الجمعة ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم حسن برطال

كـلاب الـكـرنـة

ما أحوج هذه المدينة المتهالكة إلى أمير ينفخ فيها من روحه يستوي على عرشها.. ينبض رحمها بقلبه.. ما أحوج ممراتها وطرقاتها المهجورة الساكنة إلى الضجيج وحركة المـرور وعفس الأقدام.. مدينتي معلقة كحدائق بابل بين السماء والأرض.. أعجوبة من أعاجيب الدنيـا السبع.. تنتـظر آدمها المطرود من الجنة إلى أرض الرحم حيت يبـني عشه معلنا بذلك عن ميلاد حضارة إنسانية تعـمر تسعة أشهر ثم تنقرض.. و تتعاقب الحضارات إلى أن يرث الله هـذه المدينة ومن عليها..

يقول التاريخ أن الحجر الأساسي للحضارات القـديـمة وضع على ضفاف الأنهار.. و أن أول إنسان، شرب مـن ماء دجلة.. الفرات والنيل. فعلا، لقد جعل الله من المـاء كل شيء حـي.. لكن أين الحياة في هذه المدينة.. ؟؟

و المياه تتدفق في كل مكان.. المضخة تضخ يوميا أمتـارا مكعبة إلى درجة الفيضان.. و حين تتوقف المضخة والهزات الأرضية.. تنساب المياه عبر القنوات جارفة مـعها أحيـانا - بويضة – تتحول عند المـصب سيلانـا أحمر كالنزيف يعصف بكل آمال حليمة في الإنجاب..

قالت الجارات وهن ينقين القمح من الزائدات الطفيلية:

  عليك بمائة قديدة وقديدة وسيمتلأ بطنك بإذن الله ياحليمة

كانت الجارات على حق.. فهذه الكمـية الهائلة من للحـم بإمكانها أن تملأ بطون كل نساء الصين..
كان الليل أشد سـوادا من بطن حليمة الـفارغ من جنـين كالشمعة.. فخرجت تحمل هـذا السـواد القاتل في اتجـاه - الكرنة – [1] تلألأ بريـق الأمـل في عيـنيها، لكن سرعان ما عاودها الانكماش من فـرط النـدم على ما صدر منـها من سباب وشتم في حق ذلك المدبج المجاور والـذي كـان على حد تعبـيرها.. مزبلة.. مراتع الـدم والعفونة.. ملجأ الكلاب المسعورة.. وقفـت حليمـة في خشـوع تام ثـم أدارت وجهها ناحية – الكـرنة – قائلة:

 أنـا في عـارك أيتـها الصالحة.. ثـم بـكت كثـيرا.. انفش قلبها من كثـرة البكاء.. انفجر ضيمـها الداخـلي سيلا من الدموع عبر مقلة بدوية.. فعـادت البسمة إلـى محياها..

نبحت الكلاب فكان على حليمة أن تنبح كـذلك.. لأن النطق غير مجد الآن.. و للسان لا يصلح لشيء إلا ما أتاه الله من أنياب حادة.. حليمة تخترق العفونة والـدم المتجلط بيد كمنقار ذكر البط.. بحثا عن قطع اللحم.. و باليد الثانية تهش على الكـلاب التي تزاحمها في عملية التنقيـب ثارة بالحجارة وثارة تزيل ستار الرأس وتلوح به.. حليمـة اعتادت على مثل هذا العراك.. إنها إنها بدوية حتى النخاع،ولدت حيت ولد أبوها وجدها.. و أول ما فتحـت عينيها، فتحتهما على جروة رقطاء.. يلهت خلفها ـالمجـاحيـم – و– الصاروفـات – كانـت لا تخشى الكـلاب..

تقترب منهم.. يعجبها منظر الكلب وهو يركب ظهر الكلـبة لكنها لا تفهـم في المراسيم شيئا.. و وقت الالتحام والالتصاق يتعالى نباح الكلاب.. تنبح حليمة.. تجري الكلبة في اتجاه الشعاب والكلب مجرور خلفها.. حليمة ترميهم بالحصى.. تقفز.. تضحك..

يكاد قلبها إن يسكت من شدة الضحك.. هنا تعلمت الرمايـة.. وكـيف تخرج السهم من الكـنانة وتركـبه علـى الوتـر..

الكلبة تكشر عن أنيابها.. حليمة تخـطف قطعة اللـحم.. تنظر إلى بطن الكلبة وبطنها.. تقارن.. فتلاحظ انتفاخـا في بطن الـحيوان فتدرك سر وجود الكلبة هنا وسبـب إنجابها المتكـرر، فتـزداد إيمانا وتشبتا باقتراح الجارات.. اللـواتي ينتظرن بفارغ الصبر قـطع - القديد – [2] ومائة ثعـبان وثعبان لتمتلئ بطونهن.. تستـمد منها ألسنتهن طاقتها المعهودة وليعـبرن عن ذلك بزغاريد النصر معلنين فك – الحزام – مدشنين بذلك مسيرة انتفاخ بطن حليمة..

خبأت مفتاح الفرج في عينيها خوفا من السرقة.. تعود إلى الكيـس مرتين في اليوم، تقبل قطع اللحم.. تضمها إلى صـدرها.. كالرضيع تعدها بدقة.. لازال العدد هو.. هو.. لينقصه شيء..

يسبح عقلها البدوي في عالم الأرحام.. يتـحول.. يتطـور.. مضـغة.. علقة.. جنين.. ثـم مخاض وولادة.. تشـعر بالألم.. تسـتفيق مـن غـفوتها.. تلمس فرجها.. تراودها صورة الكلبة الممـددة والكلب فوقها يعلو ويهبط، فيهزها ريـح الرغبة إلى ظـل الشجرة حـيث ينـام زوجها.. لتنام بالقرب مـنـه..

استغلت القطة هذا الفراغ.. وانشغال حليمة.. فتسللت إلى الداخل ونامت نوما عميقا داخل الكيس.. وبين هذا النوم وذاك هـناك رضيع مرتقب يصارع التيه.. يتفرج على النزاع القائم حول بركة الكرنة بين شهوة البطن بالداخل وشهوة الفرج بالخارج.. الزوج يعلو ويهبط.. حليمة تشعر بقطع – القديد – تلج بطنـها واحدة.. واحدة.. وكلما اهتز جسدها، يهتز كيس اللحم كذلك تنفد قطع اللحم.. يخف وزن الكيس، تشعر حليمة بثقل الجسـد المترامي فوقها.. يخور الثور.. تخور حليمة.. تموء القطة بالداخل لكن سرعان ما يرتفع المواء ويتضاعف..

تحرك الكيس.. جمدت حليمة وكأن قلبها وروحها انتقلتا إلى داخله ليزرعا الحياة في قطع اللحم.. فتحت حليمة الكيس وجدت قـطع اللحم قد تحولت إلى سبع قطط صغيرة مغمضة العيون.. رأت القطة الأم الضوء فتسللت إلى الخارج صوب المكان حيت يجـلس الزوج لتتمسح بجلبابه.. تجلس في حضنه وفي عينيها بريق تستمد ومـيضه من عيني حليمة.. تلك العينان اللتان ظلتا يتنقلان بين حضن الـزوج حيت تربض القطة والكيس حيت تنام القطط الصغيرة قرابة نصف ســــاعــة..

وحين سمعت الجارات الخبر.. و علمن أن القـطة هي التي حضيت برضا – الكرنة – ونالت بركتها.. تأسفن عن ضياع الوليمة، لكن إحداهن قالت بتعقل:

  الخير فيما اختاره الله يا حلـيمة.. فحين يأمر الله لك بالأولاد فسيقضى الأمر في لحظة واحدة..


[1الكرنة , مكان تدبح فيه البهائم)

[2القديدة (طقوس تمارسها المرأة العاقر قصد الانجاب)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى