الثلاثاء ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

لفظ الجلالة في الخطاب القرآني

إن للأسماء خصوصية خاصة في القرآن الكريم، فالخطاب القرآني مؤسس في إعجازه على دلالة الأسماء؛ فللاسم جماليته ونبضه، وروحانيته في هذا الخطاب الجليل؛ فكيف بلفظ الجلالة(الله) الذي يتكرر في القرآن مفخماً ومرققاً؟!! ويحمل في كل مرة يتكرر فيها نغماً خاصاً،وإيقاعاً مموسقاً يتجاوب مع جميع السياقات التي يرد فيها في هذا الخطاب الإلهي المعجز؛ولهذا يملك هذا اللفظ الجليل قدسيته وعظمته اللامتناهية في هذا الخطاب؛ ومن يطالع أية آية في الخطاب القرآني يلحظ هذه الجمالية تتقطر من هذا اللفظ مفرداً، ودليلنا: المد الذي يدل على استعلاء، والهاء التي تدل على احتواء؛وعظمة وإحاطة، وامتلاء؛ فالعظمة ماثلة في هذا اللفظ الجليل رسماً ودلالة ماثلة في تآلف الحروف بهذه الفخامة، والعظمة، والقوة؛ لدرجة لا يمكن أن نعثر عليها إلا في هذا اللفظ العظيم؛ هذا من ناحية الدلالة، فكيف من ناحية الإيقاع أو الرنين والنغم الساحر الذي يتجلى من هذا اللفظ الجليل، ففي كل مرة يتكرر فيها هذا اللفظ الجليل يحمل رنة قدسية؛ بالإضافة إلى إيحاء نوراني مشع من كل آية من آيات الذكر الحكيم؛ وهذا القول يضعنا في مواجهة حقيقية مع مفسري القرآن؛ فأغلب المفسرون نظر إلى هذا اللفظ الجليل على أنه اسم كباقي الأسماء الإلهية الواردة في السياقات القرآنية، دون أن يخصصوا هذا الاسم بإشارة، أو دلالة مخصوصة به دون سواه؛وبتصورنا: إن هذا اللفظ الجليل مستعل بذاته؛ومتفرد بكل ما هو جليل وعظيم ومعجز؛ وغالباً ما يكون مقترناً بالإشعاع، والنور؛ بمعنى أن أكثر السياقات التي يتكرر فيها هذا اللفظ الجليل يكون مقترناً بالنور؛والإشعاع، والضياء، وخير دليل على ذلك قوله: عز وجل(الله نور السموات والأرض)؛وهذه الآية تعني أن الله نور في نور؛وجلالة الله وعظمته ماثلة أو متجلية في هذا النور المقدس والإشراق البهي الذي لا تملكه إلا الذات الخالقة لهذا الكون،والمتعالية وسماً ودلالة على سائر الخلائق والموجودات بطاقة الخلق والتفرد بهذه الطاقة والاستعلاء بها ؛وقد جاء قوله عز وجل في سورة الإخلاص (قل هو الله أحد الله والصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) دالاً بوضوح على هذا التفرد والعظمة والقدرة على الخلق؛ والتفرد في الماهية الوجودية فوق قوانين الخلق وطاقتهم المعرفية الضحلة. وقد سبق أن أشرنا إلى أن أكثر سياقات ورود هذا اللفظ الجليل مقترناً بالنور والضياء الذي لا يمكن للعين البشرية طاقة احتواء أو تأمل هذا النور الخالد الذي هو أكبر من طاقة البشر، ومداركهم، ومعارفهم؛وحيز قدراتهم الدونية؛ وليس ذلك فحسب، بل إن الهالة الجمالية والطاقة الجمالية الماثلة في موحيات هذا اللفظ وماهيته لا تدرك ولا يمكن تصورها، إلا بما هو مطلق ولا متناهي وأبدي؛وهذا ما لا تملكه القدرات البشرية في الحياة الدنيا وتكوينها الخلقي؛ هذا بالنسبة للفظ الجلالة فما بالك بالأسماء الحسنى الأخرى التي تفيض حساسية وروحانية، وقوة واستعلاءً جمالياً؟!!

وبتقديرنا: إن كل آية يتردد فيها هذا اللفظ الجليل تكتسب قدسية،ورؤية نورانية روحية تشي بقدسية هذا اللفظ وعظمته؛ وبإشارتنا لهذه القوة، والعظمة، والاستعلاء الجمالي تأتي الصفات الإلهية عبر أسمائه الحسنى؛ك( الحي- القيوم القدوس- المهيمن – الجبار- العزيز -المتكبر)؛ لتعبر عن الجرس الموسيقي القوي لهذه الحروف بوصفها ملفوظات تدل على قوة، وعظمة، وكبرياء وجبروت لا يمكن أن تكون إلا من ذات خالقة متعالية لا يصل إليها البشر؛وهذه القوة ترافق جميع آسماء الله الحسنى؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله تعالى:( لو أنزلنا هذا القرآن على جبلِ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله،وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)؛ إن لفظ الجلالة في الآية الكريمة لا يمكن النظر إليه على أساس أنه ملفوظ لغوي؛ وإنما يمثل بؤرة تمفصل الدلالة القرآنية والتعالي والعظمة لكلمات هذا القرآن التي لا تقدر الجبال بجهامتها وصلابتها ورسوخها الثبات والصمود أمامها؛وقد اختار الله عز وجل لفظة ( الجبال) لأنها أكثر قوة ورسوخاً،وعليها ترتكز الأرض؛ حتى الجبال الراسخات أو الراسيات تخر وتتفتت خشية وتقديساً لهذا الخطاب الإلهي العظيم
وما ينبغي التأكيد عليه:

أن لفظ الجلالة(الله) لا يأتي ملصقاً بأي ضمير عكس لفظ( إله) أو (رب) الذي يمكن إلصاقه بالضمير مثال ذلك قوله تعالى:( قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إلهٌ واحد ؛ فمن كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا"؛ إن لفظة (رب)ليست بالاستعلاء، والفخامة، والقوة ،والعظمة كما هي جلية في لفظة(الله)؛التي تملك الفرادة، والعظمة، والخصوصية التي لا تمتلكها بقية الأسماء الأخرى؛مما يعني التفرد، والقدسية المطلقة اللامتناهية لهذا اللفظ مقارنة بسواه من السماء أو الصفات الإلهية الأخرى.

وهذا يعني أن لفظ (الله) هو الأقرب – باجتهادنا- أن يكون اسم الله الأعظم الذي إذا نودي به أجاب ؛ هذا الاسم المتعالي بذاته، بقدسيته العظيمة وجلاله؛وكل ما عداه من أسماء يمكن إلصاقها بالضمائر؛ وشتان بين من يتفرد بخصوصيته المثلى؛ وما هو ملصق أو تبعي باقترانه بموصوف أو ضمير؛ولهذا؛ فإن لفظ الجلالة(الله) استعلى بذاته، وتفرد في هذه الخصوصية عن سائر الأسماء في القرآن.

والسؤال المطروح الآن: هل لهذا اللفظ الجليل خصوصية ما في إضافته لبعض الأسماء أو الصفات؟!!وهل هذه الإضافة تمنحه قوة وعظمة واستعلاء كما هو عليه متفرداً بعدم إضافته المباشرة للضمير؟؟!

لابد من التأكيد أن هذا اللفظ الجليل مستعل بذاته عن كل الأسماء مفرداّ ومضافاً، ودليلنا الموحي بذلك قوله عز وجل( إذا جاء نصرُ الله والفتح ورأيتَ الناسَ يدخلون في دينِ الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)؛ ففي هذه السورة ورد لفظ الجليل مستعلِ بذاته كلفظ مفرد،ومستعل بقوة وعظمة بإضافة النصر إلى الذات الإلهية؛ فجاء اللفظ مصحوباً بقوتين قوة الاستعلاء الاسمي بذاته وقوة الاستعلاء الاسمي بإضافة بعض الصفات والأسماء إليه، وهذا اللفظ الجليل في كل سياقات وروده في القرآن لا يُضاف إلى غيره وهذا من سر عظمة الذات الإلهية وعظمة الخطاب القرآني؛ بل تضاف إليه الأسماء بموجب القوة والخيلاء والعظمة والتفرد لهذا الاسم الجليل المتفرد وهذا سبب عظمة هذا اللفظ وقوة استعلائه على الأسماء كلها،فكيف لا يكون كذلك ولله الأسماء كلها؛ وقد سبق أن أشرنا إن جلالة هذا اللفظ وخصوصيته تتمثل في أنه يأبى إلصاق أي ضمير به عكس لفظ(رب) الذي ورد في هذه السورة ملصقاً بالضمير مباشرة:(فسبح بحمد ربك)فإضافة الضمير( الكاف) مباشرة إلى لفظ (رب)جاء ليؤكد استعلاء الذات الإلهية في اللفظ الجليل (الله) الذي سبق وروده في أول الآية،ويؤكد في الآن ذاته ضعف بقية الأسماء الملصقة مباشرة بهذا الضمير؛لأنها مضافة إلى الخلق،ومن طبيعة الخلق الضعف والذل والانكسار؛ في حين أن العظمة والقوة والعزة للذات الإلهية التي تتفرد بالعظمة والجلال لدرجة لا يتصورها بشر.

ولا أبالغ في قولي: إن هذا الموضوع جدير أن يسجل كأطروحة جامعية لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه في الدراسات القرآنية، وما طرحي لهذا الموضوع القيم إلا للفت الأنظار إلى أهمية هذا الموضوع في الكشف عن الكثير من القيم الجمالية والإعجازية في هذا الخطاب الإلهي المقدس.

وصفوة القول: إن هذا اللفظ الجليل لا تسعه هذه الدراسة المتواضعة؛ولا تلم بجوانبه كلها؛ إنها مجرد إضاءة، أدع للباحث المجتهد شرف الاجتهاد في اكتشاف خصوصية هذا اللفظ الجليل في هذا الخطاب الإلهي المقدس(القرآن الكريم)؛ فهو الأقدر مني كشفاً، والأعمق رؤية، مع الأمل أن يكون ما وصلت إليه محض وعي واجتهاد لكشف عظمة هذا الخطاب وجوانب إعجازه جملة وتفصيلاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى