الأربعاء ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم فتحي العابد

كانون بيتنا

قضيْنا سنين في ريف ناء أشبه بصحراء، تكيَفنا مع هوائه، وعجاجه، وترابه.

لم يكن لدينا وقتها في ليل شتائه من مدفئة سوى كانون نار صنعته زوجة أبي بإشراف جدتي رابحة رحمهما الله، وكانت قد جلبت طينه أمي من ربوة في آخر نقطة من أرض والدي تسمى "مقطع الطين"..

كانت أمي أو زوجة أبي يتداولا على جمع الحطب وقطعه قطعا صغيرة من كومة بجانب زريبة الشياه.
كنا نحمل الكانون فارغا قبيل الظلام بقليل خارج البيت ونشعل فيه الحطب، لنعود به إثر غياب الشمس مباشرة، مليئا بالجمر الذي يصلي وجوهنا حتى ندخل به للبيت، بعد أن نشعل مصباح زيتي ضوءه خافت، يصنع ظلالا وهمية لموجودات الغرفة، ويضخمها.. فنجتمع كلنا، من جدتي وزوجة أبي وأمي وأبي وأنا وإخوتي الخمسة حول الكانون ندفأ به أجسامنا المرتعشة من البرد، وكانت الأيدي تتسابق أيها تكون فوق الجمر ليجري الدم مجددا بها بعد أن يكون قد قارب على التجمد.

كانون بيتنا لم يكن مجرد وسيلة للتدفئة بل كان أبعد من ذلك بكثير، كان تراثا وأسلوب حياة لا يعرفها إلا من عاش تلك الفترة وجلس مع أهله حول الكانون.

كان الكانون يجمع كل العائلة حوله، إذ كلما ابتعد أحد عن كانون النار سيشعر بالبرد حتى لو مترين لذلك كان يجبرنا على الجلوس قريبا منه، وبغياب التلفزيون كنا نتبادل الحديث، والألغاز والنكات، ونثرثر في كل شيء، فكانت جدتي تحدثنا عن الغول وحكايات أم السيسي..

وفي الأثناء كانت جدتي تحضر الشاي على الجمر، ومن من محبي الشاي لايحب تحضيره على الجمر، وكيف أن له نكهة مختلفة وأكثر لذة، أو نقلي اللوز، أو حبات عباد الشمس ما يساعد في إطالة السهر والسمر، لأنه في فصل الصيف والإبتعاد عن الكانون كانت تقل تلك الجلسات التي تضم الجميع مرغمين.

كنا نمنع نحن الصغار من احتساء الشاي بالنعناع لأنه يضرنا، أو نصبح مدمني شاي ومايتبعه من وجع في الرأس حسب فقهائه. ورغم المنع كنا نحبذ الجلوس قرب البراد وهو يهدر والزبد يتطاير من تحت غطائه المنتفض، أو يوشوش إذا انسدت منافذه وكانه يستجدي خلع غطائه.. وحتى وإن سمح لنا بشرب الشاي فيخلط بالماء حتى يقل تركيزه، نترشفه ونحن نتلذذ به كأننا أمام خمر معتق منذ عشرات السنين.

اليوم اختفى كانون النار من بيوتنا، بعد أن سافر كل من كبر منا إما للدراسة وبعدها لسوق الشغل أو خارج حدود الوطن أصلا..

اختفى الكانون فاختفى معه ليس الشاي فقط، بل تجمعنا.. ولم نعد نجتمع إلا ما ندر وبعد اتصال مسبق وربما في المناسبات فقط، اختفى كانون النار، وبراد الشاي على الجمر، وأخذا معهما النكهة التي يجهلها أبني ويتشوق لعيش اشبه بتلك عندما أقص عليه ماضينا، لكن بطريقته العصرية.

اختفى الكانون فاختفت معه الآذان الصاغية التي كانت تستمع لأحاديث الكبار فتتعلم منها، اليوم أنا أجلس بجانب ابني لأتعلم منه الألعاب الإلكترونية التي حولت كثيرا من أبنائنا لآلات، ليس لديهم وقت للإستماع لنا.. ولا تحمل نكهة القص من جيل مضى.

كم أنا مشتاق لكانون بيتنا.. بيتنا الذي كان عند هبوب الرياح يدلف ترابا وبردا أثناء الليل من عدة شقوق في الباب أو في الشباك. حاولنا سدها بخرق قماش أكثر من مرة ففشلنا.. فصرنا نسمع صوت صفير الريح متتاليا وكأنه عزفا موسيقيا ننام على أنغامه بعد أن نكدس الغطاء على أبداننا، ونستغرب بغياب ذلك العزف الشتوي المنفرد.
لم أكن أعلم أبدا أنه سيأتي يوم أشتاق فيه لكسرة الشعير المطهوة في الطابونة.. أو لذلك العزف الطبيعي الذي من الله به علينا..

ربما جراء غرقنا في مياه الهجرة، أو تلوث هوائنا من "الرومية" مع مرور الأيام والأعوام..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى