الثلاثاء ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١٦

عين قد تنام

عثمان بالنائلة

استلقى كعادته على فراشه ليستسلم للتفكير و قد غلبته الرغبة في ذلك. لم يعد ينصت منذ عهد ليس بالبعيد إلّا إلى موسيقى عقله. فاعتزّت عليه و أسرته. لم يكن يفكّر في شيء بعينه. بل كان يتفكّر في كلّ شيء. اختلطت الصور فأضحت شريطا تتداخل فيه الأصوات و تتسارع أشكاله حتّى لا يكاد يرى إلّا القتامة و لا يسمع إلّا أزيزا جبّارا يهزّ كيانه حتّى يخاله الموت.

كم الساعة؟ هذا أوّل سؤال يتبادر إلى ذهنه حين يستعيد إحساسه بالحياة. لم تكن الإجابة تهمّه. بل كان ينتشي لمجرّد إدراكه لحقيقة لا طالما شكّ في صدقها. و هي أنّه لا يزال يرغب في الدخول في غمار الأحياء. لقد انقضى يوم لا يختلف كثيرا عن ما سبقه من أيّام. هذا ما كان يسرّه في نفسه فيؤلمه اعتقاده و يؤلمه أكثر من ذلك بوحه به. كان يلازمه خوف من المجهول يدفعه للاجتهاد في دراسته. لقد كان يبحث عن معنى لوجوده. و يعتقد أنّ الحياة سلسلة رتيبة من الأحداث و التجارب تدفعه إلى التعلّم. و تبيّن له أنّ الموجودات تخاطب الإنسان فلا يفقه حديثها. لأنّه لا يفهم إلّا الأثر الّذي يتركه هذا الخطاب في نفسه. كان يحسّ أنّ اللغة قاصرة لأنّ المدلولات قابعة في النفس البشريّة و الألفاظ لا تقوم إلّا بوصفها. فتضيع بذلك المعاني لأنّنا نتوهّم الفهم. فالناس لا يفهمون بل يبحثون عن معنى للأقوال. و بحثهم هذا مثله كمثل الغوّاص الّذي يسبر أعماق اليمّ. فهو لا يصبر على ذلك إلّا زمنا يقدر عليه. و هو لا يبلغ إلّا عمقا يطيقه و يشترط في بلوغه الرغبة و الاجتهاد. من أجل ذلك تفلت المعاني منه فلا يدرك إلّا أشباهها أو وجها من وجوهها. و هذا ما يفسّر الاختلاف في الفهم. أمّا مثل العلم فهو لديه كمثل الهواء الّذي يعينه على الغوص أعمق فأعمق. لذلك وجب على العاقل الجدّ في تحصيله. لأنّه كالبناء المرصوص يشدّ بعضه بعضا. أمّا الزيف فهو لفظ يشقيه لأنّ معناه زائف لا محالة. فما الزيف إلّا حقيقة. فالأمر الزائف موجود بقوّة الإعتقاد. و المعاب هو القائل بزيفه الّذي سكت عن قصوره في التمييز و عاب ما اعتقده زائفا خشية أن يعاب عقله. و أمّا الغفلة لديه فهي طبع لزم على الإنسان تجنّبه لوخامة عواقبه. فهي تُعقب سوء التقدير. لقد خلص إلى هذه الأقوال بعد تفكير متواصل أورثه السقم و الهزال و الرغبة في المعرفة. إلّا أنّ ما تبيّن له أرّقه و أفقده هذه الرغبة. لم يعد ينشد المعرفة لما ظهر له. فثبت لديه أنّ الحقيقة صنف من صنوف الوهم و أنّ الوهم صنف من أصناف الحقيقة. فلا تستقيم الحياة إلّا بهما متداخلين. و الظنّ دون اليقين هو من يغلّب أحدهما على الآخر. ما كاد ينتهي إلى هذا حتّى غلبه النوم.

عثمان بالنائلة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى