون ويبهرون. دكاترة الجودة ومكارم الاخلاق. وهو بهذه الاعمال العالية الجودة يستحق التكريم والثناء الحسن في زمن تفشت فيه الرداءة وكثر اهلها على كل المستويات. اوجه عبر هذا المنبر الاعلامي والثقافي رسالة اخوية الى كل طلبته القدامى للقيام باكرامه وتكريمه نظير ما قدمه تدريسا وبحثا ومشاركات علمية في الداخل والخارج. اغتنم العشر الاواخر من رمضان الكريم وقرب مناسبة العيد السعيد لازف له تهاني متمنيا له دوام الصحة والسعادة ومزيدا من التالق والتميز عسى ان تسترجع الجامعة بريقها المفقود وتعود المياه الى مجاريها.

  • الف مبروك للاستاذ المعجزة غالم جلطي، وقد درست على يديه بمعهد العلوم الاقتصادية بجامعة الجزائر خلال الموسم الجامعي:1989/1990. لم اسمع اي شيئ عنه لغاية اليوم وانا على الشبكة العنكبوتية اقوم بتحضير نص حول الحوكمة المؤسساتية في الجزائر.
    الاستاذ مومي الامين-مدينة طولقة-الجزائر

  • أشكر الباحث المتألق: غالم جلطي علي تناولة بالبحث في (الحكم الرشيد واشكالية التنمية: مقاربة مؤسساتية ،مع الاشارة الى حالة الجزائر).. والشكر لكم لتوثيق الدراسة وعرضها بهذا الاسلوب الراقي ....... انا سوداني مقيم في سويسرا أبحث في رسالة دكتوراة في مهفوم الحكم والرشيد .. البحث باللة العربية .. اكون شاكرا لكم في الوصول الي نسخة من الدراسة و الاتصال بالدكتور غالم جلطي والاستفادة من خبرته في الموضوع ..مع خالص شكري

  • شكرا للاخ من السودان، وعنوان الدكتور غالم جلطي هو:
    الدكتور غالم جلظي: استاذ بكلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير
    جامعة ابي بكر بلقائد-تلمسان-13000-الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وشطرا على التواصل.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى