الجمعة ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم مادونا عسكر

الدين الحاجز بين رؤيتين

قراءة في «أنا المتوكل طه» للكاتب محمد نضال دروزه

أنا المتوكّل طه الممعن في الغفلة والاتّكاليّة
أنا المتوكّل طه
وأنا الفرد والقائد في القطيع
في كلّ قبيلة بدويّة
وفي كلّ الطّوائف العربيّة
أنا الممعن في الغفلة
والبطولات البهلوانيّة
أنا شيخ الأحلام الغيبيّة
أحلام ملايين الجهلة
المغفّلين العجزة
المرميّين خلف شوارع التّاريخ
الاتّكاليّين
أرباب النّفاق
يجترّون كلاماً غبيّاً
ليس فيه يقين
وتعاليم عادات
وتقاليد من ماتوا
منذ مئات السّنين
أن لا تسيروا إلّا في الظّلام
حسب تعاليم شيخ الظّلام
طوبى لشيخ الظّلام
المجد لشيخ الظّلام
والكلّ أيضاً
يهذي بالكلام
أنا شيخ وفرد في القطيع
عقلي مسحور
بأقواس قزح
وأوهام سراب صحراويّة
ملهيّ عن همّ الدّنيا
مشغول بحماية أطواق العيب
وقيود الحرام
أعاقب من يتجاوزها
بما يناسب ذنبه من عقوبات
التّعذير والقتل والإرهاب
وأوّلها شلّ العقل
وإلغاء فعاليّته
في التّنمية والتّطوّر والبناء
وعقوبته الأخرى
وأد المودة والرّحمة
وقتلها في قلوب
تتمنّى الحرّيّة
والسّعادة في الحياة
ولسان حالي ينادي
في البرّيّة بين القبور:
مذهبي الغفلة
والخيبة نعمتي الفضلى
في الحياة الدنيا
وأملي في نعيم حياة أخرى
إن صحّت أحلامي الغيبيّة.

القراءة:

يعبّر هذه النّصّ بما يحمل من قضايا فلسفيّة واجتماعيّة واقعيّة، عن مجموعة كبيرة من الأشخاص المنهمكين في السّعي قدماً نحو التّقدّم الفكريّ من خلال تعزيز قدرات العقل بعيداً عن التّخدير الّذي تبثّه العقليّة الدّينيّة المتحجّرة والممعنة في استبعاد عنصر الوعي وسلب الإرادة الإنسانيّة في توظيف قدرتها على التّغيير باستخدام قدرات العقل على التّحليل والاعتراض والمناقشة المنطقيّة.
قد لا يحمل النّص في مضمونه عنصر الدّهشة الّذي يهزّ القارئ من دواخله العميقة. وقد لا تكون معانيه الشّديدة الوضوح تستدعي تأمّلاً من القارئ كيما يلج فكر الكاتب ويبلغ مقاصده. إلّا أنّه يمتاز بمخاطبة العقل. فنحن أمام نصّ عقلانيّ بامتياز يحاور العقل الإنسانيّ، ويحرّك ركوده الفكريّ، ويشجّعه على التّحرّر من موروث تقليديّ أثقل كاهله، بل شلّ عقله ودفعه للامتثال والاستسلام والاقتناع الأعمى بحيثيّاته.
ومع أنّ الكاتب ينتقد الفكر الدّيني بشكل عام أو يوحي بذلك، إلّا أنّه يتّجه بشكل خاص إلى دين معيّن، ما يبعد الموضوعيّة عن الانتقاد. فالفكر الدّينيّ أيّاً كانت اتّجاهاته، إذا ما حافظ على انطوائه القبليّ، سيرزح تحت نير العبوديّة، ويدخل الإنسان في غيبوبة عقليّة.

 الأنا المخدَّرة:
باستخدام ضمير المتكلّم (أنا) يضع الكاتب نفسه موضع المتكلّم باسم الضّمير الإنسانيّ المخنوق في عمق أعماق الذات المستسلمة والمرتهنة للفكر الدّيني المنغلق. ما يجعل القارئ يشعر أنّ الخطاب موجَّه إليه شخصيّاً من جهة، ومن جهة أخرى، يوقظ في داخله جوهره الحرّ، حتّى يستعيد وعيه اليقينيّ، ويتحرّر من قيود فرضها الفكر الدّينيّ بأساليبه الاستحكاميّة الهادفة إلى السّيطرة على العقل واستعباد الذّات.
(أنا المتوكّل طه الممعن في الغفلة والاتّكاليّة). يجرّد الكاتب طه، الشّخص الّذي يرمز إلى المتديّن المنغلق، من التّنبّه والإدراك، كما من التّفرّد، والرّيادة، والشّجاعة في خوض غمار المعرفة والبحث والاختبار الشّخصيّ. (أنا الفرد والقائد في القطيع). تحلّل هذه الجملة بتعابيرها الدّلاليّة شخصيّة المتديّن المنساق وراء الأفكار والأيديولوجيّات الدّينيّة، والسّائر مع القطيع دون تلمّس ما يهين كرامته الإنسانيّة، وينتهك حقّه المقدّس في التّعبير والاعتراض. فقائد القطيع لا يختلف كثيراً عن الفرد إلّا في حالة القيادة، بحسب الكاتب. مع العلم أنّ من يقودون الجماعات ويدّجنونها يمتلكون قدرات خاصّة بل ساحرة، تمكّنهم من السّيطرة والاستحكام. وهم المستفيدون الأولون من اعتلاء عرش القيادة. إلّا أنّ الكاتب يساوي بين الفرد والقطيع، ولعلّه يعدّ القائد جزّءاً من المنظومة الدّينيّة الغارقة في بلادتها واتّكاليّتها. ولا ريب أنّه يعني بالاتّكاليّة، الاستسلام للعقائد، والغيبيّات، والإيمان بما قدّمه الأسلاف، دونما التّنقيب في صحّته.
يجترّون كلاماً غبيّاً
ليس فيه يقين
وتعاليم عادات
وتقاليد من ماتوا
منذ مئات السّنين

 العقل المغيّب:
إذا كان الدّين رسالة سماويّة فحريّ أن يرفع الإنسان إلى كمال إنسانيّته. والمقصود بالكمال الإنسانيّ ارتقاء العقل وانفتاحه، وتنشيط قدرات النّفس وإطلاق العنان لحرّيتها في اختبار مسيرتها دونما كبتها وأسرها في ظلاميّة التّشريعات المحفّزة لإلغاء الوعي العقلي. هذا ما نقرأه في السّطور التّالية للكاتب محمد نضال دروزه:
أنا شيخ الأحلام الغيبيّة
أحلام ملايين الجهلة
المغفّلين العجزة
المرميّين خلف شوارع التّاريخ
الاتّكاليّين
أرباب النّفاق
يقول المفكّر جبران عبد الرّازق في كتابه "جمهوريّة النّبيّ": " لم يكن التّاريخ إلّا فنّ الكذب." ويرتكز الكاتب على فحوى هذه المقولة من حيث استناد المتديّن على تاريخه الّذي يعتزّ به دونما التبيّن من صحّته، ودونما معارضته. بل يعتزّ ببطولات قد تكون مصطنعة، أو مبالغ فيها. فالتّاريخ يكتبه المنتصر، وله أن يصوغ الأحداث والمجريات بما يتوافق ومصلحته الشّخصيّة. وبالتّالي فالتّاريخ لا يحمل كلّ الحقيقة، ولا يجوز الاعتماد عليه كمرجع يؤسّس للعقيدة الدّينيّة. بمعنى آخر، لا يجوز تطبيق تشريعات دينيّة وفرضها بقسوة على المجتمعات على اعتبار أنّها تمثّل الحقيقة. كما لا ينبغي اعتبار هذه التّشريعات قانوناً أزلياً أبديّاً يمكن تطبيقه في أيّ مجتمع أو عصر. ما يجعلنا نفهم أنّ الكاتب ينفي القدسيّة عن الكتب المقدّسة والتّشريعات الدّينيّة، ويبطل فعاليّة تاريخها، بل يعتبرها سبيلاً إلى الظّلمة، وحافزاً للجريمة والإرهاب.
(طوبى لشيخ الظّلام.. المجد لشيخ الظّلام..)، (أعاقب من يتجاوزها.. بما يناسب ذنبه من عقوبات.. التّعذير والقتل والإرهاب.. وأوّلها شلّ العقل.. وإلغاء فعاليّته.. في التّنمية والتّطوّر والبناء..)
كما أنّ تغييب العقل يمنع على الإنسان اندفاعه العلميّ وعودته إلى الأطر التّاريخيّة الصّحيحة، والتّنبّه إلى دراسات وآراء شتّى تظهر بعضاً من الحقيقة، وترشد الإنسان إلى سبيل مستقيم، يقوده إلى الحرّيّة. ما لا يهتمّ به المتديّن لشدّة تركيزه على الظّاهر الإيمانيّ، والسّلوك الدّينيّ، وخوفه من الثّواب والعقاب. وكأنّ الحياة الآخرى تحاصره وتمنعه من اختبار قدراته العقليّة والذّهنيّة.
بانتفاء قدرة العقل على التّمييز بين ما هو صالح وما هو طالح، وبتجريد الأنا من إرادتها الحرّة في البحث عن الحقيقة، تتعطّل القدرات الإنسانيّة، وتتحدّد أهدافها، وتخرج من أصولها الدّينيّة لتنتمي إلى مذهب الغفلة والخيبة والموت. وكأنّي بالكاتب يقول إنّ المتديّن مات عن إنسانيّته واستسلم للغيبيّات الّتي لا يفهمها العقل، ولا يرتكز عليها العلم.
لسان حالي ينادي
في البرّيّة بين القبور:
مذهبي الغفلة
والخيبة نعمتي الفضلى
في الحياة الدنيا
وأملي في نعيم حياة أخرى
إن صحّت أحلامي الغيبيّة.
فالحياة الأخرى بالنّسبة له مجرّد حلم ينتفي بانتفاء الفكر الدّينيّ، ويتلاشى باستيقاظ العقل، وانعتاقه من الحصار التّشريعيّ والتّاريخ المقدّس. ولا ريب أنّ الكاتب سعى في هذا النّص بكلّ قوّته، لتمجيد العقل وبالتّالي العلم كعنصر أساسيّ في الحياة الإنسانيّة، وكقوّة أولى تنقل الإنسان من الظّلمة إلى الوعي والإدراك.

قراءة في «أنا المتوكل طه» للكاتب محمد نضال دروزه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى