الأحد ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٥
بقلم سناء أبو شرار

مسؤولية القلم...

صوتٌ يشبه حفيف الأشجار حين تهب نسمات الصيف الرقيقة، إنه صوت القلم الخجول والنحيف على الأوراق الملساء، يعزف معها سيمفونية فريدة لم يتم إقتباس ألحانها من قبل أي مُلحن موسيقي لأنها سمفونية خاصة جداً لا يعزفها إلا الكاتب وأوراقه؛ قد تنساب السمفونية بسلالة وليونه بحسب إنسياب أفكار الكاتب وثرائها، وقد يتعرقل القلم على الأرواق بل ويتحشرج صوته لأن الأفكار لا تُسعف الكاتب والمشاعر تبدو أكثر شحاً من الفكر؛ وهناك كاتب لا يعزف قلمه سمفونية ما مع أوراقه ولكنه يتجول بين الأوراق دون فكر ولا شعور فقط واصف جاف ومكرر لأيام وأحداث أو لتجارب شخصية.
ولكن ورغم جمال صوت القلم، ورغم تآلفة الأزلي والأبدي مع الأوراق، هل تقع عليه مسؤولية ما؟ إن مسؤولية القلم هي مسؤولية الكاتب عما يكتب. في أغلب دول العالم لا توجد قوانين صريحة تعتبر الكاتب مسؤول عما يكتب بذريعة حرية التعبير؛ وذلك ليس لتقصير القانون بتتبع هذه المسؤولية؛ ولكن لأن مسؤولية الكاتب من أكثر الأمور غموضاً وتفلتاً من المسؤولية؛ فما هي مسؤولية الكاتب؟ هل يجب أن يكتب وفقاً لأخلاقيات مجتمعه؟ الكاتب لا يلتزم بذلك، وفي عالمنا العربي قد تحصل بعض الروايات المتعارضة مع القيم الأخلاقية على جوائز رفيعة المستوى. هل يجب ان يكتب الكاتب حسب مصالح مادية لفئة ما؟ بالطبع لا، إلا إذا رغب بهذا الإنتفاع شخصياً ولكن لا أحد يُجبره على أن يلتزم بتيارٍ ما دون آخر.
في معادلة الكتابة، هناك عنصران فقط لا ثالث لهما، الكاتب والقاريء، وكلاهما يتمتع بحرية مطلقة لا يتمتعان بها في عالم السياسة ولا الإجتماع ولا الإقتصاد ولا الأخلاق.

الكاتب يكتب كما يشاء والقاريء يقرأ ما يشاء. الفرق يكمن بأن حرية القاريء فيما يقرأ لن تؤثر على المجتمع لأنه يقرأ في ركنه الخاص بمنزله أو مكتبه، حديقته أو شرفة منزله وربما في الباص أو المترو. أي ان حريته خاصة به هو فقط. أما الكاتب فحريته تمس الآخرين، وبمقدار شهرته تتسع الشرائح الإجتماعية التي تقرأ له. وهنا بالذات تكمن مسؤولية الكاتب ومسؤولية قلمه؛ هذا القلم الذي قد يعبث بكل المنظومة الأخلاقية لمجتمع ما، ويمكنه أن يروج لسياسة تسيء للمجتمع، ويمكنه أن يجعل الحق باطلاً والباطل حق ، لأنه يمتلك قوة الإقناع والتأثير وكذلك البلاغة؛ فأي قاريء سوف يصمد أمام كاتب يمتلك هذه العناصر التي تشكل صفات الكاتب الحقيقي والمُبدع.

مسؤولية القلم لا يحددها القانون، لأنها مطلقة، فالكاتب يكتب فعلاً ما يريد، ربما ينشر ما يكتب وربما يحتفظ به لنفسه ولكن ما يكتبه سواء في درج مكتبه أو على الأوراق المنشورة هو الفكر الخاص به، الفكر الحر والطليق. ولكن ما يحدد مسؤولية القلم هو منظومة كاملة إجتماعية وأخلاقية، إقتصادية وسياسية، جماعية وفردية، أنثوية وذكورية، لذلك يبدو القلم عالماً كاملاً يعكس الواقع بكل شموليته، ولذلك أيضاً هناك كاتب مميز وكاتب عادي وكاتب ما دون العادي؛ وذلك المميز هو الذي أدرك شمولية القلم فلا يكتب إلا بمنظور ثلاثي أو رباعي أو لامحدود الأبعاد.

ومسؤولية القلم تكون أخطر ما يكون لدى هذا الكاتب المميز لأنه بقدر ما يكتب بشمولية بقدار ما يجذب عدد أكبر من القراء، وهذه المسؤولية تتقلص كلما تدنى مستوى الكاتب إلى أن لا يقرأ له إلا أصدقائه أو أقاربه مجاملةً أو تمسكاً بأن لديهم كاتب يكتب.

يستطيع السياسي ألا يقول كل الحقيقة، وكذلك الإقتصادي وأيضاً العسكري، ولكن الكاتب لابد أن يقول الحقيقية، وهناك حقيقة واقعية، وأخرى خاصة به، فالحقيقة الواقعية هي ما يدور حوله أما الحقيقة الخاصة به فهي صدق أفكاره ومشاعره، إنتماءه وتمسكه بقضايا وطنية وأخلاقية يرفض أن يتجاوزها بحجة أنها أصبحت بالية وقديمة.

القانون قد يعاقب على ما قد يكتبه الكاتب إن كان مخالف لنصوص قانونية معينة، ولكن هناك كتابات لا يستطيع القانون أن يعاقب عليها لأنها خارج نطاق نصوصه. فالقانون لا يعاقب الكاتب الذي يُضعف البنية النفسية والوطينة في المجتمع، ولا يعاقب الكتابات التي تخلل الأساس الأخلاقي والعقائدي للمجتمع، ولا يعاقب على كتابات تشكل غسل دماغ مُمنهج ومبطن وموجهه بشكل خاص لفئة الشباب. حين ندرك مدى أهمية الكاتب وتأثيره العميق على المجتمع سوف نتأنى حين نقرأ أي كتاب أو مقال؛ سوف نفكر أكثر من مرة بما يريده الكاتب، لا نستقبل ما يكتبه بل نحاور ما يكتبه ولو بصمت؛ لم يعد هناك قاريء ساذج أو ضحل الثقافة، ولكن هناك قاريء يسهل التأثير عليه وقاريء منيع يقرأ ليناقش لا ليتقمص.

لقد آن الآوان أن ندرك أهمية الكاتب ليس لشخصه بل لتأثير ما يكتب، وأن نبني بأولادنا مبكراً في المدارس المناعة الذاتية أمام ما يقرأون وأن ليس كل ما يُكتب يصلح لأن يكون قاعدة فكر أو سلوك وأن ليس كل كاتب حجر بناء في بنية المجتمع، وأنه ليس كل كاتب مميز. فلربما نرفض تعبير أن الكتابة أصبحت بضاعة، ولابد من إنتقاء أفضلها، لربما لابد أن نعترف بأنها أصبحت بضاعة رائجة في سوق الإنترنت حيث يتم نشر كل شيء دون تحفظ؛ لذلك لابد من وجود مناعة صحية تلقائية تجاه ما نقرأ، ولابد للكاتب أن ينظر إلى قلمه بأنه مسؤولية وليس وسيلة شهرة. فمسؤوليته تتجاوز مسؤلية رجل السياسة ، لأن رجل السياسة مهما طالت مدة حكمه لابد أن تنتهي ولكن الكاتب لا مدة تحكم تواجده، فهو يكتب طالما هو على قيد الحياة، ويحيا رغم الموت طالما أن هناك من يقرأ له، لذلك تتضخم مسؤولة قلمه الصغير أمام نفسه والمجتمع وقبل كل شيء أمام الله تعالى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى