الأحد ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٥
بقلم مريم أجرعام

سيميائية الأهواء

مقدمـــــــة:

في إطار التطور الإبستمولوجي الذي تخضع له الحقول المعرفية عرفت السيميائيات السردية الكريماضية تحولا في تسعينات القرن الماضي من سيميائيات الفعل إلى سيميائيات الهوى باعتبار الهوى أريجا ملازما للذات.
وقد ظهرت سيميائية الأهواء باعتبارها نظرية قائمة الذات لدراسة الانفعالات الجسدية والحالات النفسية، ووصف آليات اشتغال المعنى داخل النصوص والخطابات الاستهوائية مع الكتاب الذي أصدره كريماص وجاك فونتانيي سنة 1991 تحت عنوان:
“سيميائيات من حالات الأشياء إلى حالات النفس’’.
هل يعني هذا أن دراسة الأهواء والانفعالات لم تكن موجودة قبل هذا الكتاب؟
وما هي البوادر الأولى لميلاد سيميائيات الأهواء؟
وما هو الإطار النظري الذي يؤطر هذه السيميائيات؟
وكيف درس كريماس وفونتانيي الأهواء في كتابهما؟
وسنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال المحاور التي سنتطرق لها في هذا العرض.
1- دراسات حول الأهواء قبل كتاب كريماس:
نجد مجموعة من الدراسات التي تناولت الأهواء البشرية بالدراسة والتحليل منذ العصر اليوناني، فأرسطو في كتابه الخطابة أشار إلى مجموعة من الأهواء ”كالغضب والحب والمنافسة .....محاولا معرفة كيف يستطيع الخطيب استثمار تلك العواطف والانفعالات لجلب المتلقي والتأثير فيه وإقناعه. وقد تحدث عن العواطف مجموعة من المفكرين العرب كابن الجوزي في كتابه ‘’روضة المحبين’’ حينما تحدث عن هوى الحب "معرفا بماهيته وعلاماته وصفاته المحمودة والمذمومة"، وكذلك ابن حزم في “طوق الحمامة’’ "فقد قدم مادة (غنية) وغزيرة في مجال الحب، وقدم معلومات وحالات مسعفة تمكن من إعادة بنائه سيميائيا؛ فما يسميه باب الوصل يمكن إعادة بنائه سيميائيا تحت مسمى (ما يتعلق بعلاقة الوصل بين الذات (المحب) والموضوع (المحبوب)... " ، كما اهتم بالأهواء علماء النفس وأبرزوا دورها في الإبداع الفني وتحدثوا عن أعراضها وطرق علاجها وتحدث عنها كذلك فلاسفة الغرب كاسبينوزا وديكارت وهيوم، وقد درس هيوم الهوى باعتباره "نقيضا للعقل وبين أن الهوى هو ما يحدث في دواخل الإنسان لما يجد نفسه أمام بديل أو خيار أو مشكلة ما، وهو أقوى من الغريزة الحيوانية، إذ ينتاب الإنسان ويغمر عقله، ويكتسح تمثلاته، وهو ضروري على نحو ما هو طبيعي. وقام هيوم بجرد الأهواء وتصنيفها حسب طبيعتها ووظيفتها، وقوتها وضعفها، وعنفها وهدوئها. وجسد حدتها ومفعولها من خلال علائق القرابة والصداقة والعداوة والصراع، والوضعية الاجتماعية وظرفيتها، والأمراض المزمنة، والطموحات الفردية والاجتماعية ".

غير أن هؤلاء الباحثين كما يقول جميل حمداوي :“ لم يدرسوا الأهواء دراسة معجمية دلالية وتركيبية ضمن متواليات وضمن مقاطع نصية صغرى وكبرى من خلال استقراء شكل المضمون بنيويا وسيميائيا ” وإنما تعاملوا مع تلك الأهواء باعتبارها صنافات (أي جمع تلك الأهواء وحصرها) كما يقول سعيد بنكراد. في حين أن ما يشغل كريماس في كتاب سيميائية الأهواء "هو الدفاع عن سيميائيات للأهواء تضمن من جهة استقلالية البعد الباتيمي داخل نظرية للدلالة، ولا تسمح من جهة ثاني بالخلط بينها وبين النظرية السيميائية في كليتها ، وتظل مع ذلك مستقلة عن المتغيرات الثقافية التي تعبر عنها الصنافات الإيحائية".
2- البوادر الأولى لميلاد سيميائية الأهواء:

قبل أن يتبلور مشروع سيميائية الأهواء في الكتاب الذي أصدره كريماس وجاك فونتانيي سنة 1991 فإن الاتجاه نحو الانفعالات والأهواء بدأ في التبلور منذ المقال الذي أصدره كريماص ضمن معجمه: ”في المعنى 2” تحت عنوان“جهات الذات” « de la modulisation de l’etre »فكان هذا المقال هو بداية الشروع في التعامل مع سيميائية الانفعال، والاهتمام بالمشاعر الجسدية والأهواء الذاتية ، بعد أن كان التعامل سابقا مع سيميائية العمل والفعل، وقد درس في هذا المقال تكييفات الذات الاستهوائية من خلال استحضار منطق الجهات: القدرة، الإرادة، الرغبة، الواجب. وتناول الأهواء في مقاله الصادر سنة 1983 تحت عنوان:“الغضب“ وفي هذا المقال درس آثار المعنى داخل المقاطع النصية التي تتمظهر فيها صورة الهوى الذاتي (الغضب) وتوصل إلى أن الغضب يتكون من ثلاثة أجزاء مفصلية تكون البرنامج الحكائي الاستنباطي وهي:
إحباط ............استياء ............. عدوانية.
لكن لم تشهد سيميائيات الأهواء التحديدات الأساسية والتقعيد النظري والتطبيقي إلا في تسعينيات القرن الماضي مع كتاب سيميائيات الأهواء لكريماس وجاك فونتاني.

3- الخلفية المعرفية لسيميائيات الأهواء:

بالإضافة إلى استفادة كريماس من مجموعة من الحقول المعرفية ك (الرياضيات والفيزياء والكيمياء...) ومن مجموعة من الباحثين ك (بروب وستراوس...) التي ساهمت بشكل فعال في بلورة مفاهيمه في سيميائيات الفعل فإنه استفاد أيضا في سيميائيات الأهواء من الفينومينولوجيين الظاهراتيين الذين ربطوا بين الذات الشعورية وعالم الأشياء إدراكا ومقصدية كما تجلى ذلك عند هوسرل وميرلوبونتي. ويبدو تأثره بميرلوبونتي حينما حاول الربط بين الشعور وإدراك العالم ضمن علاقة تواصلية تفاعلية. وبتعبير آخر يتوسط الجسد الاستهوائي الذات وعالم الأشياء، وذلك عن طريق تشغيل الحواس لإدراك العالم وتحديد مقصدية الذات، ومن هنا يتم الحديث عن الانتقال من حالات النفس إلى حالات الأشياء.كما استفاد من فينومينولوجيا هوسرل الذي استمد منه مجموعة من المفاهيم كالتوترية والتوتير.
كما تعد المكاسب التي حققها كريماس في سيميائيات الفعل عدة أساسية لسيميائيات الأهواء، خصوصا المسار التوليدي الذي يتكون من البنية العميقة والمستوى السردي ثم التجلي الخطابي. فقد ظل كريماس وفيا لهذا المكسب ومحاولا في الوقت ذاته تجاوز الثغرات الموجودة في نظريته الأولى وذلك من خلال التفاته للبعد الانفعالي الذي ألغاه في نظريته الأولى من خلال تركيزه على البعد المعرفي والبعد التداولي فحسب.

4- كتاب سيميائيات الأهواء:

ينقسم كتاب سيميائيات الأهواء إلى ثلاثة فصول؛ الفصل الأول نظري تحدث فيه عن العدة المفاهيمية لهذه السيميائيات وقام في الفصل الثاني والثالث بدراسة هويين هوى البخل باعتباره هوى موضوعا وهوى الغيرة باعتباره هوى بينذاتي.
4- 1- المستوى النظري:
4-1-1- موضوع الكتاب:
يتناول الكتاب ظاهرة مألوفة تنتمي إلى المعيش اليومي ؛ظاهرة الهوى كما يمكن أن تتجسد في صفات يتداولها الناس ويصنفون بعضهم بعضا استنادا إلى ممكناتها في الدلالة وفي التوقع الانفعالي، فالبخل والغيرة والحسد وغيرها من الصفات هي كيانات تعيش بيننا ضمن ما تحدده العتبات التي يقيمها المجتمع ويقيس من خلالها الفائض الكيفي في الانفعال الموجود على جنبات الاعتدال.
والهوى ليس عارضا أو طارئا أو مضافا يمكن الاستغناء عنه أو التخلص منه، بل هو جزء من كينونة الإنسان وجزء من أحكامه وتصنيفاته.

الهوى والمشاعر أية علاقة:

هناك فاصل بين الهوى باعتباره تجاوزا للحدود (العتبات الثقافية) وبين المشاعر التي تشير إلى حالات اعتدال تفرضها ثقافة ما وتحتكم إليها من أجل قياس حجمها وتصنيفها. فالحكم لا ينصب على كينونة المشاعر في ذاتها، بل على الفائض الانفعالي الذي يحول المشاعر إلى هوى.
وقد أكد كريماس في كتابه على نسبية الأهواء بين الثقافات لذلك فإنه سيعتمد في دراسته للأهواء ”باعتبارها مدونة هووية تكشف عن التمفصلات الكبرى لصنافة ممتدة في ثقافة بأكملها واعتبر الأهواء صنافات إيحائية“؛ بمعنى أن "لكل هوى استعمالات مخصوصة داخل دائرة ثقافية بعينها فما يعد بخلا في هذه الثقافة يعد ادخارا في ثقافة أخرى".
ما هو أساسي، عند كريماص، في دراسة الهوى ليس هو التعرف على العلاقات الدالة على الأهواء ، بل الاهتمام بآثارها المعنوية كما تتحقق في الخطاب لأن هدف الكتاب كما يقول سعيد بنكراد: “ليس تقديم صنافة شاملة ممتدة لسلسلة من الأهوا كما يفعل ذلك الفلاسفة وعلماء النفس وغيرهم ، ولا يتعلق الأمر بإصدار جملة من الأحكام الاجتماعية والأخلاقية التي تدين هذا الهوى أو ذاك، بل إن هوى السيميائيات هو هوى تركيبي دلالي لا يلتفت إلا للممكنات الكامنة التي يمكن أن تتجسد من خلال وجود الأدنى كما تتحقق في القواميس".

يتعلق الأمر إذن، في سيميائيات الأهواء، "بدراسة الهوى باعتباره سابقا عن الممكنات الدلالية المستثمرة، فهو من حيث الطبيعة وممكنات التركيب يعد سلسلة من الحالات الانفعالية التي تتطور خارج البعدين المعرفي والتداولي (المكونين الرئيسين في النص السردي، إنه يشكل مسارا جديدا يطلق عليه المؤلفان البعد الانفعالي".

4-1-2 العدة المفاهيمية لسيميائيات الأهواء:

“إن ظهور الأهواء والعواطف الإنسانية في فضاء الصرح السيميائي قد أعاد مباشرة الاهتمام إلى الحياة الداخلية للذات بعد ما ثم استبعادها تحت إكراهات الخلفية البنيوية’’.لذلك فقد فرضت مقاربة هذا البعد من الناحية الإجرائية تشكيل عدة مفهومية خاصة، وقد أثمرت بالفعل الطاقة التنظيرية التي يتمتع بها الباحثان مفاهيم تتميز بغنى حمولتها الدلالية والمعرفية . ومن أهم المفاهيم التي تحدث عنها الباحثان:
الاستهواء la phorie:هو المادة التي تتشكل منها الأهواء فبدون استهواء لا يمكن الحديث عن الأهواء،وهو القوة الانفعالية الكامنة التي يستند إليها خطاب الأهواء لرسم عوالمه بمعنى أنه الصيغة الأولى للكينونة فالذات العارفة قبل أن تحدد لنفسها مسارا يسميه المؤلفان التجسيد فإنها لم تكن سوى شبه ذات أي ما يمكن أن يخبر عن أي إحساس سابق عن أي تمفصل وهو ما يسميه المؤلفان الاستهواء.

التوتير protensivité:هي مقولة مستوحاة من فينومينولوجيا وترتبط في هذا المجال بالقصدية وتدل على قدرة الذهن على التوجه نحو الموضوع واستهدافه، وهذا ما يعنيه التوتير في حقل سيميائيات الأهواء، إنه استهداف للكتلة الانفعالية والدفع بها إلى التجسيد في حقل التوترات المرئية، وهذه التوترات هي البدايات الأولى التي تقوم عليها أشكال التركيب المسؤولة عن تشكل الأهواء في انفصال عن الاستهواء واستنادا إليهافي الوقت ذاته. والتوتير هو الممر الضروري لولادة التكييفات (أرغب في، أستطيع،أعرف) وهي الصيغ الأساسية التي تحدد علاقة الذات بعالمها.
مثال ذلك فإن الأمير في رواية ”الأميرة كليف“ قبل أن يقع في غرام الأميرة دوتشاردز لحظة لقائه بها عند بائع المجوهرات لم يكف عن اندهاشه من كل ما يحيط بها أي أنه كان يعيش حالة توتر ويستشرف إمكانية حبه لها.
المصير devenir: هوحاصل التوترات التي يأتي بها الانشطار الاستهوائي الذي يقود إلى خلق حالة لا توازن تمهد الطريق إلى بروز الدلالة، بمعنى أنه انتقال من حالة إلى أخرى وهو مبدأ مدرج ضمن كل مظاهر الوجود (فالوليد مثلا ليس كذلك إلا من خلال اسقاطات تضم الصبا، الشباب، الكهولة، الشيخوخة).
النظير valence: هو مصطلح مستعار من الكيمياء حيث يعين عدد الذرات المضافة إلى تركية الجسم. لكنها تدل في سيميائيات الأهواء“ على المحددات الانفعالية التي تفرض على الموضوع، وبعبارة أخرى إنها تعني أن القيمة التي تمنح في حالة الهوى إلى الموضوع لا تحدد من خلال بعدها النفعي بل من خلال ظلال دلالية أخرى من طبيعة انفعالية.

4-2 المستوى التطبيقي:

في مجال التطبيق فقد تناول المؤلفان هويين؛ البخل والغيرة، يعد الهوى الأول هوى ذاتيا، أما الثاني فهو هوى بين ذاتي.
4-2-1 هوى البخل:
“فيما يتعلق بهوى البخل، فقد انطلق المؤلفان من من التعريف الذي يقدمه القاموس، باعتباره شاهدا على استعمال ثقافي مخصوص” وتحدثا عن مرادف البخل الشح والتقتير ثم عن نقيضه التبذير والإسراف والسخاء والكرم وبينا أن البخل يعد برنامجا حكائيا يتمحور حول جمع المال والمحافظة عليه، وهذا يتطلب من البخيل الاقتصاد وعدم التبذير والإعراض عن متع الدنيا (معرفة الفعل)ويتحدد الموضوع المبحوث عنه (المال) من زاوية البعد التداولي لأنه موضوع قابل للتخزين أو الاستهلاك ويولد البخل الرغبة في التشبث بجمع المال وعدم تدبيره. وبعد أن قاما المؤلفان بالتحليل الدلالي المعجمي، اختزلا تمظهرات البخل في نسق مصغر يستقطب العناصر المترادفة والمتضادة التي تنسج فيما بينها العلاقات التالية:
1-في محور التضاد (الأخذ ....... العطاء) توجد العلاقة التالية:
البخل 1 والجشع....(مقابل)....تبذير والإسراف والاقتصاد2 والسخاء1.
2-في محور شبه التضاد(المحافظة ......الترك) نجد:
البخل2 والشح والادخار والاقتصاد1....(م)....المغالاة والسخاء2 واللامبالاة والليبرالية.
3-وفي محور التضمن (الأخذ ........ المحافظة) نجذ:
البخل ولجشع....(م)....البخل2 والشح والحرص والادخار والاقتصاد1.
4-في محور التضمن(العطاء.......الترك) نجد:
التبذير والإسراف والاقتصاد2 والخاء1 .....(م)....المغالاة السخاء2 اللامبالاة الليبرالية.
5-في محور التناقض (أخذ......ترك) نجد ما يلي.
البخل والجشع ....م....المغالاة السخاء2 اللامبالاة والليبرالية.
6-في محور لتناقض (العطاء.... الترك)نجد.
التبذير والإسراف والاقتصاد2 والسخاء1.....م.......البخل2 والشح والحرص والادخار والاقتصاد1 .(ك.ص 181).
4-2-2 هوى الغيرة:

وتناول المؤلفان في الفضل الثالث هوى آخر يختلف عن هوى البخل من حيث الاشتغال ومن حيث الأزمة الهووية ومن حيث الممثلين المنخرطين في المشهد الهووي، ويتعلق الأمر بالغيرة وهي هوى بيذاتي يتطلب ثلاثة ممثلين: الغيور، الغريم المحبوب.
إن تمظهر الغيرة يعني معجميا التعلق والمنافسة، ويقتضي وجود علاقة بين غيور وموضوعه (المحبوب)(ذ1 /ذ3)وبين الغيور والغريم (ذ1/ذ2)(ص 273).

ويقترن ،من خلال علاقة الفصل أو الوصل، إما الخوف من فقدان المحبوب أو اقتسامه مع الغريم وإما الامتعاض من استمتاع الآخر به وحرمانه منه، ويستدعي جملة من الوضعيات (التباري، المنافسة، الغرم، الامتلاك..) وتكون غاية الغيور هي امتلاك المحبوب (ذ3) ويرفض أن يشترك المنافس في امتلاكها أو الاستمتاع بها
إن الأمر في الحالتين يتعلق بمحاولة الإمساك بالهووين ضمن الخطاب، ومن خلال تحققاتهما بعيدا عن الصنافات التي قد لا تقدم أي شيء في بناء الدلالات ويقدمان أنموذجا جديدا لتناول الأهواء وتحديد مضامينها استنادا إلى ممكناتها في الخطاب لا استنادا للقواميس فحسب، لأن الوجود الخطابي للأهواء رهين باستعمالاتها، ولذلك لا فائدة من مساءلة الصنافات التي قد تكون محكومة برؤية دينية أو اجتماعية أو أخلاقية.

بناء على ما سبق يمكن القول، إذا كانت سيميائيات الفعل قد انشغلت مدة طويلة بمعنى العمل وحالات الأشياء، فإنه في العقود الأخيرة، قد ثم الالتفات إلى أهمية الهوى أو الحالة النفسية موضوع سيميائيات الأهواء، "فإلى جانب كون العامل يعمل فهو يحس ويحتاج في الحالتين معا إلى إثبات وجوده والصدع بمشاعره ومواقفه وإدراك مبتغاه والتأثير في الآخرين، وإذا كانت سيميائية العمل قد بلورت مع مر السنين عدة مفاهيم راكمت تراكمات نظرية وتطبيقية ، فإن سيميائيات الأهواء لا زالت تبحث عن تعزيز لمكانتها داخل السيميائيات عامة".

إن ارتباط سيميائيات الأهواء عند كريماس بسيميائية الفعل عرض كتاب "سيميائيات الأهواء" للنقد من قبل بول ريكور الذي يقول موجها نقده لكريماس وفونتانيي :" لم وضعتما جهات الفعل مقابل جهات الكينونة ، كنا ننتظر منكما جهات المعاناة les modalités de patir ". ويرى بول ريكور أن سيميائية الأهواء لم تقترح نمذجة للأهواء عل غرار البنية العاملية التي صاغتها سيميائيات الفعل ، لقد اكتفت سيميائية الأهواء بالتمييز بين الدور الموضوعاتي والدور الانفعالي ، على الرغم من التباسهما وتداخلهما في حالات كثيرة، ولم تبرز كيف يتفاعل الدور الموضوعاتي مع البنية العاملية، فالدور الاستهوائي يمثل مقطعا حساسا داخل المسار الموضوعاتي؛ وهذا هو سبب التباس الدور الانفعالي والدور الموضوعاتي أحيانا، ويتم التمييز في ما بينهما تبعا لخصوصية الوجهية (les particularie aspectuelle) وعليه يكون الدور الموضوعاتي متكررا في حين يكون الدور الانفعالي دائما.

وقد فتح هذا الكتاب مجالا جديدا للبحث سيخوض فيه مجموعة من الباحثين بعد كريماس، فقد ألفت الباحثة آن آينو في كتابا تحت عنوان "السلطة بوصفها هوى" « le pouvoir comme passion » وأيدت فيه اتصال سيميائية الأهواء بسيميائية العمل، لأن الفصل بينهما سيعود بنا إلى الرومانسية التي تقول بالهوى لا غير، واعتبرت أن سيميائية العمل هي الممهدة لسيميائية الأهواء؛ ذلك لأن تحليل كفاية الذات الإبستمولوجية هو الذي يفضي إلى قضية الهوى. وتساءلت الباحثة في كتابها عن كيفية تمثل البعد الاستهوائي غير المرئي، ليصبح ظاهرا في عمق الخطاب ، وقد اتخذت من يوميات أرنو داديلي موضوعا للدراسة؛ وذلك من خلال "تقطيعها اليوميات إلى وحدات قرائية محللة كل وحدة بناء على مجموعة من العينات الاستهوائية والأبعاد القيمية"، وقد توصلت إلى أن ممارسة الحكم كعمل يمكن أن يختزل في ثلاث حالات: الانتقال من حالة الحبور والتجلي إلى حالة الخيبة والفشل في إقرار السلم، مرورا بحالة التنبيه الشرعي وفقدان الهيبة. وتوصلت إلى أن الأهواء لا تتضح من خلال مؤشرات تلفظية في المحتوى النصي وإنما قد تكون مضمرة، وذلك من خلال ملاحظاتها للظواهر الانفعالية المضمرة في الخطاب، كما يمكن أن توجد علامات تلقائية تدل على اضطرابات معينة.

خاتمــــــة :

خلاصة لما سبق يمكن القول بأن دراسة الأهواء التي قام بها كريماس وجاك فونتانيي شكلت منعطفا جيدا في صرح السيميائيات دون أن يحدث قطيعة إبستمولوجية مع سيميائيات الفعل؛ بل ساهمت في سد بعض ثغراتها من خلال إعادة الاعتبار للبعد الانفعالي الذي ألغي فيما قبل حينما ثم التركيز على البعد المعرفي والتداولي فحسب، وفتحت مجالا خصبا لمجموعة من الأبحاث التي ستهتم بهذا المجال، وأبعدت في الوقت ذاته الأهواء عن الدراسات الصنافية التي كانت سائدة عند الفلاسفة وعلماء النفس.

المصادر والمراجع:

كريماس وفونتانيي، سيميائيات الأهواء: من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة سعيد بنكراد،دار الكتاب الجديدة،الطبعة الأولى 2010.

بن ستيتي (السعدية) فنية التشكيل الفضائي وسيرورة الحكاية في رواية ’’الأمير’’ لواسيني الأعرج، أطروحة لنيل الدكتوراه جامعة سطيف، قسم اللغة و الأدب العربي ،2013_2012.

الداهي (محمد) سيميائية الأهواء، مجلة عالم الفكر، العدد3 المجلد 35،يناير مارس2007.
حمداوي (جميل) سيميائية الاستهواء الإرهابي في الرواية العربية السعودية، مجلة دروب الالكترونية،2011.
بادي(محمد)سيميائية مدرسة باريس المكاسب والمشاريع،مجلة عالم الفكر،العدد 3 المجلد،35يناير مارس 2007.
جريوي (آسية) البعد الهووي ودوره في حركية الإنجاز دراسة في رواية "سيد المقام" لواسيني الأعرج، مجلة المخبر؛ أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، العدد الثامن، جامعة محمد خيضر، بسكرة الجزائر،2012.

مريم أجرعام
باحثة في البلاغة والخطاب تخصص آداب بجامعة شعيب الدكالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية –الجديدة- المغرب.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى