السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد دعدوش

الجدوى الاقتصادية للبحث العلمي

لقد جرت عادة المستثمرين ورجال الأعمال على إجراء دراسات الجدوى الاقتصادية لأي مشروع يقدمون على الاستثمار فيه، ويتم ذلك عبر حساب تكاليف المشروع بكافة أشكالها (المتغيرة والثابتة)، ثم مقارنتها بالعوائد المتوقعة خلال فترة زمنية محددة. وفي بعض الأحيان، تضاف بعض الاعتبارات الأخرى غير المادية كالاجتماعية والقومية والأخلاقية، والتي لا يمكن قياسها حسابيا، بل يتم إعطاؤها عددا من النقاط حسب أهميتها، بهدف تقدير قيمتها أثناء إجراء المقارنة.

ولكن الانقلاب الذي يجري اليوم في معادلة الاقتصاد الحديث قد زاد من تعقيد هذه المعادلة، إذ لم تعد عناصر الاستثمار التقليدية من الأرض والعمل ورأس المال معمولا بها اليوم، بل أصبح التركيز منصبا على كل من الإدارة الفعالة والتدريب العالي والمعرفة المتجددة، كما أن احتكار المعلومات بات عملة صعبة في ميدان الاستثمار المعاصر، مما أعطاها قيمة رمزية عالية، وجعلها موضع اهتمام الحكومات والمؤسسات، ودفع بالقوانين الدولية للتحرك في سبيل حماية حقوق ملكيتها.

ومن هذا المنطلق، نجد أن قيمة معظم السلع المتداولة في التجارة الدولية المعاصرة تتحدد بناء على كمية ونوعية التقنية المستخدمة في إنتاجها، ولا يقتصر ذلك على قطاعي الصناعة والخدمات فحسب، بل يمتد إلى قطاع الإنتاج الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي، مما يعزز من وجود العديد من الدول الصغيرة جغرافيا وديموغرافيا على الساحة الدولية، ويسمح لدولة مثل كوريا الجنوبية بتبوء المركز الحادي عشر عالميا كأحد أكثر الدول تقدما وثراء في غضون أربعة عقود، بالرغم من فقرها النسبي في الموارد الطبيعية.

وبناء على ما سبق، تتضح لنا أهمية البحث العلمي للاقتصاديات الوطنية، ودراسة الجدوى الاقتصادية لمشاريع البحث العلمي، تماما كما تتم دراسة الجدوى الاقتصادية لأي مشروع استثماري تقليدي. ولعل أهم الشروط الواجب توفيرها لتعظيم فوائده تتلخص في النقاط الثلاث التالية:

1- اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب بدءا من مرحلة التعليم المدرسي وانتهاء بعملية التخصص العلمي العالي، إذ بات من الضروري للباحث أن يكون الاختصاص الذي يختاره واقعا في صلب اهتمامه، وأن يكون إنتاجه العملي والبحثي ناشئا عن رغبة شخصية وشعور تام بالرضا وتحقيق الذات، ولا يتأتى ذلك إلا بالتأكد من مواءمة الاختصاص من الميول النفسية والشخصية ومن القدرات العقلية والجسدية. علما بأن الإبكار في الكشف عن هذه الإمكانيات لدى الباحث في سنوات عمره الأولى ستضاعف من المردود المأمول تحصيله فيما بعد، فضلا عن توفير الكثير من الجهود والتكاليف التي يتم هدرها عادة أثناء مرحلة التعليم في سبيل التخصص، والتي غالبا ما يتم تحمل أعبائها من قبل الحكومة.

2- تعميق التخصص في المجال البحثي الذي يختاره الباحث، وعدم التبحر في العموميات والفروع الأخرى التي تتقاطع مع مجال التخصص، فقد أفرز التوسع العلمي المعاصر في مختلف مجالات العلوم أعدادا هائلة من الاختصاصات الدقيقة، والتي يمس كل منها جانبا صغيرا من التراكمات العلمية المعروفة. وهكذا أصبحت الثقافة المنشودة لدى المثقف المعاصر تقتضي أن يعرف عن شيء كل شيء، وعن كل شيء شيء.

3- ضرورة توافق البحوث العلمية ومناهج التعليم مع الواقع المعاش، وهذه مشكلة تعاني منها الدول النامية بشكل كبير، إذ غالبا ما تعتمد هذه الدول في بناء نهضتها على العلماء والباحثين الذين يتم إيفادهم إلى دول الغرب، فيعودون إلى أوطانهم وقد تشربوا الفكر والثقافة الغربيين، وكثيرا ما يؤدي ذلك إلى نوع من الاغتراب الثقافي الذي يعيشه هؤلاء المثقفون في مجتمعاتهم، وينسلخون بشكل أو بآخر عنها على الرغم من حاجتها الماسة للإفادة من علومهم وخبراتهم.

ومن جهة أخرى، كثيرا ما يقع الباحثون في مشكلة التعقيد الأكاديمي التخصصي في غضون بحثهم في القضايا الاجتماعية العامة، وتشيع هذه الظاهرة على وجه الخصوص لدى الباحثين في مجال العلوم الإنسانية على اختلاف مشاربها، مما يزيد من اتساع الهوة الفاصلة بين أبحاثهم وبين الواقع، ويقلل من أهمية نتائجها. ويمكننا الحد من عواقب هذه المشكلة عبر دفع الباحثين للانخراط في المجتمع بشكل أكبر، وتوسيع دائرة البحث لتعم شرائح واسعة من الأفراد والمؤسسات المختارين كموضوع للبحث، وأيضا من خلال توعية عامة الناس لجدوى البحث العلمي وفوائده الاجتماعية، إذ كثيرا ما تلقى الأبحاث نفورا من قبل العامة وتشكيكا في جدواها، وذلك للأسباب المذكورة. وفي هذا يقول العالم برناردو هوساي الحاصل على جائزة نوبل في الطب أن لا وجود لعلم تطبيقي إذا لم يكن هناك تطبيق له.

وفي هذا السياق، تظهر مشكلة الروتين والجمود في عملية البحث العلمي في العالم العربي، إذ تشير الإحصائيات إلى أن حوالي 99% من إجمالي الإنفاق على البحث العلمي ذات مصدر حكومي، حيث يحجم القطاع الخاص عن المساهمة في تمويل البحوث والتطوير، إما بسبب قصور الأنظمة عن السماح لهم بذلك، أو بسبب نقص الوعي لدى المستثمر العربي بأهمية البحث العلمي، وميله نحو استيراد التقانة الجاهزة في ظل توفر السيولة المالية الكافية ونقص الخبرات الوطنية الكفوءة، ولا شك في أن الاستمرار على هذا النحو سيزيد من صعوبة حل المشكلة، وسيوقع بلادنا في أزمة تخلف حضاري مزمنة.

من جهة أخرى، تظهر أزمة الإنفاق على البحث العلمي في اقتصار معظمها على المخصصات الإدارية قليلة الجدوى، إذ يتم إنفاق ما نسبته 76% من مجموع ميزانية البحث العلمي في الوطن العربي على المخصصات والأجور المدفوعة للباحثين والعاملين في هذا المجال، في الوقت الذي تقل فيه هذه النسبة عن 20% في الدول المتقدمة، حيث تخصص النسبة الباقية لبناء وتطوير البنى التحتية لمؤسسات البحث وتجهيزاتها التقنية المكلفة.

ومن المعروف أن عملية تمويل البحث العلمي تعتمد على مصادر أربعة مهمة، أولها التمويل الذاتي وهو الذي يعتمد على مخصصات المؤسسة البحثية، وهي غالبا ما تكون محدودة في نطاق ضيق حتى في أكبر جامعات العالم، كما تتوجه غالبا لتغطية النفقات الأساسية لعملية البحث العلمي من تجهيزات ونفقات إدارية وتكاليف نقل واتصال ومنح دراسية للمتميزين وغير ذلك. ثم يأتي التمويل الدولي والقائم على التبرعات واتفاقيات الشراكة ومنح الدراسة التي تقدمها الهيئات والمنظمات والدول المتقدمة إلى دول العالم الثالث. والمصدر الثالث هو التمويل الحكومي لكل دولة على حدة، وأخيرا هناك التمويل الخاص الذي تقدمه المؤسسات والشركات والأفراد، والذي يأخذ الطابع التجاري الاستثماري أو الخيري في بعض الأحيان.

لقد أدرك العالم المتقدم أهمية البحث العلمي في بناء القوة الاقتصادية في العصر الحاضر، وباتت الدول الصناعية تعول الكثير على إنفاقها السخي على البحث العلمي، إذ بلغت حصتها من الإنفاق العالمي في عام 1990 حوالي 73% وبمبلغ قدره 450 مليار دولار، وهي تتوقع بالطبع أن تجني مكاسب أكبر بكثير بعد توظيف جهود علمائها في تطوير اقتصاداتها، حيث ينادي البنك الدولي منذ أواخر السبعينات بمفهوم استرداد تكلفة التعليم العالي بالكامل، وألا تتحمل الدول أعباء مالية في إنفاقها على التعليم العالي إلا في حدود دنيا، حيث يتوقع استرداد كامل النفقات التي يستهلكها الطالب أثناء دراسته، عبر توظيف خبرته العملية في بناء اقتصاد بلاده، والتي يتوقع أن تكون محصلتها أعظم من التكاليف التي أنفقت على تحصيلها، وبكلمة أخرى فإن عملية التعليم والتدريب في الدول المتقدمة يُنظر إليها اليوم على أنها استثمار مباشر طويل الأمد.

وهذا أمر يصعب تحقيقه في بلادنا على أي حال، إذ غالبا ما يعتمد الطالب على التعليم الجامعي الحكومي، والذي لا يتصف بمجرد قلة تكاليفه أو حتى بمجانيته فحسب، بل أيضا بتخلفه عن التطور العالمي، فضلا عن جمود أساليبه التدريسية، وشيوع أنظمة البيروقراطية الحكومية في مؤسساته، والذي يؤدي في مجموعه إلى تعميق حالة العزلة التي يعيشها العالِم والمثقف منذ بداية مرحلة تحصيله العلمي، وتحول العلم لديه إلى مجرد وسيلة لتحصيل المال الذي يؤمّن له حد الكفاف، أو مطية لاعتلاء المناصب الوظيفية في أحسن الأحوال.

وهكذا نجد أن مشكلة البحث العملي في بلادنا العربية قد دخلت بالفعل في حلقة مفرغة، فهي من جهة عاجزة عن تحقيق نتائجها المتوخاة بسبب ضعف الموارد والتخلف الاجتماعي والفساد الإداري، كما أنها مغرقة في البعد عن الواقع لانسلاخ أصحابها عن مجتمعاتهم واختلاف مرجعياتهم الثقافية والفكرية المرتبطة بالغرب من جهة أخرى.

ولا خلاف على أن حل هذه المعضلة يستلزم جهودا كبيرة من قبل الجميع، ويبدأ ذلك بالضرورة من الوعي الاجتماعي والإداري بأهمية البحث العلمي للدولة والمجتمع، وضرورة حياده وموضوعيته، ويستتبع ذلك العمل على تهيئة المناخ العلمي للباحثين، عبر تزويد مراكز البحث والدراسات باحتياجاتها، وعزلها الإداري عن القيادات السياسية والفكرية لضمان حد أعلى من الموضوعية، وإفساح المجال للشركات والمؤسسات التابعة للقطاع الخاص بالاستثمار في مجال البحث العلمي، مع توفير التسهيلات الكافية لرفد هذا القطاع الهام بكل احتياجاته، ثم الربط بين كافة المؤسسات البحثية والجامعات لضمان التوافق والتعاون المثمر، وفتح قنوات الاتصال وتذليلها للباحث في سبيل الحصول على المعلومة بطريقة ميسرة.

يبقى أن نشير هنا إلى أن شيوع روح الاتكالية لدى المواطن العربي، واعتياده على الاكتفاء بما تقدمه له الدولة من تعليم مجاني ووظيفة مضمونة، قد تسببا في إضاعة الكثير من فرص التطوير الذاتي والرغبة في الإنجاز لديه، مقارنة بما نجده لدى الفرد العادي في الدول الأخرى المتقدمة، وتتشابه ذلك في كل من الدول العربية التي انتهجت النهج الاشتراكي، والأخرى التي اختارت خطها الليبرالي الخاص والذي يعطي المواطن الكثير من الامتيازات بسبب وفرة الموارد المادية لديها كعوائد من صناعة النفط. ولا شك في أن هذه الدول على اختلاف توجهاتها قد بدأت مؤخرا في الانتقال التدريجي نحو التخفيف من وطأة هذا الاتكال المرضي لدى المواطن، وبدأنا نجد بالفعل بوادر ذلك التوجه العقلاني لدى المواطن العربي في اعتماده على نفسه واكتشاف طاقاته، ولعل هذه المشاهدات الطيبة على الرغم من قلتها ستشكل فاتحة خير لمجتمعاتنا العربية التي عانت ركودا ثقيل الوطأة طيلة العقود الماضية، وستدفعنا للتفاؤل في مستقبل أفضل، في عالم متطور لا هوادة فيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى