الخميس ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
علي الوردي : (40) النهضة الحديثة لا تقوم على
بقلم حسين سرمك حسن

العقلية الشعرية والرواية سوف تحل محل االشعر

الأدباء بحاجة للعلم أكثر من علوم البيان:

وبمناسبة ذكر الوردي لانشغال الأدباء و " دكتورهم " بعلوم المعاني والبديع والبيان، وعدم اهتمامهم بما يطرحه علم الاجتماع من نظريات وحقائق واكتشافات، يثير الوردي معضلة جديدة. فقد يعتقد الكثيرون أن المطلوب من الأدباء – مثل الدكتور طه حسين والدكتور عبد الرزاق محي الدين مثلا – الانشغال بالبلاغة بحكم "اختصاصهم " لكي يطوّروا فعلهم الإبداعي ويجوّدوا في مضماره. لكن الوردي يريد من الأديب أن يسخّر وقته لقراءة العلم ومتابعة تغيّراته لما لها من تأثيرات في حقلهم اللغوي والشعري. فما هي هذه العلاقة الجديدة التي يقترحها الوردي؟

أنا أراها في صلب مهاجمته للعقلية الشعرية ومرتبطة مركزيا بحملته لتقويض أسس العقلية الشعرية. إنه يرى تسلّح الأديب بذخيرة من أطروحات علم الاجتماع وعلم النفس، أكثر ضرورة له من أسلحته التقليدية المعروفة عبر المراحل التاريخية والمتمثلة في فنون البلاغة !! يقول الوردي ردّا على الدكتور محيي الدين:

( يعتقد الدكتور محيي الدين أن علوم البيان والمعاني والبلاغة ضرورية لطلّاب الأدب. وأنا أعتقد بأن العلوم الإجتماعية والنفسية أجدى لهم من هاتيك العلوم العتيقة التي تقيّد العقول وتسدّ عليها منافذ الإبداع ) (293).

ويقدم الوردي تفسيرا يسبق عصره حيث جاءت الاتجاهات النقدية الحديثة لتتحدث عن أن النص الواحد هو جامع للنصوص، وعلى التناص، وعلى المعرفية الثقافية الواسعة اللازمة للإبداع. يقول الوردي:

( إن الأديب يكتب للناس لا لنفسه، ومن الضروري له أن يفهم طبيعة هؤلاء الناس الذين يكتب لهم. أما إذا بقى في برجه العاجي يدرس القواعد التي جاء بها الأسلاف قبل ألف سنة، فلا يوجد له بين الناس سوقا، وسيبقى يشتم الناس على نفورهم من " الأدب الرفيع ".. ).

لقد كان موقف الوردي صادما للعقلية السائدة التي تنظر إلى الشعر بنوع من القداسة، ويتفاخر كبار مثقفيها – حتى من كان اختصاصه بعيدا عن الأدب والشعر - بأنه يحفظ الشعر ويحتفظ في بيته بمكتبة فيها دواوين فحول الشعراء. وحتى رؤساء الدول والوزراء والمسؤولين يعتبرون الشعر جزءا من مقومات ثقافتهم، وكثيرا ما يدخلون أبيات شعر أو " هوسات " شعرية عامية لاستثارة الحماسة. لقد هزّ الوردي أركان " التابوات " الثقافية الشعرية القائمة حين راح يعدد ويحصي مساويء "البلاء الشعري" كما وصفه ويناقشها على صفحات الصحف:

( 1-كان الشعر في أيام الجاهلية حليفا للسيف في حروب القبائل الرعناء. وكانت القبيلة تحتفل بنبوغ الشاعر كما تحتفل بظهور الفارس صاحب الحسام البتّار.
2-وكان الشعر كذلك حليفا لعبادة الأوثان... ولهذا كان النبي محمد في بدء دعوته يحارب الشعر كما يحارب الوثنية.
3-وفي العهد الأموي اتخذ السلاطين من الشعر وسيلة لتخدير عقول الناس وصرفهم عن فهم التعاليم الثورية الكبرى التي جاء بها الإسلام.
4-وفي العهد العباسي ساعد الشعر مساعدة كبيرة على إنشاء قواعد النحو هذه القواعد العويصة التي شلت العقول وجعلتها تدور في حلقة مفرغة.
5-وساعد الشعر فوق ذلك على تدعيم الحكومة السلطانية، حيث كان السلطان ينهب أموال الأمة كما يشاء وينفقها على ما يشتهي، ولكنه يأخذ قسطا مما نهب فيعطيه للشعراء. وهؤلاء لا يترددون عند ذاك عن جعل السلطان أمير المؤمنين وظلَّ الله في العالمين ) (294).

النهضة الحديثة لا تقوم على العقلية الشعرية:

والوردي يرى أن النهضة الحديثة لا يمكن أن تقوم على أساس الثقافة الشعرية، وأننا لكي نلحق بركب هذا التطور المذهل الذي يتصاعد بوتائر عجيبة علينا أن نخفّف كثيرا من غلوائنا فيه – أي أنه لا يدعو إلى إلغائه لأن للشعر العربي جوانبه المضيئة ولا نستطيع إلغاءه بجرة قلم كما يقول هو نفسه -. إنه يرى أن مكانة الشعر في الدول المتقدمة قد تراجعت كثيرا، وخير دليل على ذلك هو أن المجلات المشهورة والواسعة الانتشار مثل النيوزويك والتايم والإيكونومست والديرشبيغل وغيرها، التي تبحث في مختلف شؤون الثقافة كالسياسة والعلوم والفنون لكنها لا تبحث في شؤون الشعر إلا نادرا. وهو يقر أن جانبا مهما من ذلك يعود إلى اختلاف الثقافتين: الغربية والشرقية، لكن يبقى العامل الأساس هو أن المنطق العلمي هو غير المنطق الشعري:
( يمكن أن نعزو السبب في هبوط مكانة الشعر في الحضارة الحديثة إلى أن هذه الحضارة أقرب بطبيعتها إلى روح العلم منها إلى روح الشعر. فالشعر عاطفة وخيال وتحليق في عالم الذات. بينما الحضارة الحديثة تميل إلى التعمق في فهم الكون والإنسان، وإلى التزام الموضوعية التي لا دخل للعواطف الذاتية فيها ) (295) .

القصّة والرواية سوف تحل محل االشعر:

وللوردي رأي مهم وسبّاق في الجنس الأدبي الذي سوف يحل محل الشعر مع تنامي سطوة العلم وحضوره في حياتنا. فهو يرى أن القصة هي التي سيكون لها القدح المعلى بين الأجناس الأدبية في ظل الحضارة الحديثة، فهي من جانب تتغلغل في أعماق النفس البشرية وتدرس، وفق طريقتها، المجتمع البشري بعلاقاته الشائكة وصراعاته المتعددة، كما أنها – وبخلاف الشعر الذي يعتمد على المجازات والاستعارات واللعب الرمزي بالصور والكلمات – يمكنها، من جانب آخر، أن تقدم صورا عن الحياة الاجتماعية بجوانبها السياسية والأخلاقية والتاريخية وحتى الاقتصادية، ولذلك نجد دارسي الشخصية القومية لأي شعب يمكنهم أن يستخدموا القصة والرواية كوثيقة في أبحاثهم لأنها أكثر قدرة على تجسيد هذه الجوانب.

ولعنا المفرط بالشعر من اسباب نكسة حزيران:

والوردي لا يربط – ولا أعلم هل كان رياديا في ذلك أم أن هناك من سبقه في ذلك – بين هزيمة الخامس وبين النزعة الشعرية التي تسيطر على نظرتنا إلى الحياة خصوصا في السياسة حسب، بل يعتبر الشعر سببا للنكسة. يقول الوردي:
( كان من نتائج النكسة التي حلت بنا في حزيران عام 1967 أن صار كل فريق منا يحاول أن يجد سببا للنكسة لكي يلقي اللوم عليه ويستريح، وقد وصل الحال بالبعض منا إلى حد أنه اعتبر غناء أم كلثوم أحد أسباب تلك النكسة. ولكن أمرا واحدا غفلوا عنه في هذا الصدد هو ولعنا المفرط بالشعر، ولست أدري لماذا غفلوا عنه مع العلم أنه أجدر بأن يكون سببا للنكسة من غناء أم كلثوم ) (296) .

وقد يكون الوردي أول من استخدم مصطلح " التفكير الشعري " في تفسيره لنكسة الخامس من حزيران:
( إن هذا النمط من التفكير الحماسي – وهو الذي يصح أن نسميه بالتفكير الشعري – لم يقتصر أثره على الشعراء فقط بل شمل أيضا الكثير من المفكرين وحملة الأقلام والخطباء، فهم جميعا يجرون على طريقة واحدة هي طريقة عمرو بن كلثوم: ( ماء البحر نملأه سفينا ) ) (297).

خطورة فهم الثورات العربية بعقلية شعرية:

ويضرب الوردي مثلا على هذا النمط من التفكير في طريقة فهم أسباب الانتصار وأسباب الهزيمة للحدث الواحد. فهم غير قادرين على رؤية أسباب الهزيمة بنفس القدرة على تشخيص أسباب الهزيمة. إنهم مصابون بنوع من " العمى النفسي " الذي يجعلهم لا يرون جوانب من الحقائق دون غيرها رغم وضوح الجوانب الأخرى من ناحية، ويؤولون الحقائق الأخرى بخلاف حقيقتها من ناحية أخرى. يضرب الوردي مثلا على ذلك بتجربة " حربية " كي تكون موازية للنكسة " الحربية " في حزيران ومن جنسها، ألا وهي تجربة ثورة العشرين، التي اعتبر أصحاب التفكير الشعري، حسب الوردي، أن النصر فيها قد تحقق بسبب وطنية العشائر واستماتتها في القتال، ولكنهم اعتبروا الهزيمة ناجمة عن " مؤامرة " استهدفت الثورة. إن الوردي يعلن عن اعتزازه بالثورة لكنه يحذر من الاعتزاز بها على طريقة الشعراء. إنه يعتبر انتصار العشائر المسلحة بأسلحة بدائية على جيش معاد مسلح بالمدرعات والطائرات نوعا من الحدث الشاذ الذي حصل على طريقة الأهزوجة المعروفة " الطوب أحسن لو مقواري – كما يسمّيه الوردي ". ولكن لا يجوز جعل تفضيل المقوار – هذه الأداة البدائية – على المدفع المتطور قاعدة للعمل العسكري يعتمد عليها الثوار في كل ثورة يقومون بها أو حرب يخوضونها. وهذا ما يقوم به الشعراء الذين استمروا في كتابة القصائد التي يمجدون بها المقوار الذي يغلب المدفع دائما، وأننا مادمنا قد انتصرنا " سابقا " فنحن سننتصر مستقبلا. والنتيجة المهمة التي يصل إليها الوردي هو أن انتصار مصر في صد العدوان الثلاثي عليها عام 1956 يشبه من بعض الوجوه انتصار العشائر العراقية في ثورة عام 1920، وأن السياسيين المعنيين لم يحاولوا دراسة الظروف التي اجتمعت وأدت إلى ذلك الانتصار، ولم يدركوا أنها ليس من الممكن أن تجتمع مستقبلا:
( ولكننا اغتررنا بأنفسنا وتملكنا الحماس والفخار المغالي فيه، وملأنا الجو بالأناشيد ) (298).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى