الجمعة ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
أصل اللغة ونشأتها من خلال كتاب

«المزهر» لجلال الدين السيوطي

سعيد العيماري

تناول «جلال الدين السيوطي» في مؤلفه «المزهر» مسألة أصل اللغة ونشأتها: أهي توقيف ووحي وإلهام، أم أنها اصطلاح وتواطؤ وتواضع؟ مكتفيا بنقل ومقابلة أقوال عدد من العلماء وحججهم في الاستدلال عليها والدفاع عنها لدحض القول المخالف أو المعارض، دون أن يتدخل بتعليق أو موقف أو رأي خاص به.

وقبل أن يعرض للموضوع، بدأ بالإشارة إلى التعريف الذي وضعه «ابن جني» للغة في كتابه «الخصائص»، باعتبارها: «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»، مبينا تصريف لفظ «اللغة» ومعانيه المعجمية، مضيفا إلى ذلك التعريفات التي خصها كل من "إمام الحرمين" و"ابن الحاجب" (حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى) و"الأسنوي" (اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني).

لينتقل بعد ذلك إلى رصد أقوال العلماء في موضوع نشأة اللغة وأصلها، مركزا على وجه الخصوص على موقف "ابن فارس" وابن جني"، إضافة إلى مواقف أخرى لكل من الإمام "فخر الدين الرازي" وإمام الحرمين "عبد الملك بن عبد الله الجويني" والإمام "الغزالي" و"ابن الحاجب".

وهكذا بدأ ببسط موقف أهل السنة - الذين يقولون بالنقل – من خلال "ابن فارس" الذي يرى أن أصل اللغة توقيف ووحي، مستدلا على ذلك بما جاء في الآية الكريمة "وعلم آدم الأسماء كلها"، حيث فسر "ابن عباس" الأسماء باعتبارها كل ما يتعارفه الناس. وقد جعل من هذا التفسير مذهبه، فرفض ربط معنى "الأسماء" بأسماء الملائكة، وفند حجة اللغويين بخصوص قوله تعالى "ثم عرضهم" وليس عرضها أو عرضهن، مبينا كذلك إجماع العرب على الاحتجاج على لغة القوم دون لغة اليوم ، يقصد زمانه، مع تأكيده على أن القول بتوقيفية اللغة لا يعني أنها جاءت جملة واحدة، وإنما علم الله منها ما شاء لآدم ثم بعده الأنبياء إلى أن انتهى الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لم تحدث لغة بعده. وأضاف أنه لم يبلغه عن العرب ولا الصحابة تواضعهم أو اصطلاحهم أسماء على أشياء أو اختراعهم لغة وإحداث لفظة لم تتقدهم، في إشارة إلى أن اللغة وصلت إليهم تامة، معتبرا عدم انقضاء وزوال حوادث العالم إلا بزواله وانقضائه حجة أخرى على مذهبه التوقيفي.

بعد ذلك عرض موقف المعتزلة ، وهم من أهل العقل، من خلال "ابن جني" الذي أكد في البداية على أهمية الموضوع وحاجته إلى فضل تأمل وإعمال العقل، ليبين إثر ذلك رأيه وحججه للدفاع عنه ودحض البراهين المضادة.
وقد أعلن "ابن جني" أن مذهبه يقول بكون اللغة تواضع واصطلاح، بالرغم من كون أستاذه " أبو علي الفارسي" قال بأنها من عند الله استنادا إلى الآية السالفة الذكر، وهو ما عده ليس بموضع خلاف، ذلك أن تأويل الآية هو أن الله عز وجل "أقدر آدم على أن واضع عليها". وفُسِّر هذا أيضا بالقول إن الله علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات، فتكلم بها ولده إلى أن تفرقوا وعلقت بكل واحد لغة دون أخرى. أما تأويل لفظة "أسماء" فالأمر بالنسبة إليه لا يتعلق بالتقسيم النحوي للكلام (أسماء، أفعال، حروف)، وإنما تجمع اللفظة هذه الأقسام جميعا، اعتبارا لقوة الأسماء وأولويتها، ولذلك اكتفي بها دون غيرها.

وأضاف حجة أخرى للقائلين بالتواضع فحواها أن أصل اللغة قوامه أن يجتمع حكيمان فأكثر، فيضعوا سمة ولفظا للأشياء، بحيث إنه بمجرد تسمية الشيء لا يحتاج إلى إحضاره إلى مرآة العين، فإذا ذكر اللفظ علم المعنى. ونجد هذا الاستعمال في المصنوعات والمخترعات، إذ توضع للآلات الجديدة مسميات، والأمر يشترط في بدايته المشاهدة والإشارة والإيماء بالجارحة. وهو ما ينسجم مع القول بكون اللغة تواضع، ذلك أنه لا يمكن أن نتصور مسألة الإيماء بالجارحة في حق الله الذي من صفاته القديم الذي لا جارحة له، فبطلت أن تصح المواضعة منه، وإن كان البعض قد جوز أن ينقل الله اللغة التي تواضع عليها عباده، كأن يقول الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا، والأمر نفسه يمكن أن يقوم به عباده.

وتمت الإشارة أيضا إلى من اعتبر أصل اللغات إنما هو من الأصوات المسموعات، أي محاكاة الطبيعة، كدوي الريح وخرير الماء ونعيق الغراب... وهو بالنسبة لابن جني وجه صالح ومذهب متقبل.

ويبدو "ابن جني" مترددا في القول بطبيعة نشأة اللغة، خاصة وأنه أكد على طول بحثه في هذا الباب، ذلك أنه كلما تأمل اللغة العربية وخصوصياتها المتميزة وقرأ الأخبار المأثورة، وجد نفسه يقر بأنها توقيفية ووحي من الله سبحانه. بيد أنه يقف ضد هذا المذهب وهو يتأملها ويستحضر إمكانية خلق الله من كان ألطف أذهانا وأسرع خواطر وبإمكانه وضع اللغة، فيقول حينها إنها تواضع واصطلاح. وأي الوجهين خطر له في حينه قال به.

أما "فخر الدين الرازي" ، فقد عرض للمسألة انطلاقا من تبيان مذاهب علماء مختلفين حول دلالة الألفاظ على المعاني بين من يعتبرها دالة:
بذاتها.
بوضع الله إياها.
بوضع الناس.
البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس.

وقد اعتبر المذهب الأول فاسدا، ورأى أن المحققين متفقين في باقي المذاهب، وفيها من يقول بالتوقيف ودليله إمكان خلق الله تعالى الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني، ومن يقول بالتواضع والاصطلاح حيث يتولى واحد أو جمع وضع الألفاظ لمعان تفهم لغيرهم بالإشارة، كما تفعل الوالدات مع أطفالهن.

وأورد بعد ذلك احتجاج كل فريق:

أصحاب التوقيف، واحتجوا بأربعة وجوه:

قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" يفرض اعتبار الأسماء كلها معلمة من عند الله، والاسم ما كان علامة .
الله تعالى ذم قوما بإطلاقهم أسماء غير توقيفية استنادا إلى قوله تعالى: "إن هي إلا أسماء سميتموها"، بمعنى باقي الأسماء توقيفية.

اختلاف الألسن أي اللغات، يقول تعالى : "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم".
عدم إمكانية اعتبار اللغات اصطلاحية لأنها لو كانت كذلك لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة، وهذه بالنسبة لهم حجة عقلية.

غير أن الرازي قدم جوابا عن كل حجة، فالأولى يرد عليها بالقول إن المراد من تعليم الأسماء هو الإلهام إلى وضعها، حيث إن التعلم يترتب عليه العلم، وهي بذلك ليست وحيا. أما الثانية فالمقصد من الآية تسمية الأصنام وليس الأشياء. وجواب الثالثة أنه ليس المراد من الألسن اللغات، فقد تعني مخارج الحروف أو القدرة عليها. وبالنسبة للحجة الرابعة فالاصطلاح لا يستدعي تقدم اصطلاح آخر، فالوالدان يعلمان الطفل دون سابق اصطلاح.

أصحاب الاصطلاح، وقد أتت حججهم على وجهين :

الوجه الأول يذهب إلى أن افتراض اعتبار اللغة توقيفية يستلزم تقدم واسطة البعثة بين الله والبشر، لاستحالة خطاب الله مع كل أحد، والآية تقول "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، وهو ما يعني أن اللغة متقدمة على البعثة.
الوجه الثاني يؤكد أن القول باعتبار اللغة توقيفية يستدعي خلق الله تعالى علما ضروريا في العاقل أو في غير العاقل أو بألا يخلق علما ضروريا أصلا، وكل ذلك من جهتهم باطل.

ولهذه الحجج جواب بالنسبة للرازي، فالوجه الأول لا يسلم فيه بتوقف التوقيف على البعثة، إذ يجوز أن يخلق الله العلم الضروري لوضع الألفاظ لمعنى معين. أما الوجه الثاني فجوابه أن بطلان التكليف يخص المعرفة وليس سائر التكاليف، كما أنه يجوز أن يكون الإله معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء.

وبالنسبة لمسألة "ثبوت اللغة" فقد ذهب "أبو الفتح بن برهان" إلى التأكيد على اختلاف العلماء في الموضوع، ذلك أن المعتزلة يقولون بثبوت اللغة بأسرها اصطلاحا لأن اللغات – عندهم – لا تدل على مدلولاتها كالدلالة العقلية، ولذلك يجوز اختلافها، وقد عد ذلك بناء على أصل فاسد لجواز خلق الله العلم بذاته ضرورة. أما طائفة أخرى فتعتبرها تثبت توقيفا.

بينما رأى "أبو إسحاق الإسفرايني" أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع يثبت توقيفا، وغير ذلك جاز أن يثبت توقيفا أو تواضعا. واعتبر ذلك أيضا أمرا باطلا لأن الإنسان يمكنه أن يفهم غيره معاني الأسامي، كالطفل الذي ينشأ غير عالم بمعاني الألفاظ، ثم يتعلمها من الأبوين من غير تقدم اصطلاح.

وقال القاضي "أبو بكر" بجواز الثبوت توقيفا واصطلاحا، كما يجوز أن يثبت البعض توقيفا والبعض اصطلاحا، والكل ممكن. وبخصوص كيفية الوقوع فهو متوقف.

واعتبر "إمام الحرمين عبد الملك الجويني" العقل يجوز التوقيف والاصطلاح معا، بدليل أن الله تعالى أثبت في الصدور علوما بديهية بصيغ مخصوصة بمعاني وهو ما يجعلها توقيفية الوقوع، كما أنه من الممكن أن يحرك الله في نفوس العقلاء للاصطلاح، فيعلم بعضهم بعضا ... وهو المسلك الذي تنشأ وفقه اللغة عند الطفل.

وأشار الإمام "الغزالي" إلى أن هناك من رأى اللغات اصطلاحية، وآخرون قالوا بكونها توقيفية. فالتوقيف يثبت بقول الرسول، ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة، كما أنه يجوز أن يثبت الله تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات، ثم يتعلم البعض عن البعض. بينما يعرض الاصطلاح بعد دعاء البعض البعض بالاصطلاح من خلال عبارة يفهم منها قصد الاصطلاح.

أما ما تقوله الآية (وعلم آدم الأسماء كلها) فظاهر كونه توقيفيا، كما يحتمل كونه مصطلحا عليها من خلْق الله تعالى قبل آدم.

ويرجح "ابن الحاجب" قول "أبي الحسن الأشعري"، باعتبار المتوقف إن توقف لعدم القطع فهو مصيب، وإن ادعى عدم الظهور فغير مصيب. وجوز أيضا صدور اللغة اصطلاحا، وإن كان رأي المحققين يقول بجواز الأمرين معا.

وهكذا، يظهر لنا بوضوح أن "السيوطي" قد تناول موضوع نشأة اللغة وثبوتها انطلاقا من نقله مختلف المواقف والمذاهب التي تقول إما بالتوقيف أو بالتواضع أو هما معا، دون أن يعرض أو يبسط خلاصة أو استنتاجا من شأنه أن يؤدي بنا إلى القول بموقف محدد. كما يبدو أن تباين المذاهب وتعددها مرده اختلاف العقيدة التي تشكل عمود الرأي والموقف، والحال أن هذه المسألة تتطلب دراسة موضوعية تبحث في جوهر الظاهرة ومضمونها، بغض النظر عن أية خلفية أو نزعة عقائدية.

سعيد العيماري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى