الجمعة ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٣
رواية من أدب السجون

عاشق من جنين ـ الحلقة الثانية

رأفت خليل حمدونة ـ سجن نفحة الصحراوي

كل تصويت على تطبيق أي قرار يتعلق بفلسطين سرعان ما يتوقف بحجة الفيتو ، في حين إذا كان الأمر يتعلق بدولة ضعيفة وغالبا ما تكون عربية أو إسلامية ، فتخلق الحجج المبررات لإخضاعها وضربها بالقوة ، إنها مؤسسة ظلم يتحكم بها ظلمة باسم العدل والسلام وحقوق الإنسان .

وعند ارتاح أبو حسن من كلام الشيخ حافظ وقال :

" يسلم فمك يا شيخ " والله العرب يستأهلون أكثر من ذلك ، لأنهم سلموا رقابهم وأموالهم ومصائرهم للغرب ، ولأنهم تركوا دينهم ، واستجدوا عدوهم ، قاطعه الحاج أبو إبراهيم : ولكن لماذا وصلنا لهذه الحالة من الهوان !! هل يرجع الأمر للحاكم أم للعلماء أم القادة أم الشعوب !! ورد الشيخ حافظ : أنا أرى أن الكل ملوم ومكان اتهام ، الحكام ظلمة ، وحماهم الغرب ، والعلماء اقتربوا منهم ولفوا لفهم ، والمعارضة تخشى السجن والقتل ، فإما جبانة وإما كسولة ، والشعب مقهور ومستضعف ومغلوب على أمره يجرى وراء لقمة العيش ، ويهاب سطوة الحكام ، وفجأة سمع الحضور صوت سيارة وقفت على باب الحديقة ، وإذا بأبي سامي زوج بنته نعمة وأبنائه ، فأستأذن الحضور من أبي حسن وذهبوا إلى بيوتهم .

كان أبو سامي يحب لعب الطاولة مع أبي حسن الذي كان بصعوبة يرى خطه في حبات الزهر، فيطلب من حفيده الطفل أن يقرأ له خطه .
كان الطفل ينقل ذلك وكأن الحاج يختاره بنفسه فيغضب أبو سامي من الهزيمة ، وأثناء اللعب طرق الباب ، وذهب الحاج ليرى الطارق .
استغل أبو سامي غياب الحاج ووعد ابنه الصغير بإعطائه المال إذا ما نطق بما يشير عليه ، عاد أبو حسن للعب متشوقا لرؤية هزيمة صهره وإذا بالحظ يتغلب لغير صالحه ، أصيب الحاج بخيبة الأمل ، وتشاؤم من قرب الهزيمة .

حضرت ابنته نعمة وراقبت حركات الطفل الذي يستجيب لإشارة والده ، فلم ترضَ لهزيمة والدها ، وكشفت الحقيقة التي أنقذت أبا حسن من قسوة الهزيمة ، ومرارة كلام صهره اللاذع .

وقرب المغيب استأذن أبو سامي ونعمة بالعودة لبيتهم ، إلا أن الأبناء أصروا علي البقاء مع جدهم في تلك الليلة ، وتناولوا طعام العشاء ، ثم أحضرت الحاجة أم حسن لهم الشاي ، تناول عدنان الكوب الأول وألحقه الثاني ، وأراد أن يصب الكوب الثالث ، فانتبه إليه الحاج وقال : لطالما أنك تحب الشاي لهذه الدرجة ، فالأفضل لنا ولك أن نضع كليو شاي وكم رطل من السكر ونضعها لك في الحمام الشمسي ، ونسكب لك الشاي من الصنبور مباشرة ، ضحك الحضور علي عدنان وسأل سامي جده : هل ذهبت لمدرسة يا جدي ؟
فأجاب : لا ولكني درست في الكٌتاب ، فتعلمت القراءة والكتابة في القرآن .

وماذا كنتم تلعبون في الكٌتاب ؟

قال الجد : كان علي كل طالب أن يحضر كيساً كبيراً ويلبسه في رجليه ، ونقف صفاً واحداً ونتسابق .

وهل كنت تفوز ؟

دوماً كنتُ أسبق الجميع ؟ فهل تعرف لماذا ؟

قال سامي : لأن جسمك نحيف .

فقال الجد : بل لأني كنتُ أتعمد إحضار كيس غير مغلق وأٌخرج قدمىّ علي الأرض دون أن ينتبه إلىّ الآخرون ، ولحتى الآن أستطيع أن أصرع هذا الشقي عدنان .

كان يخشى الخجول سامي والقوي من إحراج الجد إذا ما صرعه عدنان ، فحاول أبو حسن بكل قوته مع حفيده فلم يقدر عليه ، فأخذ يضرب برأسه صدر حفيده ولكن دون جدوى .

وضع عدنان قدميه خلف جده النحيف ، ودفعه فإذا به يخر كالحطبة علي الأرض .

حاول الجد تبرير هزيمته أمام الحاجة أم حسن دون جدوى ، فأوكل الأمر إلي سامي ، قوي الجسم ، فحمل عدنان ووضعه تحت رحمة الجد .
شعر أبو حسن بالثقة بعد ما شفى صدره من عدنان وتناول عصاه وضربه علي قفاه .

ومع أصوات ضحك الجد وسامي وأم حسن بدأت معركة من إطلاق النار الكثيف ، وزخات من الرصاص المتبادل ، أدرك الجد أن هناك عملية مقاومة عسكرية قريبة من المخيم ، وعلي وجه من السرعة تناول المذياع وبدأ يقلب علي الإذاعات ، ويبحث عن نشرات الأخبار .
بعد فترة وجيزة سمع الجد طرقات باب بيته ، وإذا بخليل يغطى رأسه بالكوفية ، ويلهث مع كثرة الخوف والتعب .

استدرك الجد الموقف ، وسأله منفردا عن أصحابه والسلاح ،
فأجاب خليل : اطمئن يا جدي الكل بخير .

كيف أتيت إلي هنا ، فسيقلق عليك أبوك وأمك .

لا يا جدي إني بلغتهم بأني سأمكث عندك هذه الليلة .

عانق الجد حفيده بمزيد من الفخر وأدخله للبيت .

تابع الجميع نشرة الأخبار العربية لإذاعة العدو ، والتي ذكرت العملية العسكرية مع التغطية لنتائجها ، ونعتت منفذيها بالإرهابيين .

شتم أبو حسن الإذاعة وقال : عالم ظالم ومتواطئ أنا لا أعرف من هو الإرهابي ، من يدافع عن دينه وأرضه وشعبه ويقاتل في وطنه ، أم المتعدي والظالم والمحتل ؟؟

فإذا كانت الشرائع والديانات والقوانين الدولية تشرع للمظلوم المقاومة لاسترداد حقه ، فلماذا هذا العالم يساند الظالم ، ويتحامل علي المظلوم ، لماذا يقفوا مع القاتل ويلومون الضحية ؟
ألم تستر كل الشعوب أرضها وكرامتها بالمقاومة فلماذا هي محرمة علي شعبنا ؟

لن أٌفسد علي فرحتي وهذا الفخر والشرف الكبير ، فليقولوا ما يشاءون .

وقف أبو حسن شامخاً ، وعلي غير عادته طلب من عدنان أن يضع علي أغنية احتفالا بهذا النصر والبطولة .

وضع عدنان علي أغنية حديثة ، كلها موسيقي سريعة وكلمات غير مترابطة ولا مفهومة ، فتناول الحاج عصاه ولحق به ، ما هذه المسخرة يا ولد ؟ أين ذوق زمان ، وفن وكلمات وألحان وفنانين زمان ؟

لقد افسدوا علينا حتى ذوقنا ومزاجنا ، وتلاعبوا بأحاسيسنا ومشاعرنا ، فما هذه التفاهة والذوق السيئ ؟

بحث الحاج أبو حسن علي محطة أخري بنفسه وإذا بأغانٍ وطنية في صوت فلسطين ، وأشار الحاج بعصاه نحو المذياع ، وقال هذا هو الصوت ، وهذا هو اللحن وهذا هو الفن الهادف والنبيل والمنسجم مع الفترة والذوق السليم .

مسك الجد يد خليل محتفلاً به ، وأخذ يدبك من شدة الفرح .
بدأ اليوم الجديد ومنذ الشروق عاد الحفيدان إلى والدتهما وذهب خليل إلي جامعته ، وانشغل الجد أبو حسن بري حديقته الجميلة ، والجدة بترتيب البيت ، وإعادة الفراش التي استضافت عليه ضيوفها .

في نهاية اليوم اجتمع أصحاب أبى حسن كعادتهم ، وتحدثوا عن ليلة البارحة والعملية لعسكرية ، وعن عيون العدو التي ستنتشر لمعرفة أبطالها، مدح الشيخ حافظ وأبو إبراهيم أبطال هذه العملية البطولية ، وكان يفتخر أبو حسن بحفيده ولكنه كان يدرك قيمة كتمان السر في هذه الظروف .

كان الحاج مصطفي شارد الدهن ، فعلم أبو حسن أن في الأمر شيئاً ، ماذا بك يا حاج مصطفي ؟

أول أمس طلب مني جارنا أبو يحيي أتوسط له عند نسيبه لأعيد له زوجته التي عادت لأهلها إثر خلاف بينهما بعد ما طلبت منه الذهب الذي استعاره منها في أزمة مالية الأمر الذي لم يقدر عليه زوجها .

أردتٌ أن أكفل أبا يحيي عند أهل زوجته ، علي أن تعود لبيتها وأولادها ، وهو يعيد لها ذهبها الذي استعاره في فترة أقصاها ستة أشهر .

ما قلته عين العقل يا حاج مصطفي .

هذا عندك وعند السامعين يا أبا حسن ، فأهل الزوجة رفضوا كفالتي ، واشترطوا عودة ابنتهم لزوجها بعودة الذهب ، وأما أنا فعدت مكسور الخاطر .

وبعد يومين ذهبت لأبي يحيي لأعرف ما حصل ، وإذ بزوجته في بيته .
قلت له : الحمد لله علي سلامة أم يحيي يا جار ، ومبارك عودتها ، فهل أعدتَ لها ذهبها ؟

أجاب أبو يحيي : لا يا حاج مصطفي ، بل كفلني عندهم سليم ، أنت تتحدث عن أبي نصف عقل ؟

هذا قبل ربحه جائزة البنك يا حاج مصطفي والتي تقدر بعشرة آلاف دينار علي رقم الحساب الذي يستقبل عليه مساعدة أخيه الموجود في الخليج له .

وهل أخذ الجائزة ؟

نعم ، قبل أربعة أشهر .

قال الحاج مصطفي : ولكن كيف أعاد زوجتك ؟

أقرضني نصف ثمن الذهب ، وكفلني بالمبلغ المتبقي .

هذا ما قاله لي أبا يحيي ، وهذه هي قصتي يا حاج أبا حسن.

والله يحق لك أن تغضب يا حاج مصطفي ، فهذه ثقافة معك قرش تسوى قرش ، مع أن الكثيرين من أصحاب القروش تاجروا في دماء الناس ، فظلموهم وسحقوهم وتجاوزوا الدين ، وكل القيم والأخلاق .
يبدو أن معايير الناس قد تغيرت في هذا الزمن ، وصدق الذي قال : رأيت الناس قد مالوا إلي من عنده مال وكذلك : رأيت الناس قد ذهبوا إلي من عنده ذهبُ وصدق القائل الآخر : إلّي معه فلوس علي رأسه الرجال تبوس ، وإلي ما معه فلوس علي رأسه الرجال تدوس ، فلا تقلق ولا تحزن ولا عليك يا حاج مصطفي فقيمتك محفوظة عند مَن يقدرون قيمة الرجال ، وأنت سيد الرجال .
هدأ قلب الحاج مصطفي وارتاحت نفسه واعتز بأصحابه ووقفتهم ، وحياهم علي موقفهم وشكرهم ، وزال الهم .

لم تمر أيام طويلة حتى حضرت قوات كبيرة من الجيش لتداهم المخيم ، وفي منتصف الليل توجهت إلي منزل أبي خليل ، وأحاطت به من كل الجوانب ، صوبوا بنادقهم والأضواء الكاشفة نحو البيت ، وطرقوا باب البيت بطريقة همجية ومرعبة ووحشية .

فتح أبو خليل الباب ، وفاجأه من العدد الكبير للجيش ، سأل الضابط : أنت خليل ؟ أجاب : لا ، ولكني أبوه ، لم ينتظر الجنود وبسرعة دخلوا البيت ، فخرج خليل بملابس النوم .
أنت خليل ؟ أجاب خليل : نعم .

وعلي الفور اختطفوه وأعصبوا عيناه ، ووضعوا السلاسل في يديه وأرجله ، وأدخلوه إلي زنزانة معتمة قذرة ورائحتها سيئة ، وبعد ساعات نقلوه إلي غرفة التحقيق .

قال المحقق : أنت من قام بالعملية العسكرية في ساحة المخيم
أنكر خليل كل الاتهامات الموجهة إليه ، فأحالوه لمسلخ التحقيق .
انتقل خليل من مرحلة إلى أخرى ، وذاق كل أنواع التعذيب ، الضرب الوحشي ، والشبح ، وصب الماء البارد علي رأسه ، والحروق بالسجائر والامتناع عن الحمام ، والتهديد بهدم البيت ، واعتقال والده والصراخ ، والشتم بألفاظ سيئة بذيئة .

وبعد ستين يوماً من هذا الحال ، قال المحقق لخليل : ألم تشهد مؤتمر مدريد ، وتسمع عن اجتماعات أوسلو ؟

قال خليل : سمعت وأعرف .

قال له المحقق : ما لا تعرفه أن السلطة الفلسطينية باشرت بعملها ، وتدفقت أفواج من العائدين ، والحديث يجري الآن عن إطلاق سراح معتقلين ، فلماذا هذا العناد والإنكار ؟

لم يؤمن خليل بكل ما سمع ، واستبعد ما ذكره المحقق وبقي علي موقفه .

أدخل المحقق علي خليل شخصين مقنعين ، فشهدا عليه ، سألهم المحقق : هذا هو نفس الشخص الذي رأيتموه يوم العملية العسكرية مع صديقه المسمي محمود ؟

أجاب الشخصان : نعم هو ، فنحن تابعنا خطواتهم وتأكدنا منهم .
تفاجأ خليل من الرواية ، ومن خبر اعتقال صديقه محمود ، وانتهي الأمر بشاهدتين دون اعتراف ودون استدلال علي قطعة السلاح .
وبعد خمسة أشهر من الاعتقال ، نزل الصديقان إلي محكمة عسكرية ظالمة ، استكفت بشاهدين دون اعتراف ، وحكمت عليهما بالسجن لمدة سبع سنوات .

تغير الحال في فلسطين ، وأقيمت الأفراح بإنشاء السلطة واستقبال العائدين ، و إخراج عدد من المعتقلين ، وأقيمت الشركات ، ومشاريع الإسكان والاستثمارات لرؤوس الأموال من الخارج ، ظهرت طبقة غنية جداً من ذوي رؤوس الأموال والعائدين ، ورجالات السلطة ، في حين أن حال سكان المخيمات لم يتغير ، علي الرغم من أنهم الأكثر تضرراً من الانتفاضة التي صنعوها بدمائهم ، ودفعوا ثمنها زهرات شبابهم وأعمارهم ، استشهدوا وجرحوا واعتقلوا وانتشر بينهم الفقر .

كان أبو حسن يعتصر ألماً علي حبيبه خليل ، الذي لم ينسه لحظة واحدة ، ولم يقطعه من الزيارات التي كان يقول له فيها ، اصبر يا جدي ، فالسجن لا يبنى علي رجال .

كان خليل يطمئن جده ويوصيه بخطيبته ليلي .

عاد الحاج أبو حسن وأصحابه كالعادة بعد صلاة العصر واجتمعوا في الحديقة ، كانوا يتذمرون من الحال ومن عدم تغير ظروفهم ، وكذبة سنغافورا في فلسطين ، فالفقر بقي علي حاله ، والمخيمات لم تتغير ، والسجناء ذوو الأحكام العالية لم يفرج عنهم ، ويد الجيش تطال كل مطلوب ، وبهرجة السلام ليست أكثر من وهم .
في تلك الأثناء دخل شاب في بداية العشرينات من عمره ، ابتدأ بالسلام ، فرد عليه الحضور ، واقترب من الحاج أبي حسن ، فسأله أبو حسن : من أنت يا جدي ؟

ولماذا تبكي وغضبان ومتوتر ؟ فأجاب الشاب : أنا ابن الشهيد جبر يا حاج .

أهلاً وسهلاً بابن البطل فهل أنت نضال ؟

نعم ، أنا نضال وعندي مشكلة كبيرة جداً .

خير يا بني ، ماذا حصل ؟

أجاب الشاب : أمي ، بعد استشهاد والدي لم تتزوج ونذرت نفسها لتربيتنا وتعليمنا والمحافظة علينا .

فاشتغلت كل هذه السنين في الخياطة ، ولم تمد يَدها لأحد ، ولم يساعدنا أحد ، مع أن الجميع يعلم حالنا وزوجة من هي ، وكم أعطي زوجها للحفاظ علي كرامة الناس وتراب الوطن ، فكبّرت وعلمت وحافظت علينا ، وقبل أقل من شهر ، شعرت بألم في جسدها ، لم تستطيع أن تصبر عليه ، فأخذتها للمستشفى ، وعملنا لها أشعة وفحوصات دقيقة ، وللأسف أبلغنا الطبيب ببداية انتشار مرض خطير في جسدها .

قال الحاج أبا حسن : الله يشفيها ويعافينا جمعيا ، ولكن لماذا أنت في هذا التوتر الشديد؟

أمي تموت يا جدي ، وأنا متخرج جديد في الجامعة ، وليس عندنا ما يمكننا لتغطية نفقات علاجها ، أو علي الأقل ، وقف نمو مرضها واستشرائه ، لأنه في مرحلة مبكرة ، فأنا يا جدي أنظر إليها وأموت في اليوم مائة مرة ، فهذه أمي التي ضحت بنفسها لأجلنا ، فعملت ليل نهار لتجعل منا رجالاً يساندونها في مثل هذا اليوم ، وللأسف نعجز الآن عن تقديم أي شيء لها .

ولكن ما هذا الذي في جيبك ؟

أجاب نضال : سكين .

ولماذا ؟

أجاب نضال : لا أخفيك بأني سأتوجه بالحُسنى للقادرين والأغنياء وذوي الأملاك ، علي الأقل بإعارتي نفقات علاج هذه المسكينة وأعدهم كما أعاهدك علي إعادتها متى تيسر الحال ، ولكني أقسم إن لم أجد منهم ما يتوجب عليهم ، فسأتصرف بالقوة ، ولو كلفني الأمر ما كلَّف .

أوقفه أبو حسن قائلاً : ولكن هذا حرام يا جدي ، تمهل وتعوذ من الشيطان ، واهدأ لنفكر سوياً .

قال نضال : كيف أهدأ وأمي تموت بين أيادينا ، وكيف أتمهَّل والمرض ينتشر في جسدها كالنار في الهشيم ، صدقنى يا جدي إن لم أعالجها فلن أسامح نفسي ما حييت ، فهي الغذاء الذي يقيني والهواء الذي أتنفسه ، إذا كان هذا الأمر حرام ، فأين الحلال الذي فعلوه هم ؟ أين كان هؤلاء المترفون وأبي مطارد في كهوف الجبال ؟ ألم يحمهم أبي عندما قصروا في حماية أنفسهم ، أليس لنا فضل عليهم ، فمن أين أتوا بهذه القصور التي يعيشون فيها ، وبأفخم السيارات التي يركبونها ، وأرصدة البنوك التي يبذرونها علي لا شييء له القيمة في هذه الحياة ، كثيرة هي مصانعهم ومزارعهم وثرواتهم والأملاك المتكدسة ، في حين أننا نفتقر لعلاج زوجة شهيد صابرة وصامدة ومكافحة في الحياة مثل أمي ، فلن أنتظر حتى تموت وأتعذر بالقدر ، فهل نحن قدرنا الموت وهم قدرهم الحياة ؟ إن عدل الله لا يرضي بذلك هل تعلم يا جدي أن جزءاً بسيطاً لا يذُكر من أملاكهم التي تعنى لهم شيئاً تنقذ أمي ، وترد لها جميلها ، وتشعرها بقيمتها ومكانتها .

قال الحاج أبو حسن : تمهل يا نضال ولا تظلم الناس فالغِنَي يا جدي ليس عيباً بذاته ، بل العيب أن يمر علي أحدهم حالة مثل حالة أمك دون أن تحرك فيهم ساكناً ، فالكثير من الأغنياء من أقاموا المستشفيات والمدارس والمصانع ، وساعدوا المحتاجين والفقراء .
قاطعه نضال : والكثير منهم من أغناهم دمنا وأعمارنا .
ما علينا يا نضال ، لا نريد أن نحاسب الناس ، اذهب أنت الآن ، وسوف آتي إليك بنفقات العلاج في أقل من أسبوع .

تأثر الحضور من أصحاب الحاج بالحوار الذي دار بين الحاج ونضال .
قال الشيخ حافظ : منذ اللحظة سوف أزور أصحابي من خطباء المساجد للدعوة للتبرع في الصناديق بعد صلاة الجمعة لإنقاذ حياة هذه السيدة من خطر المرض والموت وتلاه أبو إبراهيم : ومن ناحيتي سأقدم مبلغاً من المال كنت أنوي التبرع به لإحدى المؤسسات الإنسانية التي ترعي اليتامى والمسنين كصدقة جارية .

وقال أبو حسن : أما أنا فأملك كبشين ليس لهما مكان عندي في الحديقة .

في صباح الجمعة باع الحاج أبو حسن كبشيه وتبرع أبو إبراهيم بالمبلغ ، وفي نهاية اليوم أتي الشيخ حافظ بحصيلة صناديق التبرعات من المساجد ، وإذا بالحصيلة تزيد عن حاجة العلاج لأم نضال .

ذهب أبو حسن لبيت الشهيد ، واطمأن علي أم نضال وأعطي المبلغ كاملاً للشاب الذي وعده بتدبير نفقات العلاج .

عانق نضال الحاج أبا حسن بحرارة وبكاء ، وقال له : نحن وفلسطين وشعبنا بحاجة لأمثالك يا جدي .

شكره الحاج علي عبارته ، وفي الأسبوع الذي تلاه دخلت أم نضال المشفى ، وأجريت لها عملية ناجحة وتعافت وعادت لصحتها وحياتها.
شعر خليل بقسوة السجن فهو بلا تعريف معنى مخيف كقاربٍ في بحرها هائجٍ بلا تجديف في تلك الأيام أدرك خليل بلاغة تقديم كلمه ليثبتوك في الآية الكريمة " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " ، فالحرمان من الأهل والزوجة والأبناء وألوان الطعام والشراب والحرية في الحركة والتعبير ، وكل متاع الحياة الدنيا ، أكثر عقوبة و أقسى من الإبعاد والقتل .
فرأى بأم عينه آلاف المعتقلين الذين تمنوا الشهادة على قسوة السجان .

تعرف خليل علي من حوله من السجناء وهمومهم ، فأشفق علي الكثير من الذين كانوا في صلابة الصخر أمام المحقق وتغلبوا علي كل أصناف التعذيب ، ولقلة الوعي في ظروف التحقيق وخداع المخابرات لهم وقعوا فريسة في شرك غرف العملاء ( العصافير ) الذين تبنوا أسماء مناضلين وتظاهروا بالتدين والأخلاق والوطنية ، فأوهموا المعتقل الجديد بوجوده في المكان الآمن ، فحرصوا علي إقامة علاقة طيبة معه وكسبوا ثقته ، واستغلوا ظرفه وحاجته للأمان بعد التحقيق ، واستدرجوه بكشف أسراره وما أخفاه عن المحقق ، فطلبوا منه أسماء زملائه الذين عمل معهم ليحذروهم عبر زيارة الأهل ، فوقع فيما حذر منه مع المحقق من البوح في قضاياه وأصحابه وأسراره .
د
قلقت أم خليل علي ابنها بعد وفاة أحد الأسري في سجنه في اليوم الثاني عشر من إضراب الأسري المفتوح عن الطعام ، حفاظاً علي كرامتهم وكرامة أهلهم في الزيارات مطالبين بالحقوق الإنسانية العادلة كوضعهم في سجون قريبة من أماكن سكناهم ، وتحسين ظروف التفتيش لهم عند الخروج لمحاكمهم وزيارة أهلهم ، وتمديد فترة الزيارة والنزهة ، وإمكانية معانقة أطفالهم ، والتعليم الجامعي ، وتحصيل الهاتف ، وتحسين الطعام ، والعلاج الطبي وبعض الحاجيات الأساسية من أدوات كهربائية ورياضية ومطالب معيشية .

رأفت خليل حمدونة ـ سجن نفحة الصحراوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى