الجمعة ١٢ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم فاتح زيوان

المنهــج التربـوي عنـد ابن خــلدون

في ضوء علم اللسان التربوي الحديث - المقدمة أنموذجا –

مقدمة

يعد البحث التربوي من الموضوعات المهمة التي شغلت بال واهتمام الدارسين قديما وحديثا،ونالت القسـط الأوفر من دراستهم،إذ التـربية ليست بعملية خلـق معدومة عنـد الإنسـان،ولكنها صقل وتطوير،وتهذيب لمـا هو موجـود عنده من استعدادات وقدرات؛ فالنتائج الحضارية محصلة من مجتمع عرف ازدهارا وركودا،إقبالا وإحجاما، فشلا أو نجاحا، تعود إلى التربية والتعليم،وإلى القائمين عليها من حيث إدراكهم لمبادئها وقوانينها من ناحية،ومن حيث تطبيقهم لها علميا من ناحية أخرى.

وقد غدت اليوم قضية الإصلاح التربـوي إحدى القضايا المطروحة على كافـة الصعد، العالمية، والإقليمية،والمحلية، وهي ليست بالجديدة على ساحتنا العربية، فقد كان الإصلاح هاجسا ملحـا لدى النخب السياسية والثقافيـة منذ مطلع النهضـة في القرن التاسع عشر، وإن تعددت منظـوراته وتباينت الوسـائل المطروحـة لتحقيقه. غير أن ما شهده العالم في الحقبة الأخيرة فيما صار يعرف ب"العولمة" وما كشفت عنه الأحداث في المجـال العربي،جعـل خطـاب الإصلاح يبـرز من جديد،متفاعلا مع معطيـات العصر ومتغيراته، مشتمـلا على إشكـالات كثيرة، منها الحكم الصالح والديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان والتربية.

وإيمانا منا بالتواصل المعرفي مع الماضي، واحتفـاء بالذكرى المئـوية السادسة لرحيل العلامة"عبد الرحمن بن خلدون" أحد الرموز الفكرية في الحضارة العربية الإسلامية،آترث المساهمة في هذه المجلة العلمية بهذه الورقة،التي تحمل عنـوان "المنهج التربوي عند ابن خلدون في ضوء علم اللسان التربوي الحديث"-المقدمة- أنموذجا".

ونهدف من وراء ذلك إلى استحضار جهـوده التـربوية؛ وذلك بتسليـط الضـوء على منهجه التربوي الذي توخاه في تربية وتعليم النشء.

المنهج التربوي عند ابن خلدون

لاريب أن ابن خلدون يحتل مكانة متميزة في تراثنا العربي والإسلامي،وحتى في الفكر الغربي المعاصر،وينظر إليه على أنه صاحب مشروع ورؤية حضارية خاصة،ولاسيما فيما يتعلق بدراسة التاريخ البشري، والمجتمع الإنساني، والعمـران الحضاري، أضف إلى ذلك عبقريته في الفكـر الاقتصادي والتربـوي والسياسـي وغيرهـا من الحقـول المعرفية،ويشـار إليه صاحب منهجية في النظر والتفكير والبحث والتفسير،مثلث في زمانه قفزة لإبداعية متميزة ووصفت بعض إنجازاته على الأقل بأنها غير مسبوقة، باعتباره مؤسسها، وأنها لم تكن معروفة قبله،فهـو لم يكن غريبا عن مختلف ميادين المعرفة العلمية،بل كان ذا ثقافة موسوعية،لديه إحاطة بالعديد من العلوم،وإلماما واسعا بالعلوم الأخرى،فعلى الرغم من تخصصه بدراسة الظواهر الاجتماعية، وتوصله إلى أنها محكومة بالقوانين والسنن نفسهـا التـي تحكم سلـوك الظواهـر الطبيعية، وإقامتـه لعلاقـة قوية بين البيئــة الطبيعيـة(الجغرافية)، والسلوك البشري والاجتمـاعي والنفسي،وكذا دراستـه للعلوم الإسلامية النقلية-حيث تشهد إسهـاماته بتبحره في علـوم القرآن والسنة والفقه،حتى عد مؤهلا لتولي منصب قاضي قضاة المالكية بمصر،وشهرته عنـد عامة الناس بأنه صاحب الفضل في إرساء قواعد فلسفة التاريخ وصار يذكر في الكتب الحديثة بأنه منشئ علم الاجتماع العمراني،وهذا اعتراف بجزء مما أبدعه الرجل:"فابن خلدون": "يجهل قدره كثير من الناس،بل إنهم يعرفونه على أنه عالم اجتمـاع ليس إلا.ولكن هنـاك من اللسانيين من يجـد في المقدمـة مخزونـا من الاستطرادات الثرية التي تدل على جملة من الأفكار اللسانية التربوية التي لاتقل أهمية عما توصل إليه البحث اللساني واللساني التطبيقي عنـد الغربيين" [1] لم يغفل الرجل عـن تقديم شتى الأفكـار التربوية لرجـال التـربية والتعليـم في عصره، وهي جديرة بالأخذ في عصرنا؛لأنها لاتقل أهمية عما يذهب إليه علم اللسان التربوي الحديث.وهذا بعد نقده اللاذع للطرائق التعليمية التي كانت سائدة في عصره، وكيفية تأدية المعلمين لها:"وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا،يجهلون طرق التعليـم وإفاداته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمـه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها." [2]

وقد تناول في مقدمته عديـد من العلوم التي صنفها تصنيفات كثيرة،وكان لعلـوم اللسان النصيب الأوفر والجزء الأهم، حيث بنى اللسان العربي على أربعة أركان ورتبها مراتب متفاوتة ومختلفة،بحسب المقاصد التي يقصدها المتكلم: "…وهي: اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة..." [3]. جاعلا النحو أولها،فهو الذي له حق التقدم على هذه العلوم المذكورة، إذ هوالموصل إلى صواب النطق،المقيم لزيغ اللسان،المؤدي إلى محمود الإفصاح،يستعـان به في فهم سائر العلوم،وكان لذلك في نفسه أغراض:" والذي يتحصل أن المقدم منها هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول،والمبتدأ من الخبر،ولولاه لجهل أصل الإفادة" [4].

كما حرص المصلح الاجتماعي والتربوي على تحديد منهج خاص بالتربية،ذلك المنهـج الذي لا تختلف أسسه ومبادئه عما يدعـو إليه علم اللسـان التربـوي الحديث،بل يتميز عن المناهج الجديدة ببسـاطته وتدرجه في المعرفة واستنـاده إلى الحفظ والذكر،وتمسكه ببساطة المعلم، وبنظام صارم للثواب والعقاب.

وتظهر معالم منهجه التربوي في الطـريقة الناجعـة التي رسمها في تعليـم الناشئة،وفي تحديده للآداب والشروط الواجب توفرها في المعلم والمتعلم،فقد أكد صراحة أن عملية التعلم والتعليـم طبيعية في العمران البشري، فالإنسـان متميز عن سائر خلق الله بالفكـر الذي يهتدي به، فهو تواق إلى تحصيل ما ليس عنـده من الإدراكات، فينشأ عن ذلك موقف تعلمي. وتقوم عملية التعلم عادة على ثلاثة أعمدة، وهي المعلم والمتعلم والطريقة. وتتحقق الأهداف التربوية والتعليمية بمقدار ما يتوفر لهذا الموقف التعليمي من شروط [5]. ذلك أن التعلم عموما هو"اكتساب العلوم واجتلابها إلى القلب" [6]. قال ابن خلدون:"اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها التصور للحقائق أولا،ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانيا..." [7].

ومن الصعب الفصل في أي علم بين المنهج والموضوع، فبدون منهج تصبح كل دراسة علمية لأي موضوع [8]. أو ظاهرة مستحيلة، فلايمكن تطبيق أي منهج، دون توفر موضوع.

وفي ضـوء هذا أورد ابن خلدون في أثناء تحديده للمنهج التربـوي السليـم شروطا،دينية، ودنيوية،ينبغي على المعلم والمتعلم التحلي بها،حتى تكـون عملية التعليم ناجحة، ومثمرة،فمن البديهي أن الإنسان لا يتعلم أية خبرة أو مهارة فكرية إلا إذا كان حاصلا على الشروط اللازمة للقيام بمثل هذه العملية،وتنحصر هذه الشروط في هذه المبادئ:

أولا:- شروط المعلم(المربي):

 الإحاطة بمبادئ التعليم وعدم الشدة على المتعلمين: يعد المعلم العنصـر الأساس في العملية التربوية،فهو المتصرف في قلـوب البشر،وهو أيضا بمثابة الطبيب المعالج للنفس من مرضها وجهلها بالعلوم، بل إن مهمته أخطر فيما يرى "الغزالي أبو حامد" من مهمة الطبيب؛لأن الأول متصرف في العقول والقلـوب في حين أن الثاني متصرف في الأبدان، وشتان مابين النفس والبدن، فمهمته إذن شريفة،إلى الحد الذي تجعله وريثا للأنبياء، ومن تصدر لهذه المهمة فقد تقلد أمـرا عظيما يفرض عليه آداب وشروطا،كأن يكون المربي قادرا على التعليم،وذا كفاءة، غير مستبد، ولا يكون قاسيا غليظـا مع المتعلم؛ لكي لا يجـره إلى الكذب:"وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الممالك أو الخدم سطا به القهـر وضيق عن النفس في انبساطهـا وذهب بنشاطها ودعـاه إلى الكسـل وحمـل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبسـاط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة..." [9]. وأن يكون ذا ثقافة عامة تمكنه من إفادة المتعلمين إفادة متنوعة،توسع في الوقت نفسه من أفقه المعرفي وتحفظه من بلبلة أفكارهم بالمعلومات الخاطئة أو المعارضة أو من مغبة التعصب الأعمى ضـد العلوم التي لم يعرفها عن قرب أو بعد،فالناس أعداء لما يجهلون كما يقال، وأن يلم بطرائـق التعليـم ومبادئه ومهاراته،متـوقفـا عند مسائـله،مستنبطـا فروعـه من أصوله، حتى يكون التعليم مزدهرا ومحققا لأهدافه: "إن فهم المسألة الواحـدة من الفن الواحد مشترك بين من شدا إلى ذلك الفن وبين من هو مبتدئ فيه وبين العامي الذي لم يعرف علما وبين العالم النحرير..." [10]، باعتبار التعلم صناعـة شأنها شأن باقي الصناعات الأخرى كما ورد على لسان ابن خلدون،فنجاحهـا وفشلها يرتبطان بالقائمين عليها،والمعلمون هم سند هذه الصناعة، وهذا المبدأ يمثل اليوم إحدى الاهتمامات الرئيسة للمشرفين على قطاع التربية والتعليم،حيث سنت الوزارة برامج تخص تكوين المكونين،وأحدثت المراكز والهيئات لاستقبال رجال التربية والتعليم؛ وهذا كله بهدف توسيـع وتجديد معلومـات المربين،وتدريبهم على استخدام التكنولوجيا في العملية التعليمية.

 الإيجاز المفيد في تقديم المسائل العلمية وحسن الانتقاء:
دعا ابن خلدون المربين إلى عدم الاستكتارمن العلـوم الآلية التي لا ينبغـي أن توسع فيها الأنظار ولاتوسع فيها المسائل، منها على سبيل المثال لا الحصر علم النحو،وبرر ذلك بأن التعمق والاستكثـار من مسائله المقفلة سيخرجـها عن المقصود، ويصير الاشتغال بها لغوا،خاصة ونحن نعلم أن النحو العربي أنحـاء ومدارس مختلفة،وأن الهدف الأسمى منه هو معرفة صـواب الكلام من أخطائه،وإصلاح الألسنة من اللحن أو اللكنة كما قال الشاعر [11]:

النحو يصلح من لسان الألكن * والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها * فأجلها نفعا مقيم الألسن.
وهو في هذا المذهب ينحو نحو الجاحظ "ت 255هـ"الذي دعا إلى ضرورة تعليم النحو الوظيفي الذي يجري في المعاملات،والتمييز بين النحـو كعلم والنحـو كتعليم، تضمن ذلك قوله: "وأما النحو فلا تشغل قلبه( قلب الصبي) منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحـن، ومن مقدار جهل العوام فـي كتـاب إن كتبه،وشيء إن وصفه، وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به..." [12]

وعليه فإن الاشتغال والإكثار من المسائل، يصير في رأيه من باب اللغو،جاء ذلك في قوله:"... وهذا كما فعله المتأخر ون في صناعة النحو... لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلا واستدلالا،وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجهـا عن كونها آلة وصيرها مقصودة لذاتها.وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسـائل لاحاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو،وهي مضرة أيضا بالمتعلمين على الإطلاق" [13].

كما نبه ابن خلدون أيضا إلى أن الاختصار المخل سيحدث لا محالة ضررا في إيصال المعاني،والإكثـار منها في العلـوم يخـل بالتعليم: "ذهب كثيـر من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدونـون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن وصـار ذلك مخلا بالبلاغة وعسيرا على الفهم..." [14].

والرأي عندي أن هذه الأفكار التربوية التي أقرها ابن خلدون في القرن الثامن الهجري قد أكدتها اللسانيات التربوية الحديثة.

المتابعة والاستمرار في تلقين العلم وعدم الخلط بين الفنون:

ألح ابن خلدون على عدم الانتقال من مسألة علمية إلى مسألة أخرى قبل فهـم
المتعلم للمسألة الأولى، ولذا يجب عليه الاستمرار في تلقيـن المسألة الواحدة إلى أن ينتهي منها، ويتحقق أن المتعلم قد استوعبها، وحذر من انقطاع المجالس والتفريق فيما بينها؛لأن ذلك يؤدي إلى النسيـان أولا،ويؤول إلى عدم تعلـق المسائل بعضها ببعض ثانيا، جاء ذلك في قوله: "وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلـم في الفن الواحد بتفريق المجـالس وتقطيع ما بينها لأنـه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض..." [15].

كما نبه إلى عدم الخلط بين المسائل،في قوله: "... ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا،فإنها حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما،لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما..." [16]. وهو بهذا يؤكد على الجانب المنهجي في طريقة التلقين، بعدم الخلط بين علمين؛لأن ذلك من شأنه يؤدي إلى خيبة الأمل لدى المتعلم،حيث يصرف باله،ويضعف ملكته في النفس أو يؤخرها على الأقل؛ لانصراف الذهن ،مما ينبغي الاهتمام بمسائل العلم المولدة للملكة العلمية [17]. وعدم الخلط بينها.

مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين:

ينبه ابن خلدون من خلال آرائـه التربوية إلى الإقرار بمراعـاة الفروق الفردية بين المتعلمين، فالعوامـل النفسية والجسمية والبيئية تؤدي دورا أساسيا في تحديـد حجم التعلم،بحيث يتفاوت ذلك الحجم بين فرد وآخر،فالأفراد يختلفون في درجة الذكاء وفي قدرة الاستيعاب: "... وهوكما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه..." [18].

ومراعاة هذا المبدأ أكده العلـم اللسانـي الحديث؛ ذلك أن الأنـام لا يتكلمـون على منوال واحد، بل تجدهم،حتى في حـالة انتمائهم إلى المحيـط الاجتمـاعي نفسه،يختلفـون في سرعة السرد،ويتفـاوتون في رصيـدهم من المفردات [19] ويتمايزون من حيث الصـوت، ومن جملة تلك الفروق، ما يلاحـظ لـدى الناس من أن لكل واحد منهم أسلوبا ينفرد به في الإنشاء الأدبي،وفي سرعة تحصيـل العلم والمعرفة.ومن هنا طولب القائمـون على عملية التعلم ابتداء من الأنبيـاء إلى الأساتذة والمربين بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم.

الحث على الممارسة والتحلي بالتدرج والتكرار في عرض المادة:
يرى ابن خلدون أن الطريقة الناجعة في تلقين العلوم إنما يكون:" مفيدا إذا كـان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفـن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم..." [20]. فيجب على المعلم أن يذكـر للمتعلم إلا ما يستطيـع تحمله،مراعيـا قدراته واستعداداتـه على تلقي تلك المـادة العلميـة، وأن يبتعد عن التعقيد ويتقيد بالتدرج في عرض أية مسألة علميـة، باعتبار التـدرج أحـد المبادئ المساهمة في نجـاح العملية التعليمية، ويكون ذلك ببدء المعلـم بالشـيء الواضح من العلم قبل الغامض، وبالبسيط قبل المعقد،وبالجزء قبل الكل، وبالعملي قبل النظري،وبالمحسوس قبل المجرد،فلا يبدأ بالعويـص من المسائـل فيغرق في أمور لا يحتملها، فيؤدي به إلى الفشل، كما ينبغي على المعلم الاستيفاء بالشرح والبيان،ولا يترك عويصا ولامبهما ولا مغلقا إلا وضحه،وهذا في رأي " العلامة ابن خلدون" وجه التعليـم المفيـد والصحيـح، ولن يكون مثمرا إلا من خلال التكرار:"...وهوكما رأيت إنما يحصـل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك..." [21]. فالتكرار إذن مبدأ ضروري لتكوين الملكة؛ لكونه عاملا أساسيا لتحقيق عملية التعلم ،ذلك أن الملكة لاتحصل إلا بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواصه تركيبه،فهذا التحديد للملكة اللسانية من قبل ابن خلدون نراه صالحـا لأن يكـون المقابل العربي لمفهـوم الكفايـة عنــد نوام تشو مسكي، وكثرة التكرار تؤدي إلى الحفـظ الذي يزيـد صاحب الملكـة رسوخا وقوة، ولا يحصل ذلك إلا بعد فهم كلام العرب. ولعل هذا ما تقره اللسانيات التربوية الحديثة،حيث يعمل المربون حديثا بهذه المبادئ-التدرج ،والتكرار والحث على الممارسة- في تلقين العلوم.

ثانيا : شروط المتعلم:

 الإصغاء(السمع):إن المتعلـم مطـالب في بدايـة تعليمـه بالإصغـاء
لمعلمـه واستيعـاب العلـوم المختلفـة عنه قبل أن يتطـرق للاختلافـات من المذاهب، ذلك أن السمـع أو الإنصـات هـو أبـو الملكـات اللسانيـة في نظـر" ابن خلدون"،فالشيء الذي يعين المتعلم على فتق لسانه بالمحاورة والكلام والمناظرة، هو الانغماس الكلي في وسط لغوي عفوي، إذ يسمع ثم يقلد أو يردد ما يسمعه،و هذا ما طرقه" ابن خلدون" في معـرض تفسيره لقـول العامة أن اللغة للعرب بالطبع،حيث يقول:"فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجـودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطبـاتهم وكيفيـة تعبيرهم عن مقـاصدهم كمـا يسمع الصبي استعمـال المفـردات في معانيها...ثم لا يزال سمـاعهم لذلك يتجـدد في كـل لحـظة ومـن كل متكلم،واستعمـاله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكـة وصفة راسخـة ويكـون كأحدهم" [22]. فالتعليم في الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده "لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكـات وعلى حسب أسـاس وأساليبه يكون حـال من ينبني عليه." [23].

وقد أكد علم اللسان التربوي الحديث على ضرورة الاهتمـام بملكة السمـع باعتبارها الحاسة الأولى المساهمة في عملية التعلم،وهو من المبادئ اللسانية التربوية التي أقرها،ويسمى عند جمهور اللسانيين التطبيقيين"الحمـام اللغوي أو الانغماس اللغوي bain linguistique [24]، وهي تأتي في المرتبة الأولى؛ذلك أن الإنسان يسمع قبل أن يتكلم.

وهذه الملكة تحصل في رأي ابن خلدون:"... بممارسـة كلام العرب وتركـه على السمع والتفطن لخواص تراكيبه وليست تحصـل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك..." [25].

والظاهر لنا جليا أن الرجل قد أعطى السمع الأولـوية في امتلاك ناصـية العلم،معتبرا إياه أبا لجميع الملكات؛ذلك:"إن الطبيعـة وهبت الإنسان لسانـا واحدا،ولكنها وهبته أذنين...والحكمة في ذلك هي أن يسمع ضعف ما يتكلم" [26]ونجد "ل.بلومفيلد" يشـارك ابن خلدون في إعطـاء ملكـة السمـع درجـة من الأهمية، حيث استغل المنهجية السمعية الشفهية في تحليله التوزيعي للغة وفق المحورين الصرفي والتركيبي، إذ من خصائص هذه المنهجية [27]:

 الاهتمام بالمنطوق والمسموع قبل المقروء والمكتـوب ومن ثمة العمل على تنمية اللغة الشفهية
 تقديم اللغة المراد تعليمها في شكل حوار يسجل على أشرطة مغناطيسية تتحول بعد ذلك إلى مخابر اللغات.
 الاعتماد على التكرار الشفهي المكثف من أجل ترسيخ الجمل المثالية
 التكثيف من المحاكاة والحفظ ثم استعمال التمارين البنيوية.

الاستعداد :

على المتعلم الاستعداد للتعلم والتفـرغ للعلم،والابتعـاد عن إغراءات الدنيـا
وشهواتها: "فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا..." [28]. ولن يتأتى ذلك إلا بإقامة علاقة عاطفية بين المعلم والمتعلم، والتدرج بالمتعلم مع تشويقه للمادة المراد تلقينها، وهذا بعد دراسة نفسيته واستعداداته العقلية:" واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقـدم لك مقدمة تعينـك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ....ثم الصنـاعة المنطقيـة هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه..." [29]

ودعا ابن خلدون المتعلم إلى ضرورة التحلي بالمنطق والاستمطار برحمة الله متى أقفلت وأعوز عليه فهم المسائل ، فالعلم من عند الله [30].

ويعد قانون الاستعداد من المبادئ التي اعتمدها العالم "ثورندايك"في نظريتـه التعليمية،والهدف من ورائه هو توضيح معنى الارتياح والانزعاج،ورأى أنه مفيد بالنسبة للتعلم الإنساني بصورة خاصة. [31]

مرافقة وملازمة شيوخ العلم والرحلة في طلب العلم:

إن ترسيخ ملكة العلم يكون بملازمة رجال العلم،ذلك أن طرائق شيوخ العلم متعددة،فلكل طريقته الخاصة في تلقين العلـوم،وعلـى المتعلم الذي يريـد الاستزادة من العلم وتقوية ملكته ملازمة الشيوخ،والرحلة إن اقتضى الأمـر للقاء بشيوخ العلم:"فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسـوخها والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم...فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحـاء تعليـم وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرسـوخ والاستحكـام في المكان وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته..." [32].

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم صراحة في معنى قوله،أنه من سلك
طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقـا إلى الجنـة وإن الملائكة لتضـع أجنحتها رهنا لطالب العلم.

الخاتمة

وصفوة القول إن العلامة"ابن خلدون" يعد بحق موسوعة علمية،تناولت شتى حقول المعرفة العلمية،فأفكاره التربوية لاتقل أهمية عما تذهب إليه اللسـانيات التربوية الحديثة،بل يمكننا القول أن له فضل السبق إلى كثير منها ،وبخـاصة ما تعلق بطريقة التدريس،والتي نبه فيها المعلم إلى ضرورة توخي التـدرج والتكرار في عرض المـادة العلمية،والتحلي بمبدأ التشـويق ،مع مراعـاة استعدادات المتعلمين،والأخذ بعين الاعتبار الفـروق الفرديـة بين المتعلمين في أثناء تلقين العلوم،أضف إلى ذلك تمييزه الصريح بين اللغة كملكة، واللغة كصناعة؛أي بين نوعين من المعلومات – المعلومـات الخاصـة بالملكـة والمعلومات الخاصة بالصناعة-،"فالنوع الأخير هو اللغة كنظام وعلم مجرد وقوانين .ويمثل هذا النوع جانب البحث .أما النوع الثاني فهو اللغة كإنجـاز أو تحقيق فعلي في صورة كلام أو كتابة ويمثل هذا النوع جانب الاستعمال" [33] ومن ثم يمكننا وصفه بالباحث اللساني السابق لعصره،فقد تنبـه إلى عديـد من الأفكـار اللسـانية التربوية التي يدعـو إليـها علم اللسـان التربوي الحديث،وبخاصة ما تعلق بالشروط الواجب توفرها في المعلم والمتعلم،كما أسلفنا سردها في متن الورقة.

 السمع عنده "أبو الملكات"؛إذ الملكة اللسانية عنده تعني المعرفة التي يكتسبها متكلم اللغة السليقي عن لغته كلاما وفهما،ولاتحصل إلا بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تركيبه،فالإنسان يسمع قبل أن يتكلم وهذا ما تدعو إليه مختلف الطرائق المنتهجة حديثا في تعليم العلوم.

 لم يكن فضل المقدمـة"كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العـرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"على العلوم فحسب،بل كان فضلها عظيما على الآداب،فكما أفادت العلوم بموضوعاتها،ومادتها؛لأنهـا أسست علما جديدا هو علـم الاجتمـاع،فقد أفادت الآداب بشكلها وصياغتهـا وأحيث أسلوبا عربيا قديما،فقد تحدث عن الموشح، والأزجال، والبلاغة،وانقسام الكلام إلى فني النظم والنثر،وفي صناعة الشعر ووجه تعليمه ...الخ.

 إن الرجل غلبت عليه سمة المصلح الاجتماعي الذي يضحي بقوتـه كلهـا وإمكاناته في سبيل تقدم الفرد والمجتمـع على السواء؛لذلك كـان في أقـواله وأعمـاله مرآتا تعكس أو ضـاع المجتمع وحاجياته.،فهو يقوم أولا بتشخيص أمراض مجتمعه وعلله وأسقامه،ثم يشرع في الدعوة إلى الإصلاح ،بتقديم شتى الأساليب والحلول التي تستند إلى رجـاحة العقل والتفكيـر،ولعل هـذا إن دل
على شيء، إنما يدل على أصالة فكره وقدرته الإبداعية في صيـاغة فكــر إنساني أصيل ،أسهم مساهمة فعالة في المعرفة الإنسانية.

في ضوء علم اللسان التربوي الحديث - المقدمة أنموذجا –

[1المسدي عبد السلام، التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار التونسية للكتاب، ط 2،تونس،1986، ص 208 237.

[2ابن خلدون، المقدمة، ج 1، دار الجيل، بيروت، ص 589.

[3المصدر نفسه، ص 442.

[4المصدر نفسه، ص 442.

[5عبد الأمير شمس الدين، الفكر التربوي عند ابن خلدون وابن الأزرق، دار اقرأ، بيروت 1984، ص 79.

[6أبوحامد الغزالي،الإحياء طبعة عيسى البابي الحلبي، ج 3، القاهرة، 1957 ص21.

[7المقدمة، ص 428.

[8حمانة البخاري، التعلم عند الغزالي، المؤسسة الوطنية للكتاب، ص 155.

[9المقدمة، ص 597.

[10المصدر نفسه، ص 428.

[11نقلا عن السيد أحمد الهاشمي،القواعد الأساسية للغة العربية حسب منهج"الألفية"لابن مالك وخلاصة الشراح لابن هشام وابن عقيل الأشموني، دار الكتب العامة، بيروت، ص 4.

[12الجاحظ، رسائله، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط 1، مصر1979، ص 38.

[13المقدمة، ص 700.

[14المصدر نفسه، ص 588.

[15المصدر نفسه، ص 589.

[1616المصدر نفسه، ص 423.

[17محمد فاروق النبهان، الفكر الخلدوني من خلال المقدمة، الرسالة للطباعة والنشر، 1998، ص 280.

[18المقدمة، ص 589.

[19حنفي بن عيسى، محاضرات في علم النفس اللغوي، المؤسسة الوطنية للكتاب وديوان المطبوعات الجامعية، ط 3، الجزائر، ص 225

[20المقدمة، ص 589.

[21المصدر نفسه، ص 589.

[22المقدمة، ج 2، الدار التونسية للنشر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984 ص 723.

[23المصدر نفسه، ص 594.

[24ترجم عبد الرحمن الحاج صالح مصطلح"Bain linguistique " بـ"الانغماس اللغوي"وهو مصطلح عربي أصيل- ينظر بشير ابرير،الخطاب اللساني العربي بين التراث والحداثة،الملتقى الوطني الثاني"الصوتيات بين التراث والحداثة،قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة سعد دحلب، البليدة، نيسان 2002، ص 38.

[25المقدمة، ص 455.

[26نقلا عن حنفي بن عيسى، المرجع نفسه، ص 89.

[27حفيظة تازروتي، اكتساب اللغة العربية عند الطفل الجزائري، دار القصبة للنشر الجزائر، 2003، ص 91.

[28المقدمة، ص 589.

[29المصدر نفسه، ص 591.

[30(م، ن) ص 592.

[31Thorndike.E.L Human learning p1.

[32المصدر نفسه، ص 598.

[33محمد صاري، الفكر اللساني التربوي في الترات العربي مقدمة ابن خلدون نموذجا الملتقى الوطني الثاني"الصوتيات بين التراث والحداثة،جامعة سعد دحلب،نيسان 2002 ص 93.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى