الخميس ١١ أيار (مايو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم حسن غريب أحمد

لهيب الانتظار

بلغ الوقت ساعة متأخرة من الليل .. أخذت النسمات الباردة تلسع أنف وجنتى (أم كيلانى ) التى لزمت نافذة المنزل مراقبة عودة وحيدها كيلانى .. كانت تارة تنظر إلى الشارع الشاغر من أى كائن ، وتارة أخرى تنظر إلى زوجها الذى أعياه تعب النهار ملأ شخيره مرافقاً بصفير صدر كإعلان عما مر به من تعب وجهد طوال النهار..تحدث نفسها وتقول
 " إزاى يجيلك نفس تنام، ربنا يسترها " قلبى من المساء مقبوض تعاود النظر والهمهمة ، بعدها عادت إلى فراشها لإيهام نفسها أن كل شىء على ما يرام حاولت إغماض عينيها بعد نهار من العمل المضنى ، لكن هيهات فلو جمعوا نعاس وتعب الدنيا لما استطاعا إغماض عين لها دون أن تكتحل برؤية وحيدها الغالى ( كيلانى ) إبن التاسعة عشر ربيعاً .. تعاود الكلام ( كل ده تأخير ؟ ) ..

تقولها وقد أرسلت نظرات توسل إلىمقبض الباب راجية أن يدور بين الحين والآخر كى يعلن عن قدوم غائبها وإنطفاء نار الخوف التى يزداد سعيرها .. مع مرور الوقت ومع إرتفاع صوت شخير زوجها ، عند بدأ المقاومة الناس تأوى بيوتها قبل غياب الشمس بسبب حذر التجول المفروض معظم أيام السنة على المدينة ، راودت هذه الخواطر (أم كيلانى) فزاد خفقات قلبها واشتد سعير ناره أكثر.. حاولت أن تروح عن نفسها وتنسى ما يلفها من رعشة وخوف متذكرة الكلمات ( كيلانى هذا الصباح عندما قال لوالده والخجل يلفه - لقد وجدت .. وجدت يا أبى .. وجدت بـــ .. بـ .. بنت الحلال التى خطفت قلبى و أرجو أن تخطبها لى " وتذكرت فرحته عندما هز الوالد موافقاً له " ) .. " بس شاور . لى عليها " .. إبتسمت إبتسامة تعلوها مسحة الحزن لكن سرعان ما عادت وإتسعت لتملأ وجهها الذى غزته التجاعيد و الأخاديد عندما قالت : ( سأصبح جدة يا سلام وحابيقى أبو كيلانى جد .. هيه العمر بيجرى والأيام بطير ) .. صلوات ترفعها إلى الله ليعيد لها ضالتها قال محاولاً تهدئتها : ( نامى يا أم كيلانى ) .. سيعود إن شاء الله لعله نام عند بيت عمه ( خضر ) أو عند( فايز) زميله - قالها هو الآخر محاولاً إخفاء ما إعتلاه من قلق وخوف .. وقد إجتازت أفكاره ومخيلته حدود الصبر راودته خواطر إستعاذ بالله منها وحاول نسيانها لم يجد هو الآخر بداً من القول : " ربنا يستر ويجيب العواقب سليمة " .. بدأ الفجر بالإنبلاج وألقت الشمس بخيوطها الذهبية على أرض المدينة الكبيرة بشاطئها الساحر ونخيلها الأخضر المتراقص معلنة بداية يوم جديد ..

نهض أبو كيلانى من فراشه بعد أن أكمل ليلته فيه مستيقظاً ، دون جدوى قام يصلى صلاة الفجر راحت أم كيلانى تسير تجاه ( وابور الجاز القديم ) لتدفىء الماء لزوجها ، بعد قليل سينطلق فى مسيرة يومه المعتادة فلا يعود إلا عند غياب الشمس منهوك القوة .. أبو كيلانى يصلى و أم كيلانى على بعد خطوات منه واضعة يدها على خدها تطلق تنهدات وزفرات ضاعت فى صمت الموقف ، عودتها كلمات جارتها أم رفيق لما قالت لها : ( سمعت يا أم كيلانى أن المحروس كيلانى إنضم لشباب المقاومة الشعبية وللقوة الضاربة ضد اليهود الملاعين صار " فدائى " ربنا يخلهولك ) كلام زاد حملها ثقلاً فعادت لكلمتها ذاتها ولكن بنبرة أخرى قائلة : ( ربنا يستر ) الساعة تقارب السابعة و أبو كيلانى لا ينبس ببنت شفة نظر إلى زوجته قائلاً : ( اللهم إنى توكلت عليك .. ونعم الوكيل أنت ) كان قوله هذا قد جاء على ميعاد مع قول رددته حناجر شباب المدينة الباسلة الذين تجمهروا ملثمين فى بداية الزقاق لبيت ابو كيلانى صارخين فى موكب مهيب " لا إله إلا الله محمد رسول الله والشهيد حبيب الله ".. رفع أبو كيلانى عينه إلى أكتاف الشباب ليرى العلم المصرى المضرج بالدم ، وقد لف جسد كيلانى إبنه الذى بدأ كما لو كان نائماً ويده مضمومة لصدره ، لحظات وتجمع كل أفراد العائلات بالمدينة شيبة ونساء ورجالاً كعادتهم فى مصاب عظيم كهذا.. بدأت المدينة بالغليان كبركان يستعد للفوران، حرارة الشمس بدأت ترتفع .. أبو كيلانى يقف مسنوداً برجال العائلات و أم كيلانى تقف مشدوهة كمن يبحث عن طريق فى مفترق طرق لم تدر ماذا تقول ؟ وقد راحت النسوة تقتربن منها مزغردات تارة وباكيات تارة أخرى ، ومن بينهن كانت ( صدفة ) التى كان كيلانى عازماً على خطبتها وقد إقتلعت خصلات من شعرها فى ثورة غضب حاملة على يدها المنديل المعطر الذى كان قد لفه على رقبتها فى آخر مرة رأته فيها ونظر أبو كيلانى إلى أمرأته وقد أحس بأنه فى حلم تمنى لو يستسقظ منه ، وقال لها وقد أصبح أكثر صلابة عما كان عليه قبل قليل : ( زغردى مع النساء يا أم كيلانى ، لقد عاد عريسنا .. ألم أقل لكى أنه سيعود ؟ زغردى يا أم كيلانى .. زغردى يا أم كيلانى )
قصة قصيرة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى